المالانهاية هي مفهوم رياضى يستشكل علينا فهمه ولا نستسيغه بسهولة. ومكمن الصعوبة هو أن عقولنا محدودة. فكيف يمكن لعقلنا المحدود ان يتصور مفهوما لانهائيا كالمالانهاية حتى لو كان هذا المفهوم رياضيا فقط؟ وسنستعرض اليوم اربع حقبات زمنية مختلفة لنري كيف ان هذا المفهوم كان وبقي عصيا على الفهم. وهذه المراحل الزمنية هى المرحلة القديمة وبداية عصر النهضة وقبيل العصر الحديث ثم زمننا اليوم.
دعونا نبدأ قديما بعصر الأغريق. حيث سبب لهم تصور المالانهاية مشاكل معقدة. وكان مصدر هذه المشاكل ما يعرف بالمالانهايتين الصغري والكبرى. وقد سبق لنا منذ فترة ان تحدثنا عن المالانهاية الصغرى والمالانهاية الكبرى فدعونا نلخص ذلك مرة اخرى بايجاز شديد.
المالانهاية الكبري هي المالانهاية اللتى نعرفها اليوم. وهى قيمة أكبر من اى رقم يمكننا تصوره مهما كان هذا الرقم كبيرا. اما المالانهاية الصغرى فهي العدد الحقيقى اللذي هو جار الصفر من جهة اليمين مباشرة. فما اسم ذلك العدد؟ لا يمكن ان يكون الصفرنفسه لأنه لا يمكن ان يكون جارا لنفسه. ولا يمكن ان يكون العدد واحد لاننا يمكن ان نجد عددا واحدا على الأقل أقرب الى الصفر من الواحد وهو عدد فى منتصف المسافة وهو العدد 0.5. ومرة أخري ليس العدد نصف هو أقرب جار للصفر لأننا مرة اخرى بدورنا يمكننا أن نجد عددا واحدا على الأقل يقع بين النصف والصفر وهو العدد اللذي يقع فى منتصف المسافة بينهما وهو العدد ربع. وبالمثل يمكننا ان نجد العدد ثمن ثم العدد واحد على ستة عشر وهكذا دواليك! واذا كررنا هذه العملية مالانهاية من المرات -المالانهاية الكبرى- سنصل الى اصغر قيمة يمكننا تصورها وهى المالانهاية الصغرى. ونحن اليوم فى المدارس والجامعات استبدلنا مصطلح المالانهاية الصغرى بمصطلح اخر طوره الألمانى فايرشتراس وهو النهاية اللتى تئول الى صفر.
وقد استغل الفيلسوف اليونانى القديم زينون هذه النقطة لصالحه وصنع اكبر معضلة واجهت الفلاسفة والرياضيين لقرون طويلة وهى معضلة زينون وفحوى هذه المتناقضة هو اننا لكى نغادر مثلا الغرفة اللتى نحن موجودون بها فعلينا ان نقطع المسافة الى نصف الغرفة ولكي نصل الى نصف الغرفة علينا أن نقطع ربع الغرفة الى اخره. اي اننا لكى نغادر الغرفة علينا ان نقطع مالانهاية من المسافات المختلفة. واذا كانت كل مسافة تتطب القدر اليسير من الزمن فان مالانهاية من المسافات سوف تتطلب فى النهاية مالانهاية من الزمن وسينتهى بنا الحال اننا لا نستطيع ان نغادر الغرفة ابدا!
وكان أبرز من رد علي هذه المعضلة الفيلسوف العظيم ارسطو اللذي أسس لمدرسة هامة شكلت وعي العلماء والمفكرين فى الماضى البعيد والمتوسط والقريب بل والزمن الحالي. وكان على الجانب الاخر مدرسة استاذه افلاطون اللتى لازالت حتى اليوم تتمتع بشعبية أقل بين المفكرين و العلماء.
فلسفة افلاطون تدور حول أن المعرفة مصدرها هو العقل البشري وكل شئ موجود فى رأسنا. فقط علينا ان نجده ونكتشفه. اما أرسطو فكان رأيه ان المعرفة مصدرها هو الواقع. ولكي نطلب المعرفة فعلينا ان نخرج للحياة لنطلب المعرفة والحقيقة فيها. ولذلك كان رد أرسطو على معضلة زينون ان تصورات كالمالانهاية الكبري والمالانهاية الصغري هى عبارة عن أوهام موجودة في العقل فقط لكنها غير موجودة فى الواقع. بالتالى فهى مشكلات غير حقيقية غير واقعية ولا يمكن ان تحدث ابدا . ولذلك بامكاننا ان نغادر الغرفة اللتى نحن موجودون بها دوما ولا نحتاج الى زمن لانهائى كي نفعل ذلك.
