المتهمين بامور السياسة الدولية لابد وأن يكون لفت انتباههم التنافس فى السباق المؤهل لانتخابات الرئاسة الأمريكية هذه الأيام. وقبل 8 سنوات تقريبا وتحديدا فى 4 نوفمبر عام 2008 لمع أسم احصائى امريكى شاب أسمه نات سيلفر Nate Silver حيث استطاع توقع نتيجة الانتخابات الأمريكية بشكل صحيح. حيث كانت توقعاته صحيحة فى 49 ولاية من الخمسين ولاية أمريكية. اما الولاية الوحيدة اللتى أخفقت فيها توقعات سيلفر فكانت ولاية انديانا حيت توقع فوز ماكين بفارق ضئيل لكن الفائز كان باراك اوباما بفارق 0.9%. وليس هذا فقط. بل انه استطاع ايضا توقع نتيجة ال 35 أنتخابا المؤهلة لمجس الشيوخ فى الأنتخابات اللتى كانت مقامة فى نفس الفترة بشكل صحيح تماما. وفي الأنتخابات الرئاسية التالية عام 2012 كانت أيضا معظم توقعاته مصيبة. ومعظم الأمريكيين يتتبعون توقعات سيلفر لانتخابات هذا العام. وصفحته الألكترونية موجودة هنا.
لكن مهلا. هل ربما المقصود من التقدمة السابقة والنصف الأول من عنوان الموضوع أن هناك طريقة رياضية تستطيع توقع نتيجة الأنتخابات الأمريكية قبل حدوثها؟ بل لماذا الانتخابات الأمريكية فقط؟ فربما تستطيع تلك الطريقة أن تتوقع نتيجة أى أنتخابات قبل وقوعها؟! بل أن العنوان يوحي بشئ أكثر. فهل ربما نستطيع ان نطبق تلك القوانين على مواضيع غريبة عنا ونحن دخلاء عليها ومع ذلك نصل الى النتائج الصحيحة ؟ او في الحد الأدني نصل الى نتائج مقبولة نستطيع ان نبنى عليها بشكل أمن؟ الاجابة على كل ماسبق هى نعم! بل أن هناك شئ غريب اخر. فهذه القوانين لا يستخدمها فقط غرباء الميدان بل ان المتخصصين فى مجال معين قد يتخلون عن قوانيهم الدقيقة والصحيحة والخاصة بمجالاتهم ليطبقوا تلك القوانين العامة اللتى لاتشترط معرفة متخصصة بالموضوع. بل وهناك شئ أغرب. فهذه الطرق تعطى نتائج أدق كلما زاد تعقيد المشكلة اللتى نبحث عن حل لها.
في الحقيقة أن معظم الناس لديه فكرة خاطئة عن التطور الحاصل فى العلوم الحديثة. صحيح ان العلوم الحديثة قد تعطينا المعادلات الرياضية اللتى تصف كل شئ حولنا بدقة. لكن حصولنا على المعادلات لا يعنى حصولنا على حل هذه المعادلات وهذا هو الشئ اللذي يهمنا فى النهاية. وحل المعادلات ليست نزهة خفيقة كما يتصور البعض. حتي أن نيوتن العبقرى العظيم- مكتشف قوانين الجاذبية. واللذى استطاع أن يصف قوة الجاذبية بين الشمس والكواكب المختلفة ومنها الأرض واللذي أستطاع ان يحل معادلات الجاذبية فى حالة الشمس وكل من الكواكب على حدة وقال ان مسار الكواكب في هذه الحالة يكون مسارا بيضاويا.- أخفق عندما اراد حساب علاقة ثلاث كتل ببعضها وليست كتلتين فقط مع أن طبيعة المعادلات هي نفسها لم تتغير.
مثال أخر هو نظرية الكم وهى ادق نظرية عرفها الأنسان حتى الأن. وبدلالة هذه النظرية نستطيع ان نحسب التركيب الذرى لذرة الهيدروجين. اللتى هى أبسط الذرات الموجودة. فهى تتكون من بروتون واحد والكترون واحد. اذن حل معادلات نظام كهذا ليس صعبا. لكن ماذا عن ذرة الصوديوم مثلا؟ ذرة الصوديوم تتكون من 11 الكترون و 11 بروتون بالأضافة الى نيوترونات. ورغم ان هذا تعقيد بسيط نسبيا مقارنة بذرة الهيدروجين الا ان جميع اجهزة الكمببوتر مجتمعة لا تستطيع ان تحل معادلات الطيف الذري لذرة الصوديوم بشكل رياضي صارم صحيح 100%. وهنا نلجأ الى وسائل رقمية تقريبية تعطينا نتائج عملية ممتازة. لكنها فى النهاية ليست الحل الرياضى الصارم اللذى يتوافق مع المعادلات الموجودة.
