بلغني ايها الملك السعيد ذو الرأي الرشيد. انه في قديم الزمان وسالف الأوان ظهر فى الأسكندرية العاصمة المصرية كتاب ساحر اسمه “العناصر”. اسس لظهور المدرسة فى علم الهندسة. وكان من الفه “اقليدس” ابدعه.
كما بلغنى ذو الرأي السديد انه فى بغداد عاصمة البلاد تلألأت لؤلؤة اسمها “الجبر والمقابلة”. كانت هى من حسم الأمر وظهر الجبر. وكان من انتجها “الخوارزمى” ابدعها.
وبلغنى ذو العمر المديد أنه استمرت المظافر فى بجاية الجزائر. فعرفت اوروبا الأعداد عن طريق كتاب “المعداد”. وكان من الفه “فيبوناتشي” ابدعه.
كانت هناك يا ذا الملك العريض قامات وهامات. كان هناك الطوسى والبيرونى وابن الهيثم وابن دريهم. ثم تغير الحال وساء المآل فسبحان العلى عن تغير الأحوال.
كانت هذه هى القصة الواحدة بعد الألف بعد أن سكتت شهرزاد عن الكلام المباح. هى قصة لم تروها شهرزاد لانها لم تعرفها. فهى ليست قصتها هي لكن قصتنا نحن. فنحن من ساء بنا الحال وتحولنا من منتجين للعلم والحضارة الى مستهلكين لهما. ولا تكاد تسمع اسماؤنا او اسماء بلادنا فى الاخبار العالمية الا مقرونة بالمحن والملمات. وكاد علماؤنا يصبحون شخصيات اسطورية كشخوص الف ليلة وليلة!
مع ذلك قد يلوح احيانا ضوء شاحب لنجمة يتيمة فى ليلة مظلمة وسماء مضببة. وقد تنبت احيانا عشبة غريبة وسط الصحراء. وتشكل هذه الشذرات المتناثرة الاستثناءات اللتى تثبت القاعدة و لا تنفيها. ومن واجبنا تسليط الضوء على تلك الحالات ليس من اجل الفخار الكاذب لكن للانتباه لها ومحاولة دعم انتشار هذه النبتة لتغزو الصحراء. فالحياة تنتصر دائما. ولا يمكن للانسان ان يتعلم الكلام الا بعد ان يستمع اولا.
صاحب عنوان اليوم يستحق تسليط الضوء عليه لأكثر من سبب. فهو اولا شخصية معاصرة وذلك ربما يساعدنا علي التخلص من الشعور بان علمائنا شخصيات اسطورية. ثانيا هو ليس من المشهورين كثيرا. فهناك علماء محترمون حصلوا على جوائز مرموقة كجائزة نوبل فعرفتهم الجماهير شئ ما. لكن شخصية اليوم ليست معروفة بهذا القدر. السبب الثالث ان معظم العلماء العرب المعاصرين ينتمون الى ميادين عملية اكثر كالفيزياء والكيمياء. اما شخصية اليوم فهى رياضية. صحيح ان للرياضيات ايضا جانب تطبيقى -كما فى حالة اليوم- لكنها تبقى اقل حظا فى عالمنا من غيرها. السبب الرابع ان طريقته تدرس فى كبريات الجامعات العالمية وتحمل اسمه هو: اي طريقة “الجمل”. والسبب الخامس ان نتائج علمه هامة جدا وتؤثر فى حياتنا اليوم حتى وان لم نكن ندري بذلك.
اكتشافات طاهر الجمل تظهر فى صورة التوقيع الألكترونى اللذى نمهر به رسائلنا الألكترونية او اى وثائق الكترونية اخرى. فاذا لم تكن لنا خبرة بهذا الموضوع فقد نكون تعاملنا مع اكتشافاته لاننا نحمل بطاقات ائتمان أو بطاقات البنوك فى جيوبنا. فالامان فى بطاقات الائتمان يعتمد على طريقة الجمل. واذا لمن نكن من حملة هذه البطاقات فاننا فى اغلب الأحوال قد تعرضنا لاكتشافاته لاننا من مستخدمي الانترنت وفي بعض الاحيانا نزور مواقع نجد بداية اسمهما تحمل هذه الحروف: https . فهذه المواقع تمكننا من نقل المعلومات الحساسة بامان لانها تستخدم بروتوكول للتشفير اسمه SSL يعود ايضا الى طاهر الجمل.