ولتوضيح تلل الفكرة دعونا نضرب التشبيه التالي: تخيل انك تجلس بداخل قطار يبدأ حركته وانت تنظر من النافذة. فسوف تشاهد رصيف القطار يتحرك وأعمدة الكهرباء تتحرك والأشجار تتحرك. لكنك سوف ترفض ذلك بذكائك وتقول ان ماتراه هو مجرد خداع بصر. لان لا يمكن لكل تلك الأشياء ان تتحرك. ولكن ألاقرب للمنطق هو ان القطار اللذي انت جالس به هو اللذي يتحرك. مع ذلك وبالرغم من كل هذا ستبقى عينك ترى الأشجار وأعمدة الكهرباء تتحرك ولن تستطيع أن تجبرها على ان تري خلاف ذلك مع ذلك سترفض حكمها لاسباب منطقية وذكائية أعلي. فما تراه هو مجرد خداع حواس وخداع نظر. وكذلك فليست الحواس فقط هي اللتى قد تسقط فى هوات الخداع . بل أحيانا كذلك المخيلة والعقل ايضا فهما قد يتصوران اوهاما غير حقيقية لكن باستخدام ذكاء أرهف ومنطق أقوى يمكننا ان نرفض هذه الخدع العقلية. هكذا كان منطق ارسطو.
لكن بعد مرور الزمن وبالرغم من بقاء الاتجاه الأرسطي مهيمنا حتى اليوم ضعفت حجة ارسطو. فالرياضيات بشكل عام تحررت من قيد ربطها بالواقع وتم اكتشاف الأعداد السالبة وغير الحقيقية والتخيلية والمركبة. كما ساد الاعتقاد بأن الرياضيات منتج من منتجات العقل فاذا حدث خلل هنا او هناك فلابد من البحث عن حل من خلال العقل نفسه . اي لا بد من البحث عن مخرج عقلي لمعضلة زينون
فتم استحداث مفهوم النهاية الرياضي وتم استبدال المالانهاية الصغرى بالنهاية اللتى تئول الى صفر كما تم استبدال المالانهاية بالنهاية اللتى تئول الى المالانهاية. اذن تم تخفيض رتبة المالانهاية الكبري من مالانهاية حقيقية actual infinity -مالانهاية بالفعل كما تقول ترجمة أخري- الى مالا نهاية ممكنة potential infinity – مالانهاية بالقدرة كما تقول ترجمة أخرى -وتلك المالانهاية الممكنة هى اي رقم يمكننا نتصوره مهما كان هائلا. وقنع الرياضيون بتصور المالانهاية بالقدرة وانصرفوا عن المالانهاية بالفعل او المالانهاية الحقيقية . اصبح سؤال هل المالانهاية الحقيقية موجودة فعلا أو لا سؤالا لا يهم الرياضيين.
ولتوضيح الفارق بين المالانهايتين الحقيقية وبالقدرة دعونا نتخيل ان الأعداد اللتى نعرفها تقع كلها فى مستوى معين واي عملية نجريها عليها لا تستطيع أن تخرجها من المستوي الموجودة فيه بينما المالانهاية الحقيقية تقع فى مستوي أخر ولا توجد وسيلة ننقل بها عددا من المستوي الاول الى المستوي الثاني. دعونا نضرب لذلك مثلا بعالم البشر وعالم الملائكة فهما عالمان منفصلان . قد يكون هناك انسان ممتاز فنقول عنه مجازا انه ملاك. ويستمر هذه الانسان فى فعل الخير بشكل غير مسبوق ويستمر هذا الشخص فى الاقتراب من عالم الملائكة لكننا نعلم انه لن يصبح فى يوم من الأيام ملاكا حقيقيا. والسؤال الأن هل يمكننا مع اننا قابعون دوما فى عالم البشر بامكاننا استنباط وجود عالم الملائكة واستكشاف بعض خواص هذا العالم. مع اننا لا نستطيع ان ندرك من هذه العالم سوي تصورات بسيطة حوله؟!