وقانون الأعداد الكبيرة هو أحد تلك القوانين الرياضية العامة اللتى يمكن أن نستخدمها لأغراض مختلفة. وينسب هذا القانون لياكوب برنولى وهو مرة أخرى احد افراد عائلة برنولي السويسرية الشهيرة وهو عم نيكولاوس برنولي اللذي تعرفنا عليه المرة الماضية. ولهذا القانون صورتان: صورة ضعيفة وصورة قوية. وبغض النظر عن الفرق بين هاتين الصورتين فانهما يحملان نفس الرسالة اللتى يمكن ان نعبر عنها بطريقة غير رسمية على النحو التالي:
بالنسبة لأي قضية تتغير قيمها بشكل عشوائي فان نسبة تكرار هذه القيم في عينة عشوائية كبيرة يقترب من أحتمال ظهور هذه القيم فى المجموعة الأم.
واذا اردنا تطبيق هذا القانون في حالة الانتخابات فى الولايات المتحدة الأمريكية سنجد التالي:
لا يمكن ان نقول ان التصويت فى الولايات المتحدة الأمريكية هو عملية عشوائية بالمعنى الحرفى للكلمة. ففى النهاية لا يقوم كل ناخب بتحديد قراره بناء على قرعة. مع ذلك فبأمكاننا ان نعتبر نتيجة تصويت اي فرد هى عملية عشوائية بالنسبة لنا. وضع تحت بالنسبة لنا ألف خط. فهناك أكثر من 140 مليون أمريكى مسجلين وبأمكانهم الأنتخاب. وفي نفس الوقت فأن نتيجة تصويت كل شخص تتوقف على المؤثرات التالية: من هم المرشحون الرئاسيون؟ وها هى شخصياتهم واراؤهم؟. كيف كان اداء المرشحين الرئاسيين فى الحملات الأنتخابية؟. كيف كانت التغطية الأعلامية للحملات الأنتخابية؟. ماهى الدائرة المحيطة بالناخب من هم اصدقاؤه وزملاؤه فى العمل؟ وماهى اراؤهم؟. ثم الأهم من هو الشخص الناخب نفسه؟ وما هى فلسفته فى الحياة؟. بل كيف كان مزاجه النفسى يوم ذهب للانتخابات؟
كل هذه العوامل تتحكم فى اختيار الناخب. وهى عوامل متصارعة متداخلة. لا نعلم لأيها سوف تكون له الغلبة في النهاية؟. وماهى نسبة توافر اي وكل من هذه العوامل فى ناخب بعينه؟. ولذلك يمكننا ان نعتبر ان عملية الأنتخاب فى المجمل كما لو كانت عملية عشوائية لانه تتحكم فى نتيجتها عوامل كثيرة. وليس لعامل بعينه فيها اليد الطولي دائما.
اذن لتوقع نتائج العملية الأنتخابية علينا ان نجري استطلاع رأي على عينة عشوائية كبيرة. بالنسبة للصفة الأولى “عشوائية” فالامر غنى عن التعليق. فانا لن اجري مثلا أستطلاعا للرأي فى مقر الحزب الجمهوري الأمريكي ثم أتوقع ان نتيجة الأستطلاع ستكون معبرة عن رأي الأمريكيين فى العموم. لكن لابد ان تكون العينة معبرة عن عموم الشعب.
لكن الصفة الثانية هى قلب موضوع وهي الأهم لنا اليوم. وهى أن تكون العينة “كبيرة”. وفى الحقيقة فأن هناك شيئا سحريا يختبئ خلف هذه النقطة. فنحن هنا لا نشترط نسبة معينة بل عددا كبيرا فقط. فمثلا فى حالة الانتخابات فان عينة عشوائية مكونة من الف شخص كافية لأن نحصل على نتيجة نسبة خطئها لا يتجاوز 3%. ولايهم ما هو عدد الناخبين الفعليين فى المجموعة الأم. هل هو مائة الف! ام مليون! أم مائة مليون! أم مائة مليار!. فقط عينة من 1000 انسان تكفى بغض النظر عن سعة المجموعة الأم!!