ولد طاهر الجمل فى القاهرة عام 1955 وبعد ان حصل على البكالوريوس من جامعة القاهرة سافر الى الولايات المتحدة الأمريكية وحصل علي شهادتى الماجستير والدكتوراة من جامعة ستانفورد الشهيرة. وفى عمر الثلاثين تقدم بورقة بحثية هامة كانت هى الاساس لكل التطبيقات اللتى تحدثنا حولها عاليا. وعمل الجمل فى شركة Netscape اللتى كانت من اكبر شركات الانترنت الموجودة فى زمانها. وهو اليوم له شركته الخاصة في ميدان الأمن الألكتروني.
اما الميدان اللذي بز فيه الجمل فهو ميدان التشفير. وغنى عن الذكر ان هذا الميدان من الميادين الهامة جدا فى وقتنا الحاضر. وتتطالعنا نشرات الأخبار بصفة مستمرة باخبار لها صلة قوية بذلك الميدان. ويكفى ان نتذكر فضيحة التجسس اللتى تورطت فيها وكالة المخابرات الأمريكية NSA ضد حلفاءها الأوروبيين. او تسريبات العميل الامريكي ادوارد سنودن ضد ادارة بلاده. او ماتداولته وكالات انباء عالمية عن شركة سكايب skype للاتصالات اللتى تستخدم نظام تشفير قوي حتى لايمكن التصنت على محتوى الاتصالات الجارية بواسطة هذه الخدمة. وكيف انها كانت تناوئ احيانا الأدارة الأمريكية ثم رضخت للضغوط الواقعة عليها واصبحت جزءا من برنامج بريزم PRISM للتجسس. والجدير بالذكر ان أهم صاحب عمل يستخدم الرياضيين فى العالم كله هو وكالة المخابرات الأمريكية NSA. كما أن هذه الوكالة تقف خلف قوانين تمنع تصدير اي تكنولوجيا متطورة خاصة بالتشفير خارج البلاد. لكن ما علاقة كل ذلك بطريقة الجمل على وجه التحديد؟
دعونا نمهد للموضوع بمثال بسيط. دعونا نفترض اني اعيش في البرازيل وانت فى اليابان وأننا نعمل لنفس الشركة اللتى تنافس للحصول على مشروع مهم فى البرازيل. ودعنا نفترض انك تريد ان ترسل لى قيمة المناقصة اللتى ستتقدم بها شركتنا املة ان تكون صاحبة افضل عرض. ولنفرض ان قيمة العرض هى 15 مليون دولار. اذن يكفى ان ترسل لى رسالة تحتوى فقط على العدد 15 حتى افهم ما تريد. لكن هناك للأسف أيضا منافسون غير شرفاء يتنصتون على اتصالتنا لكي يختلسوا معرفة قيمة العرض. فكيف يمكنك ان ترسل لى قيمة العرض؟
بامكانك ان تضع الرسالة فى صندوق وتغلق هذا الصندوق بقفل له مفتاح خاص. ودعنا نفترض ان هذا الصندوق غير قابل للكسر وكذلك القفل ايضا. والطريقة الوحيدة لفتح الصندوق هي عبر استخدام المفتاح الخاص فقط. اذن لابد ان نحمل أنا وانت نسختين من ذلك المفتاح الخاص. لكن كيف ترسل لي نسخة من ذلك المفتاح؟ هنا نصل الى نقطة الصفر مرة أخرى ونقطة ضعف هذه الطريقة. فاذا ارسلت لي نسخة عبر البريد العادي فسيستطيع المتلصصون ان يستنسخوا مفتاحا لهم بكل سهولة وتكون كل الاتصالات بينى وبينك مخترقة تماما! اذن ربما يكون الحل الوحيد هو ان نتقابل شخصيا فى دولة ما فى منتصف المسافة وأن احصل على المفتاح وبعد ذلك يعود كل منا الى الدولة اللتى يقيم بها ثم نبدأ فى ارسال الرسائل الى بعضنا البعض! وعيب هذه الطريقة كما ترى انها مكلفة. وماذا لو لم نكن شخصين فقط بل عشرات او مئات؟ ماذا لو كان احد الاطراف شركة على الانترنت مقرها فى لندن وتتعامل مع ملايين الاشخاص. كيف يحصل هؤلاء الاشخاص على مفاتيح؟ هل يسافرون كلهم الى لندن قبل ان يرسلوا ارقام بطاقات ائتمانهم الى الشركة عبر الانترنت؟