كان اول من توصل الى اكتشافات حقيقية حول الماللانهاية الحقيقية هو الايطاليى جاليليو
كان جاليليو عالما عظيما . بل البعض يعتبره أعظم فيزيائي على مدار التاريخ. وبالاضافة لكونه فيزيائى كان ايضا رياضيا خارقا وروائيا عظيما وفنانا مبدعا. كان متعدد المواهب بصورة يصعب تصورها. كما انه كان انسان ذا عقلية تجارية فذة كون ثروة ضخمة من تسويقه للتلسكوب الضوئي. مع ان جاليليو ليس هو من أكتشف التلسكوب. مع ذلك فشخصية جاليليو تحيرنى احيانا كثيرا. كيف لهذا الذكي من الناحية الاكاديمية والناحية العملية العملاتية. كيف لذلك الأيطالي ابن السوق ان يتجاهل الخطر الداهم اللذي احاط به عندما طلبته الكنيسة فى روما للتحقيق معه بشأن كتابه اللذي أنتصر فيه لرأي كوبرنيكوس بان الأرض تدور حول الشمس؟. كيف كان كل من حوله مدركون للخطر وطلبوا منه بل وترجوه الأ يذهب ووعده بعضهم بالأمان والحماية وهو لا؟. لكن يبدو ان غرورا تملك منه. فهو كان يتصور انه شخصية عالمية تاريخية. وأن مكانته ستحميه وتعصمه. كان جاليليو مسيحييا متدينا ولم يكن ملحدا او كافرا. لكن بمجرد وصوله الى روما تم استقباله بحفل تعذيب وتم اجباره على الجثو على ركبته والأعتراف بانه هرطق وانه كان مخطئا وان الشمس هي اللتى تدور حول الأرض. وتم الحكم عليه بالأعدام ثم تخفيف الحكم الى الأقامة الجبرية بداخل منزله
وفي اثناء اقامته الجبرية كتب سرا كتابا جديدا هو تحفة علمية وأدبية واستطاع تهريب الكتاب الى ناشر هولندي استطاع نشر الكتاب. وفي هذا الكتاب قام جاليليو بالانتقام من محكمة التفتيش اللتى ادانته. فقد كان الكتاب عبارة عن حوارا بين شخصين الأول هو الساذج سيمبليكو اللذي يعبر عن رأي محكمة التفتيش والثاني هو المستنير سالفياتي اللذي يعبر عن رأي جاليليو. وقام من خلال شخصية سالفياتى باستعراض عضلاته المعرفية والفلسفية والفكرية على المسكين سيمبليكو اللي يتهوهم انه يمتلك الحقيقة المطلقة و يعرف كل شئ. ومن النقاط اللتى اثارها سالفياتي وهو يتلاعب بمعرفة سيمبليكو هو ان الجزء ليس اقل من الكل دوما. فقد سأله اذا اعتبرنا مجموعة الأعداد الطبييعة اللتى هي 1 و 2 و 3 الى اخره. ثم استعرضنا مجموعة جزئية منها وهى مجموعة الأعداد المربعة. اي الأعداد اللتى تملك جذرا مربعا كالاعداد 1 و 4 و 9 و 16 و 25 الى اخره. فمجموعة الاعداد المربعة هي جزء من مجموعة الأعداد الطبيعية مع ذلك فهى ليست أصغر منها. لاننا لكل عنصر من عناصر مجموعة الأعداد الطبيعية سنجد له عنصرا فريدا مقابلا فى مجموعة الأعداد المربعة. والعكس صحيح.
وبعد جاليليو بمائتى عام ظهر فذ اخر هو برنهارد بولزانو . وهو كان قس تشيكي ذا اصول ايطالية. وكان بولزانو يعيش فى مملكة النمسا المجر. وكانت له ايضا مشاكله مع الكنيسة ولكن من نوع اخر. كانت فى تلك الفترة الارتباط بين الكنيسة والسلطة السياسية قويا. وكان بولزانو قسا واستاذا جامعيا وكان يدرس الدين والرياضيات. لكنه اكتسب عداوة شخصية قوية لانه رفض ان يعتمد كتابا له ككتاب رسمي لتدريس الطلاب . لانه كان يعتبر ذلك الكتاب غالى السعر على الطلاب كما ان الكتاب لم يكن شاملا. فناصبته الشخصية القوية العداء وتم طرده من الجامعة والكنيسة. وان كان حصل على ارضاء مادي. وعاش باقى عمره يتتبع ابحاثه العلمية وكانت له اراء ممتازة المتعلقة بالرياضيات . كان هو اول من استخدم مصطلح النهاية اللذي طوره فايرشتراس. ولكنه لم ينشر اى من كتبه. لكن بعد وفاته ب 3 سنوات قام صديق له كان يحاوره بجمع اراءه ونشرها باسم بولزانو. ومن ضمن مانشره فكرة هامة حول خواص المالانهاية الحقيقية وهى ايضا تفيد بان الجزء ليس اقل من الكل. فقط تكفينا مسافة قصير جدا على خط الأعداد بين العددين صفر و واحد. فهذه المسافة القصيرة تحتوي على عدد لانهائى من القيم تمثل الأعداد الحقيقية المختلفة بين صفر و واحد دعونا نعتبر مسافة ثانية تقع بين النقطتين صفر و 2 لا شك ان هذه المسافة اطول من المسافة السابقة على خط الأعداد. لكنها مع ذلك تحتوى على نفس العدد من النقاط اللتى تقع على المسافة الاولي. فلكل عدد او نقطة فى المسافة الثانية يكفى ان نقسمه على اثنين لنحصل على نقطة تكافئه فى المسافة بين صفر وواحد.
