ارتبط الاغريق بالاعداد والاشكال الهندسية ارتباطا غير طبيعي يصل الى درجة التطرف. ويمكننا القول انهم قد حملوا الرياضيات والهندسة اكثر كثيرا مما تحتمل. وقد تداخلت عندهم الاعداد مع الاشكال و الحسابات مع الرسم. واختلطت عندهم الرياضيات بالفلسفة الى حد بعيد. وعلومنا الرياضية المعاصرة لازالت تحمل الكثير من تأثيرات تلك التصورات الاغريقية.
نحن نطلق اليوم على الاعداد 1 و 4 و 9 و 16 و 25 اسم الاعداد المربعة. وهذه الصفة اصولها اغريقية حيث تخيل الاغريق هذه الاعداد على انها مربعات اطوال اضلاعها: 1 او 2 او 3 او 4 او 5 فتكون مساحتها هى الارقام السابقة على الترتيب! وهنا نلاحظ وصف العدد بالتربيع وهو اسم لشكل هندسى وهو المربع. وكذلك عرف الاغريق الاعداد المثلثة: 1و 3 و6 و10 الى اخره. وهي تحمل هذه الصفة لاننا اذا رصصنا كرات في صفوف فوق بعضها بحيث يكون شكلها مثلثا سنحصل على الارقام السابقة. فصف واحد من الكرات سيحتوي على كرة واحدة في الرأس. اما صفين من الكرات فهو سيكون عبارة عن كرة في رأس المثلت تقف على كرتين فى الصف الذي يقع في اسفلها فيكون المجموع الكلى 3. اما في حالة 3 صفوف فسوف يحتوي الصف الثالت على 3 كرات ويكون المجموع الكلى 6. وفي حالة 4 صفوف سيكون المجموع الكلى 10 وهكذا.
ثم هناك مصطلح رياضى اخر في غاية الاهمية ويكشف عن الروح الفكرية اللتى كانت سائدة في عصر الاغريق. والمعنى الغريب لهذا المصطلح لايظهر كثيرا في اللغة العريبة لان المعرب كان في غاية الذكاء واختار ترجمة تناسب الوظيفة اكثر من الترجمة الحرفية المباشرة. وهذا المصطلح هو الاعداد النسبية او الاعداد الغير نسبية. والكلمة بالانجليزية هي rational numbers للاعداد النسبية و irrational numbers للاعداد الغير النسبية. وكلمة rational تعنى حكيم ومنطقى اما irrational فتعنى غبى ومأفون!! وتفسير هذا القدح والسب يرجع الى ان الفيثاغورثيين قد اعتبروا ان الاعداد هي اساس كل شئ في الكون وان النسب بين الاعداد البسيطة تنتج عنها علاقات جميلة و حكيمة تتناسب مع كوننا البديع الحكيم. ولذلك لايمكن تصور غير هذه الاعداد الحكيمة النسبية في كوننا. ورفضوا وجود اي اعداد اخرى رفضا قاطعا.
وسنحاول اليوم ان نتعرف على بعض هذه الاعداد والنسب الهامة عند الأغريق عموما والفيثاغورثيين خصوصا.
من الاعداد الهامة جدا عند الفيثاغورثيين العدد عشرة. فهو يتناسب اولا مع اساس النظام العشرى للاعداد اللذى استخدمه الاغريق . كما ان عشرة هي نتيجة جمع الاعداد الطبيعية الاربعة الاولى:1 و 2 و 3 و4. وقد كانت العشرة رقما مقدسا عندهم ولذلك لم يكن غريبا عندما وضع فيلولاوس وهو احد الفيثاغورثيين تصوره عن الكون على صوره عشرة اجرام سماوية تدور حول الشمس.
والعدد الاخر الهام هو عدد نسبة المقطع الذهبي او النسبة الالهية كما يطلق عليها البعض. وقد اعتبر الفيثاغورثيين هذه النسبة هي اجمل نسبة على الاطلاق وان فيها قدسية لا تتوفر في اى نسبة سواها. وسنتعرف على هذه النسبة بعد قليل بعدما ننتهى من التعرف على الاشكال الهامة عند الاغريق.
اهم الاشكال الهندسية كانت الدائرة فهى تعبر عن الكمال. ولذلك تخيل ارسطو ان كل الكواكب تدور في مسارات دائرية حول الارض حيث كان في ذلك قمة الكمال بالنسبة له. كما كان المربع يحمل اهمية خاصة فكانت اضلاعه الاربعة ترمز الى العناصر الاساسية: الماء والنار و الارض و الريح. وشعار الفيثاغورثيين الخاص بهم كان المخمس المنتظم لما له من صفات بديعة وغريبة. ومن الطريف ان وزارة الدفاع الامريكية بنت مبناها على شكل مخمس منتظم او بنتاجون رمز الفيثاغورثيين المقدس فاصبح اسم المخمس المنتظم يطلق على اسم وزارة الدفاع الامريكية واصبح يدل عليها!