هناك فلسفة حل أخرى تعرف بالمفتاح العام Public Key . وطريقة “الجمل” تنضوى تحت هذه الراية. لفهم هذا الحل تخيل انك وضعت الرسالة فى صندوق وأغلقته بقفل. الغريب هنا أن المفتاح اللذي يغلق القفل ليس مخفيا ولكنه متاح للجميع. والأكثر غرابة ان المفتاح اللذى يفتح القفل ليس ذلك اللذي يغلقه بل مفتاح اخر تماما! وهذا المفتاح يسمى المفتاح الخاص Private Key توجد منه نسخة واحدة فقط احملها انا. اذن نلخص الخطوات كالتالى: ساصنع اولا مفتاحين: خاص و عام. سأحتفظ بالمفتاح الخاص لنفسى ولا اطلع عليه احد ابدا. اما المفتاح العام فارسله لك ولكل الناس بل وحتى الى المتصنتين علينا مع رسالة اقول فيها: كل من يريد ان يرسل لى رسالة سرية عليه ان يغلقها بهذا المفتاح ويكون متأكدا ان مفتاح الفتح املكه انا وحدي! واذا اردت انت الحصول على رسائل سرية فعليك ايضا ان تصنع مفتاحين وترسل لى النسخة العامة وتحتفظ بالنسخة الخاصة معك.
لكن ماذا عن الطريق الاخر؟ ماذا لو أغلقت الصندوق بالمفتاح الخاص اللذى امتلكه؟ طبعا كل من يمتلك المفتاح العام سيستطيع ان يفتح الصندوق ويطلع على محتوى الرسالة!. لكن ما الفائدة وراء عملية كهذه فمن الواضح انه لا يمكننى تشفير الرسائل بهذه الطريقة؟ الفائدة ان كل من يستطيع ان يفتح الصندوق بالمفتاح العام سيكون متأكدا ان الرسالة صادرة مني! فالمفتاح العام لايفتح الا الأقفال المغلقة بالمفتاح الخاص والعكس صحيح. وبهذا نكون اكتشفنا وسيلة للتوقيع. ففتح الرسالة بالمفتاح العام اللذى وزعته انا دليل على انها صادرة منى. تماما كما ان حذاء السندريلا هو دليل على ان هذه الفتاة هي اللتى حضرت الحفل واللتي يبحث عنها الأمير!
اذن مرة أخرى بالنسبة للمفتاحين العام والخاص. غلق الرسائل بالمفتاح العام يستخدم فى التشفير. بينما غلق الرسائل بالمفتاح الخاص يستخدم فى التوقيع.
كان ذلك بالنسبة للاقفال المعدنية لكن كيف يمكن ان نصنع ذلك رقميا digital ؟ مرة اخرى دعونا نقوم بمقاربة بسيطة. نعلم ان العمليات الحسابية الاساسية هى الجمع وعكسه الطرح وكذلك الضرب وعكسه القسمة. دعونا نفترض اننا نستطيع ان نجرى ثلاث عمليات فقط: الجمع والطرح والضرب. أما القسمة فنحن لانعرفها ولم نتعلمها فى المدرسة! سأختار اولا عددين: 3 و 7 مثلا. وسأبقى العدد 7 سرا فهو المفتاح الخاص بى. اما المفتاح العام فهو مكون من عددين: 3 و 21 . حيث 21 هى حاصل ضرب 3 و 7. وحيث ان لا احدي يدري سر القسمة فسأكون متأكدا انه ليس بمقدور احد ان يقسم 21 على 3 ليحصل على قيمة المفتاح الخاص 7!
واريد ان أنبه الى انه عندما نتحدث عن المفتاح العام فاننا نتحدث عن عددين. وعندما نتحدث عن المفتاح الخاص فاننا نتحدث عن عدد واحد. وهذه ربما تكون مفارقة صغيرة. فربما يكون من الأفضل لو نقول اننا نحتاج الى ثلاثة مفاتيح: مفتاحين عامين ومفتاح خاص بدلا من نقول ان المفتاح العام يتكون من عددين.