فى الحقيقة كان كانتور اول من تعامل مع المالانهاية الحقيقية بشكل مباشر واثبت العديد من خواصها . بالرغم من المعارضة والحرب الضروس لكنه نجح فى اتبات وجهة نظره وان كان ذلك على حساب صحته. وكان أشد المعجبين به الرياضى الألماني هلبرت. وهو من عظماء الرياضيين . وهو واضع تشبيه مشهور فى ميدان الرياضيات يتعلق بخواص المالانهاية وهذا التشبية يسمى فندق هلبرت.
لكن قبل الحديث حول فندق هلبرت لابد من ان نشير الى ان هلبرت هو من نوابغ الرياضيات وكان يحلم بان يحول الرياضيات الى ما يشبه زراعة الأرض. فكما ان الفلاح يغرس الحبوب فى الارض ثم يدع الزرع ينمو من دون فضل من الزارع. كذلك كان حلم هلبرت. فهو كان يحلم بان بان يصل الى الي المسلمات الاولية اللتى تقوم عليها الرياضيات. وكذلك عليه ان يجد قواعد الاستنباط الرياضى. ثم نعطى تلك المعلومات لجهاز كمببوتر فائق مثلا بينما نقوم نحن بتشبيك ايدينا خلف رأسنا و الأستلقاء على ظهورنا وترك جهاز الكمبيوتر يعمل ليستنبط كل قوانين الرياضيات الممكنة. لكن الرياضى جودل دمر هذا الحلم عندم اثبت استحالة صنع مثل ذلك الأمر.
اما فندق هلبرت فيقوم على تصور ان هناك فندق لانهائى الغرف. ونسبة اشغال تلك الغرف كاملة. ولا توجد اى غرفة خالية. ثم يقوم انسان بالاتصال بالفندق ليقول انه يبحث عن غرفة فارغة ليقضى ليلته. وهنا يجبيه الموظف على التليفون ان الفندق ممتلى بالكامل . لكنه مع ذلك بامكانه ان يجد له غرفة خالية. فما عليه الا ان يتصل بكل قاطني الغرف ويخبرهم ان قاطن كل غرفة عليه ان ينتقل الى الغرفة اللتى تليه بعدد واحد. فقاطن الغرفة رقم وحد ينتقل الى غرفة اثنين وقاطن غرفة اثنين ينتقل الى غرفة ثلاثة وقاطن غرفة ثلاثة ينتقل الى غرفة اربعة وهكذا. اذن بالتالى سيتم انزال كل السكان فى غرف جديدة, ولكن كلهم سيبقون بالفندق. فقط الغرفة رقم واحد ستصبح فارغة وبامكان المتصل ان يحصل عليها.
لكن حتي ان لم يكن المتصل شخصا واحدا بل ان عددا لانهائيا من الراغبين اتصلوا لحصلوا ايضا على غرف فى الفندق المالانهائ الممتلئ! فقط علي موظف الفندق ان يخبر كل نزيل ان عليه ان ينتقل الى الغرفة اللتى رقمها يساوي ضعف رقمه. فنزيل الغرفة رفم واحد ينتقل الى غرفة رقم 2 ونزيل غرفة رقم 2 ينتقل الى غرفة رقم 4 . ونزيل غرفة رقم 3 الى غرفة رقم 6 وهكذا. وفى هذه الحالة ستصبح الارقام الزوجية مشغولة والأرقام الفردية خالية. وحيث ان الاعداد الفردية لانهائية فبامكاننا انزال الراغبين اللانهائيين بها.