وهناك قانون احصائى بسيط جدا نستطيع بدلالته ان نحدد سعة العينة اللتى ينبغى ان نجري عليها استطلاع الرأي. وهذا القانون يحتاج فى معطياته الى بعض المعلومات البسيطة. مثل دقة النتيجة اللتى نرغب فى الحصول عليها. وبعض المعلومات الأحصائية بشأن القضية اللتى نحن نجري أستفتاءا بصددها.
وتطبيقات هذا القانون فى الحياة العملية عديدة جدا. مثلا فى حالة شركات التأمين على حوادث السيارات. فان شركة التأمين لاتعلم مسبقا اذا كان العميل القادم سيتسبب في حادث ام لا. واذا تسبب فى حادث فما هى قيمة الخسائر المتوقعة. لكن بأخذ عينة واسعة تستطيع شركات التأمين ان تحدد الخسارة المتوقعة فى المتوسط وبالتالى تحديد مكسبها واتعابها. وايضا فى ميدان صناعة الأدوية. تستخدم شركات صناعة الدواء هذا القانون لتحديد تأثير المادة الطبية الفعالة على المرضى بأخذ عينة مناسبة من المرضي. وكذلك فى مجال القياسات المعملية. حيث تنشأ العديد من الأخطاء البشرية أو اخطاء اجهزة القياس اللتى تؤدي في النهاية الى نتيجة قياس غير حقيقية. لكن بعمل اكثر من تجربة قياس نستطيع ان نعادل هذه المؤثرات بدلالة بعضها. بل أيضا فى ميدان الفلك حيث تتكون المجرة الواحد من مئات مليارات النجوم. وبالطبع لا يمكن دراسة كل هذه النجوم بالتفصيل لنحصل على خواص المجرة. لكن بتطبيق تلك القوانين العامة.
لكن علينا ان نتنبه ان قانون الأعداد الكبيرة قانون عظيم جدا. لكنه ايضا سلاح ذو حدين. فكثيرا ما يتورط حتى المتخصصون فى اخطاء مهنية فادحة عندما يتعلق الأمر بتحديد سعة العينة العشوائية. فهم لا يستخدمون القانون الأحصائي بل يلجأون الى الخبرة أوالعرف أو الاحساس الداخلي. فتكون النتيجة نتائج مصداقيتها اقل من 50%.
ومثل صارخ لهذا الخطأ دراسة خاصة قامت بها مؤسسة جيتس للأعمال الخيرية. وكانت الدراسة تهدف الى بحث أفضل السبل لأستثمار 1.7 مليار دولار لرفع مستوي التعليم فى المدارس. ووجدت الدراسة ان أفضل المدارس اللتى أعطت نتائج ممتازة كانت مدارس قليلة الطلاب. وطبعا ربما يبدو هذا الامر منطقيا وهناك سبب واضح فكلما قل عدد الطلاب فى المدرسة كلما كثر الأهتمام بهم وتركيز المعلمين عليهم. وقامت المؤسسة بانشاء مدارس قليلة العدد بل وفتت المدارس الكبيرة الخاصة بها الى مدارس أصغر حجما.
لكن للأسف كانت هذه النتيجة ترجع الى خطأ مهنى فى اجراء الأستبيان. فالمدراس القليلة الطلاب ليست بالضرورة هى الافضل. بل هو مجرد خداع أرقام. فمثلا اذا فرضنا ان مدرسة لديها طالبين فقط ونجح هذان الطالبان فستكون نسبة النجاح فى هذه المدرسة هى 100%. بينما اذا رسب طالب واحد فقط ستنخفض النسبة الى 50%. فالعينات قليلة العدد تكون نتائجها حساسة جدا وبأكثر من المطلوب.
واذا كان تم عمل احصاء حول المدارس الأسوأ نتيجة لوجدنا ايضا ان المدارس قليلة العدد ستترأس القائمة! اذا فاذا كان هناك شئ ما يفسر الشئ وعكسه فأنه لا يفسر أى شئ! ويجب التخلي عنه وأسقاطه من حسباتنا بالكلية.