كيف تستطيع الأن أن تشفر قيمة عرض شركتنا؟ انت تعلم العددين الخاصين بمفتاحي العام وهما 3 و 21 . كما انك الوحيد حتى الأن اللذي يعلم بقيمة العرض 15 مليون. أختر الأن اى عدد عشوائى وهذا العدد ستعلمه انت واحدك ولن تطلع عليه أي أحد ولا حتى انا. لنفترض انك اخترت 2 مثلا. الأن أضرب هذا العدد فى جزأي المفتاح العام لتحصل على رقمين جديدين هما 6 و 42 . مرة اخرى لاحظ ان هذين العددين لا يعلم بهما احد سواك. كما يجب ان تلاحظ ايضا ان النسبة بين هذين العددين مازالت ثابتة وتساوى 7 او قيمة المفتاح الخاص. حيث ان النسبة الاساسية بين العدديي الأصليين: 3 و 21 كانت ايضا 7. الخطوة الاخيرة أجمع قيمة العرض اللذى تعلمه انت مع الرقم الأكبر لتحصل على النتيجة 42 +15 = 67 . أرسل لى هذه القيمة فى رسالة بالاضافة الى الرقم 6 اللذى هو حاصل ضرب العدد الاصغر من مفتاحى العام مع العدد العشوائى اللذى لا يعلمه احد غيرك.وبهذا تكون انتهت عملية التشفير!
كما تلاحظ فان العددين اللذين تحتوى عليهما رسالتك: اي 67 و 6 لاعلاقة لهما بالعدد 15 اللذى تريد ان تبلغنى اياه.ومع ذلك سأستطيع ان افك شفرتك واصل الى قيمة العرض بمنتهى اليسر! لكن كيف ذلك؟
دعنا نتأمل فحوى رسالتك. انت ارسلت عددين هما 67 و6 . فلعلك تريد قول التالي: عرض شركتنا سأشير اليه بالعدد 67. وليس المقصود ان قيمة العرض هى 67 مليون. لكن قيمة العرض بالملايين مضافة الى رقم كبير تعطي 67 . وهذا الرقم الكبير لا استطيع ان أبوح لك به صراحة لأن هناك متنصتون علينا. لكن ما أستطيع ان اقوله لك ان هذا العدد الكبير 6 قاسم له!
اذن كيف اتمكن من فك الشفرة؟ فعليا أنا أريد أن اصل الى العدد الكبير المجموع على العرض الاصلى. وحيث ان 6 هى قاسم لذلك العدد وحيث ان النسبة بين ذلك العدد العدد الكبير و 6 تساوي قيمة المقتاح الخاص كما اشرنا سابقا. اذن سأضرب 6 فى 7 لأحصل على 42 . وهذا هو العدد الكبير!. ثم اطرح 42 من 67 لأحصل على 15 . وهى الرسالة الأصلية اللتى تريد ان تبلغنى اياها!
الأن دعونا نتقمص دور المتلصص لنرى ماذا بامكانه ان يفعل. هو ايضا حصل على العددين: 3 و 21 . كما انه استطاع اختلاس الرسالة اللتى ارسلتها أنت وفيها العددين 67 و 6 . كما انه يعلم ايضا الطريقة اللتى تتم بها عملية التشفير! هو فقط لا يعلم قيمة مفتاحى الخاص او الرقم العشوائى اللذى اخترته انت واللذي قد يكون اى قيمة. اذن سيحاول المتلصص ان يفكر بشكل منطقي وحيث أنه لا يعرف القسمة فامامه حل وحيد فقط وهو ان يجرب كل الأعداد فى جدول ضرب الثلاثة حتى يصل الى قيمة المفتاح الخاص. فيضرب 3 فى 1 ثم 2 ثم 3 وهكذا. وعندما يصل المتلصص الى العدد 7 سيجد ان حاصل ضرب 3 في 7 هو 21 . وبذلك يكتشف ان قيمة المفتاح الخاص هى 7 ويستطيع بذلك ان يفك شفرة الرسالة. اذن المتلصص سيحتاج الى 7 محاولات فقط حتى يصل الى قيمة العرض.
لكن ماذا لو كان المفتاح العام يتكون من العديدن: 3 و 29629629 ؟ المتلصص سيحتاج اذن الى 9876543 محاولة او عملية ضرب ليصل الى قيمة العرض. واذا افترضنا ان المتلصص يستخدم جهاز كمبيوتر يستطيع ان يجرى 1000 عملية ضرب فى الثانية الواحدة. فانه سيحتاج الى 3 ساعات متواصلة من الحسابات ليصل الى قيمة العرض! هذا وقد كان المفتاح العام يتكون من 8 خانات فقط. فماذا لو كان المفتاح العام يتكون من 1000 خانة؟ فى هذه الحالة فان المتلصص سيحتاج الى قرون طويلة ليصل الى فحوى الرسالة حتى و أن كان يستخدم أسرع جهاز كمبيوتر فى العالم!