ولكن ماهي ابرز صفات المخمس المنتظم واللتى من اجلها اتخذ الفيثاغورثيون المخمس المنتظم رمزا لهم؟ اول شئ اننا اذا وصلنا كل اركان المخمس المنتظم ببعضها سنحصل في قلب المخمس المنتظم على مخمس منتظم اخر مقلوب اصغر بداخل المخمس الاكبر. واذا وصلنا اركان المخمس الاصغر ببعضها سنحصل على مخمس جديد اصغر. ونستطيع ان نكرر هذه العملية الى مالانهاية لنحصل في كل مرة على مخمس جديد. وفي هذا اشارة الى الخلود والى التجديد المستمر. ولكن ليس هذا كل شئ في المخمس المنتظم. بل اننا عندما نوصل اركان المخمس المنتظم كما فعلنا سابقا فان الخطوط الناشئة تتقاطع و تقسم نفسها بنسبة هي النسبة الذهبية اللتى هي اجمل شئ في الكون واللتى هي موضوع اليوم.
ولكن ماهي النسبة الذهبية في حد ذاتها؟ النسبة الذهبية تساوي تقريبا 1.6180339887 وهي النسبة اللتى نحصل عليها حينما نقسم خط ما الى قسمين غير متساويين في الطول بحيت تكون نسبة طول القسم الاكبر الى القسم الاصغر كنسبة الطول الكلى الى طول القسم الاكبر. وعندما تتوفر هذه النسبة في شكل ما فانها تكسبه تناسق وجمال. ولذلك حرص ويحرص الرسامون على مراعاة هذه النسبة في اعمالهم الفنية وكذلك النحاتون. بل المعماريون حرصوا على ذلك فمعبد البارثينون تم بناؤه بالكامل وفق هذه النسبة كما ان هرم خوفو الاكبر تقارب النسبة بين ابعاده هذه النسبة.
كما ان هذه النسبة توجد في الطبيعىة بشكل مذهل فتدور بعض الكواكب في مسارات نسبة بعضها الى بعض تساوي هذه النسبة الذهبية كما ان مسارات بعض الاقمار حول كواكبها تساوي نفس هذه النسبة. كما ان شكل بعض القواقع البحرية و شكل فاكهة الاناناس يحتوي على هذه النسبة. كما ان هذه النسبة تلعب دورا هاما في كتابة السيمفونيات الموسيقية.
كل هذه الاشياء وغيرها كانت تدعم وجهة نظر الاغريق والفيثاغورثيين في الاعداد وفي نسبة المقطع الذهبي. لكن وجهة النظر هذه كانت خاطئة تماما. فالاعداد الغير النسبية ليست وهما بل هي موجودة بكثرة بل هى اكثر بكثير من الاعداد النسبية! بل ولفرط المفاجأة فان نسبة المقطع الذهبي نفسها هي نفسها عدد غير نسبى!! ونستطيع ان نبرهن ذلك رياضيا بكل سهولة:
اذا افترضنا ان هناك قضيبا ما طوله 1 متر ثم قمنا بتقسيمه الى قسمين غير متساويين و اذا افترضنا ان طول القسم الاكبر x فيكون طول القسم الاصغر واحد مطروح منه x . واذا افترضنا انه تم تقسيم هذا القضيب وفقا لنسبة المقطع الذهبى فيكون الطول الكلى للقضيب وهو 1 متر بالنسبة للقسم الاكبر وهو x كنسبة القسم الاكبر x للقسم الاصغر المتبقي
x/(1-x) =1/x
ومنها نحصل على
x^2 = 1-x
x^2+x-1=0
وهذه معادلة من الدرجة الثانية لها حلان: الحل الاول سالب وهي قيمة مرفوضة لان الطول لايمكن ان يكون سالبا والقيمة الاخرى موجبة وهي تساوي -0.5 +sqrt(5)/2
او تقريبا 0.62 وبهذا تكون نسبة المقطع الذهبى 1 الى x او 0.5 +sqrt(5)/2
او تقريبا 1.62 وهو رقم غير نسبى لان جذر 5 هو رقم غير نسبى
كان الفيثاغورثيون انفسهم هم اول من ادرك حرج موقفهم وهم اول من تنبه الى هذه الازمة. ولكنهم تكتموا الامر في البداية وحاولوا ابقاءه سرا. ولكن كتمان خبر مثل هذا كان مستحيلا في امة تعشق الاعداد وتبحث عن خصائصها وغرائبها باي ثمن. فاضطر الفيثاغورثيون في النهاية للاعتراف بالاعداد الغير نسبية . ولكنهم اعتبروها مجرد استثناء لا يشكل قاعدة وانها مجرد ندبة صغيرة تحاول ان تشوه وجه الكون الجميل.
كان هذا الوضع بالنسبة للاعداد الغير نسبية اما بالنسبة للصفر فقد كان الموضوع مختلفا. فاخفاء الصفر وانكار وجوده كان امرا سهلا . فهو في النهاية عدد وحيد وليس له فائدة عملية مباشرة في ذلك الوقت. اما الاعداد الغير نسبية فاعدادها هائلة بل لا نهائية وفوائدها العملية لا حصر لها. وعدد نسبة المقطع الذهبي نفسه هو عدد غير نسبى. ولذلك بقى الصفر مجهولا ومنكرا حتى اشعار اخر.