دانيل كانمان هو عالم متخصص فى علم النفس حصل على جوائز دولية عديدة ربما يكون أشهرها جائزة نوبل فى الأقتصاد عام 2002 وقد كان ذلك بسبب أبحاثه اللتى تتعلق بتأثير العامل النفسى في التعاملات داخل البورصة. ولكانمان كتاب واسع الأنتشار اسمه التفكير السريع والتفكير البطئ كتبه عام 2011 وهو من أكثر الكتب رواجا. وعندما أقتنيت الكتاب أكتشفت أن لكانمان جنستيتن وهما الأمريكية والأسرائيلية. ولمن لا يعرف فكتاب كانمان يحتوي على العديد من الاحداث والتجارب الحقيقية. واحدة منها حدثت في اسرائيل ولفتت نظري فاحببت أن اعرضها.
يقول كانمان منذ فترة طويلة وعندما كان مازال مقيما فى أسرائيل أستطاع أقناع المسئولين فى التعليم العالي هناك بان يدخلوا تدريس مادة اتخاذ القرار ضمن المناهج الدراسية هناك. وتم تكليفه بأن يشكل لجنة من المتخصصين تكون هي المسئولة عن وضع المنهج المناسب.
يقول كانمان انه شكل تلك اللجنة اللتى كانت تحتوي على متخصصين فى ذلك الميدان بالأضافة لشخص اخر من خارج التخصص لكنه كان عميد أحدي الجامعات وخبرته انه ساهم سابقا فى اعداد مناهج دراسية في ميادين مختلفة. وبعد سنة من التحضير والعمل والأجتماعات تقدم المشروع بشكل جيد. واستطاعت المجموعة انهاء فصلين من ضمن المنهج المرنو اليه. كما تكونت لديهم فكرة مقبولة حول الصورة النهائية اللتى ينبغى ان تكون عليها المادة العلمية المطلوبة.
ويقول كانمان انه اراد ان يطبق ادوات منهج اتخاذ القرار على مجموعة العمل نفسها وطلب من كل فرد فيها ان يتوقع المدة الباقية اللازمة لكى ينتهوا من مشروعهم بالكامل. وكان ارسال التوقعات كتابيا وبصورة مغلقة. وذلك حتى لايؤثر افراد المجموعة على بعضهم البعض. وهذا ينسجم ايضا مع اليات اتخاذ القرار بصورة علمية.
وكانت توقعات الأفراد تتراوح فى المتوسط حول العامين. فاكثر المتفائلين توقع عاما ونصف واكثرهم تشاؤما توقع عامين ونصف. وحتى هنا لا توجد اي مفاجاءة فالارقام كلها متقاربة وتبدو منطقية. لكن المفاجأة ظهرت عندما سأل كانمان الشخص الوحيد ذا الخبرة السابقة في اعداد المناهج الدراسية عن خبرته الماضية. وعن المدة اللتى احتاجتها مجموعات عمل مشابهة للأنتهاء من وضع مناهج دراسية مماثلة. لكن هنا ران صمت طويل!
بعد تردد قال الخبير ان البعض لم يستطع ابدا ان ينهى مشروعه وان ينتج المادة العلمية المطلوبة. وابتدأ الاستغرب يزحف نحو عقول الجميع. فلم يفكر احد منهم مطلقا فى احتمال عدم قدرتهم على انهاء المشروع اللذي قد تجمعوا له. وهنا سأل كانمان الخبير سؤالا اخر: لكن ماهى ياترى نسبة اللذين لم يستطيعوا اتمام المشروع؟ كانت المفاجاءة جد كبيرة حيث قال أنها نسبة عالية تقترب من 40%!
ثم كانت المفاجأة الأكبر عندما سأله عن المجموعات اللتى اتمت مشروعها ماهي المدة الفعلية اللتى احتاجتها من أجل ذلك. فكأنت الأجابة انه لا يعلم بمجموعة واحدة انهت فى أقل من 7 سنوات. ولا يتذكر واحدة احتاجت اكثر من 11 عاما. وكل هذه ارقام عالية مقارنة بالأرقام اللتى توقعها الأفراد بالنسبة لمشروعهم.
ثم سأل كانمان الخبير السؤال الأخير عن رأيه فى مجموعتهم مقارنة بالمجموعات السابقة الأخرى اللتى قد عمل معها؟ هى هي مجموعة جيدة ام سيئة|؟. فاجاب الرجل أجابة مؤلمة. بل انه يعتقد ان هذه المجموعة تعتبر من المجموعات السيئة أقل من المتوسط!!
وربما تكمن المفاجأة الحقيقية في ان هذا الخبير كان فى توقعه الكتابى من المتفائلين مع العلم انه الفرد الوحيد اللذى توفرت له كل المعلومات السابقة. لكنه لم يستغلها فقد كان لديه ما يشبه العمي اللذي يسببه أنحصار الرؤية من داخل الصندوق inside view.
اما ما حدث فعلا بالنسبة لمصير تلك المجموعة وذلك المشروع لاحقا. فقد اكتمل المشروع لكن بعد ثماني سنوات من تلك الواقعة المذكورة. وفى خلال تلك السنوات كان كانمان نفسه قد هجر المشروع وهاجر الى الولايات المتحدة الأمريكية. اما المنهج نفسه فكان مصيره ادراج المكاتب ولم يرى النور نهائيا لأن المسئولين هناك قد فتر حماسهم لتلك القضية!
رسالة كانمان هى التالية: لكى تحكم على قضية -أو تخطط لأمر ما- يجب ان تنظر اليها أولا من الخارج OUTSIDE VIEW لاتجعل انغماسك فى تفاصيلها يطغى على كل شئ أخر. فاذا كانت هناك معلومات احصائية متوافرة عن قضايا مشابهة لايجب ان تغفلها بل يجب ان تكون هى اساس توقعاتك. لكن عليك ايضا أن تدخل الرؤية الداخلية فى تقييمك للموقف. لكن نقطة البدء يجب ان تكون من الرؤية الخارجية اذا كانت متوفرة. ثم اذا كنت تري بعد ذلك ان الموقف العام جيدا والأمور تسير على مايرام يمكنك ان تحرك القيمة البدئية حسبما يترأى لك.
فى التخطيط لا يجب ان تفترض ان غدا سوف يكون كاليوم. فعلى الأرجع ان غدا لن يكون كاليوم. ولا تفترض دائما الأفتراضات الأفضل أو مايطلق عليه بالأنجليزية best case scenario فالحياة لا تسير دوما هكذا. بل لابد ان تتوقع ان يختلط فىها السيئ والجيد وأحيانا تأتى الريح بما تشتهى السفن وأحيانا تأتي بعكس ذلك.
وهنا انتهت قصة كانمان. ما يلفت نظري انني أسمع كثيرا وعودا معسولة وأحلاما وردية بهيجة فى الغالب لن تتحقق ابدا. وذلك بالرغم من ان توافر احصائيات عن التجارب الناجحة والمدد اللازمة لفعل ذلك. فنجد احيانا خطابات تدغدغ المشاعر وتعد بالمن والسلوي فى فترة اقل من وجيزة. مع العلم ان التجارب الفاشلة اكثر من الناجحة. وكل التجارب الناجحة تحتاج الى نافذة زمنية معينة لكى تتم وذلك بشرط اتخاذ معظم التدابير بصورة سليمة. فمعسول الكلام لا يصنع معسول الواقع. وأحلام اليقظة قد تنتهى بكوابيس.