كان ماسبق شرحا مبسطا لطريقة “الجمل” لكنه للأسف غير قابل للتطبيق عمليا. فحتي لو كان المفتاح الخاص يتكون من 1000 خانة فان الهاكر المتطفل لن يقوم بمليارات المليارات من المحاولات ليصل الى المفتاح الخاص. بل فى اقل من ثانية سيحصل عليه. فكل من اتم المرحلة الأبتدائية يعلم كيف يقسم عددين على بعضهما حتى ولو كانا يتكونان من 1000 خانة. بل أن هناك خوارزميات افضل من اللتى تعلمناها فى المدرسة تجعلنا نقوم بعملية القسمة بصورة اسرع!
مع ذلك فقد وضعنا قدمنا على الطريق الصحيح. وما نحتاجه الان هو تحديد تلك العملية الرياضية الهينة فى اتجاه ولكن عكسها ليس كذلك. فيا ترى اي عملية تصلح لهذا الدور؟ هل تصلح عملية التفاضل مثلا علي اعتبار ان التكامل اكثر صعوبة؟ ام اى عملية رياضية اخرى يجب ان نختارها؟
في الحقيقة ان العملية الرياضية اللتى تؤدي هذا الغرض هى عملية شديدة البساطة كأنها لعبة أطفال. بل لعل بعضنا فى طفولته وصل الى فكرة مشابهة. ان العمليات الحسابية اللتى تستخدمها طريقة “الجمل” تعرف بالحساب النمطي وسأسميها انا هنا “الحساب بالباقي” modular arithmetic وفيها نتخيل ان هناك حد اقصى للاعداد ولنتائج العمليات الحسابية سواء المدخلات او المخرجات. تماما كماكينة قص الشعر اللتى نضبطها على درجة معينة فتقوم بقص الشعر ويكون الباقى دائما اقل من تلك الدرجة!
وكما نحتاج اولا الى ظبط ماكينة قص الشعر عند درجة معينة قبل استخدامها ينبغى ان نختار العدد الاقصى اللذى لا تتخطاه باقى الأعداد. فدعونا نفترض مثلا انه هذا العدد هو 13 -فى طريقة الجمل هو دائما عدد اولى-. دعونا الأن نرى العمليات الحسابية مثل الجمع والطرح والضرب و القسمة في شكلها الجديد. ودعونا نلخص الامر فى القاعدة التالية: نحسب اولا العملية الموجودة امامنا بالحساب العادي فاذا كانت النتيجة ليست اقل من 13 فيجب ان نقسم النتيجة على 13 ويكون باقى القسمة هو ناتج العملية الحسابية النهائي.
لنري مثلا جمع 9 و 6 . حيث ان مجموعهما المألوف يعطى 15 . وحيث ان 15 ليست اقل من 13 . اذن نقسم 15 على 13 فنحصل على 1 و الباقى هو 2 . اذن تكون النتيجة النهائية 2 او ان:
9 + 6 =2 (mod 13)
وبما ان الطرح العملية العكسية للجمع فيكون 2 ناقص 6 يساوى 9
2 – 6 = 9 (mod 13)
والمثل بالنسبة لعملية الضرب. مثلا اذا اردنا ضرب 5 فى 9 . وحيث ان الضرب العادي يعطى 45 . اذن نقسم 45 على 13 فتكون النتيجة 3 و الباقى 6
5 * 9 = 6 (mod 13)
وبما ان القسمة عكس الضرب اذن تكون قسمة 6 على 5 تعطى 9
6 / 5 = 9 (mod 13)
لكن ماهى العملية الحسابية اللى سنستخدمها ؟ هل هو الجمع بالفارق او الضرب بالفارق؟ الاجابة لا هذا ولا ذاك ولكنه حساب الأس بالفارق! وهى عملية تتم ايضا طبق المنطق السابق. دعونا نحسب مثلا 2 أس 4 . حيث ان العملية التقليدية تعطي 16 . اذن نقسم 16 على 13 فتكون النتيجة 1 و الباقى 3. او ان
2^4 = 3 (mod 13)
اما العملية العكسية وهى عملية حساب اللوغاريتم فلا توجد طريقة سهلة لايجادها ولذلك نستغل هذا الأمر فى التشفير بطريقة “الجمل”. ولتوضيح هذا الأمر نرى فى الرسم التالى جدولا لحساب الأس للعدد 2 لكن هنا الحد الاقصى ليس 13 بل 59 . وفى الجدول نرى حساب الاس للأعداد الزوجية فقط. فماذا نلاحظ؟
نلاحظ ان هذه العملية حساسة بشكل كبير. وكلما زاد الاس خطوة اختلفت النتيجة بشكل عجيب عما قبلها وكأننا نتعامل دالة عشوائية. طبعا هذه الصفة تزيد من صعوبة اجراء العملية العكسية. الملاحظة الثانية وان كنا لا نراها هنا بشكل كامل لان الجدول يوضح نصف النتائج فقط هو ان نتائج عملية حساب الاس تنتج جميع الأعداد بين 1 و 58 بدون فجوات. وهذه خاصية هامة جدا وتحتاجها طريقة الجمل ولذلك تسمى 2 “مولد” generator مجموعة باقى 59 . وربما لو حسبنا الاس للعدد 4 مثلا فلن نحصل على كل الاعداد بين 1 و 58. وفي هذه الحال لا تكون 4 مولد لمجموعة بواقى 59 .
نعود مرة اخرى الى طريقة “الجمل” فهى تستبدل عملية الضرب فى المثال المبسط بعملية حساب الأس بالباقي وتستبدل عملية الجمع العادية بعملية الضرب بالباقي و تستبدل عملية الطرح المألوفة بعملية القسمة بالباقي.
نعود لتشفير العدد 15 . ومرة اخرى لابد ان نختار مفتاح عام وأخر خاص. دعنا نرمز للمفتاح الخاص ب X وقيمته تترواح بين 0 و 58 . لكن من البديهي ان نبتعد عن اختيار 0 أو 1 لأنها اعداد سهلة الأختراق. بينما المفتاح العام هنا يتكون من 3 اعداد. العدد الأول هو 59 او هو ذلك الحد الاقصى. ودعنا نختار العدد الثانى مولد generator ممكن لمجموعة باقي 59 أو 2. ودعنا نختار العدد الثالث بحيث يكون 2 أس المفتاح الخاص أو X يساوي هذا الرقم بحساب باقى 59. ولنفرض ان هذا العدد هو 42.
اذن مفتاحى العام يتكون من الأعداد: 2 و42 و 59 . ولتشفير الرسالة اختر اى عدد عشوائى يقع بين صفر و 58. ومرة اخرى من البديهي ان نبتعد عن اختيار 0 أو 1 . ولنفرض ان اختيارك قد وقع على 9 . احسب الأن 2 اس 9 بحساب باقي 59 .ثم احسب 42 أس 9 بحساب باقى 59 ثم اضرب الناتج فى 15 بحساب باق 59 لنصل الى الرسالة المشفرة.
2^9 = 40 (mod 59)
(42 ^9) * 15 = 38 (mod 59)
اذن الرسالة اللتى سترسلها لهى ستحتوي على العددين 38 و 40 . حيث 38 تشير الى الرسالة المشفرة و العدد 40 هو عدد مساعد. ولكي افك الشفرة على ان احسب العدد المساعد أو 40 أس المفتاح الخاص. ثم اقسم 38 على النتيجة السابقة لاحصل على الرسالة الأصلية. وانا فى هذا استغل خاصية من خواص الحساب بالباقى ساسردها هنا دون برهان:
a^x^s = a^s^x
وتحديدا اذا حسبت 40 اس x سأحصل على 34 . واذا قسمنا 38 على 34 سنحصل على 15!
انا هنا لم اذكر قيمة المفتاح الخاص وسأتركه كتمرين لمن يريد ان يحدد قيمته. أما فى الواقع الفعلي فنحن لا نستخدم اعداد صغيرة كمفاتيح كما فى المثال السابق. لكن نستخدم اعداد تتكون من 1000 خانة على الأقل. وفى هذه الحالة تكون عملية التشفير سريعة لكن عملية فك الشفرة بطيئة جدا جدا. واذا تمكن المنافس غير الشريف اخيرا فى الوصول الى قيمة مفتاحى الخاص ستكون شركتنا قد فازت بالمشروع وقامت بتنفيذه بل وانتهت مدة صلاحيته منذ امد بعيد!