فرنسا وألمانيا هما دولتان جارتان ولهما حدود مشتركة بمئات الكيلومترات. والعلاقة التاريخية بينهما معقدة للغاية فعلى مر الزمان كانتا عدوين حبيبين وصديقين لدودين دارت بينهما حروب عديدة فكانت فى احد المرات هذه وفى مرات أخرى كانت تلك هي الفائزة. لكن ما يمكن قوله بكل تأكيد أن الأداء العسكرى الفرنسى فى الحرب العالمية الثانية كان أداء بائس. ولذلك كان ستالين يحتقر الفرنسيين فأكثر من 80% من المركبات اللتى استخدمتها ألمانيا فى غزو الأتحاد السوفيتى كانت فرنسية الصنع أستولت عليها ألمانيا بعد ان غزت فرنسا. وكان ستالين يتعجب كيف يمكن لأنسان أن يخسر بهذه الطريقة ويتسائل كيف يجلس هؤلاء بجواره فى النهاية على طاولة المنتصرين. وأى نصر قد صنعوا!
وأسباب سوء الأداء العسكرى الفرنسى يمكننا ان نلخصها فى ثلاث نقاط بشكل سريع:
- عدم نقد الذات مما أدي الى شيخوخة الفكر قبل شيخوخة العمر.
- الأرهاق الشديد من الحرب العالمية الأولى حتى بعد مرور أكثر من 20 عاما على انتهائها مما دفع فرنسا الى طلب الدعة والراحة والحرص على عدم التورط فى حرب مباشرة جديدة مع ألمانيا.
- حالة الأستقطاب السياسى والمجتمعى الشديد اللذى أدى الى ضعف الحكومات الفرنسية المتتابعة وعدم أستقرارها.
ودعونا نفصل ذلك بشكل أوضح.
لقد أنتهت الحرب العالمية الأولى كما نعلم بأنتصار فرنسا وهزيمة ألمانيا. ولكنه كان فوزا محظوظا. فقد كانت احتمالات الهزيمة مقاربة لفرص الفوز. فكانت كطالب نجح فى امتحان صعب بتقدير مقبول فظن نفسه عبقرى العباقرة. وللمفارقة – كما تحدثنا المرة الماضية – فقد يكون الأنتصار احيانا أحد أسباب الهزيمة عندما يظن المنتصرأنه قد فعل كل شئ بشكل صحيح فيتوقف عن نقد ذاته والبحث عن أخطائه. بينما الخاسر يتشكك فى كل شئ ويسأل جميع الأسئلة ولا يدع حجرا ألا ويقلبه. ففى الحرب العالمية الثانية أتت الى ألمانيا قيادة شابة جديدة تحت قيادة هتلر غيرت كل شئ فى مقابل قيادة عسكرية فرنسية عجوزة أبطالها هم أبطال الحرب العالمية الأولى السابقون. فكان قائد القوات الفرنسية هو الجنرال جاملان ذو ال 68 ربيعا. واللذي للعجب الشديد اتخذ مقر قيادته فى قلعة عتيدة فى باريس لاتحتوى على جهاز ارسال لاسلكى واحد!. وكانت الرسائل السريعة تبعث عن طريق راكب دراجة نارية! وعندما تم استبدال جاملان بعد الخسائر الفرنسية المرعبة كان خليفته ذا اربعة وسبعين عاما وكانت فترة خدمته الأخيرة قد قضاها فى سوريا بعيدا عن التطورات الأخيرة. بل فى النهاية رأت فرنسا ان حل مشاكلها ربما يقدر عليه المارشال بيتان ذو الأربعة والثمانين عاما كما سنرى بعد قليل. كان الاستراتيجيون الفرنسيون عاكفين على دراسة الحرب العالمية الأولى بأدق تفاصيلها مع أن هتلر قد قال أن الحرب القادمة ستختلف عن الحرب السابقة أختلافا عظيما. وبينما كانت فرنسا رائدة فى الحرب العالمية الأولى في ميدان الطيران وأستخدام الدبابات فأن اعتمادها على وسائل الأنتقال في وقت الحرب العالمية الثانية قد تراجع الى خطوط السكك الحديدية والخيول!. وبينما كانت ألمانيا لا تمتلك اى دبابة فى الحرب العالمية الأولى وذاقت مرارة ذلك السلاح العجيب -فهى تمتلك القوة النارية للمدافع ومع ذلك فهى دينامكية سريعة الحركة- فأقبلت على أمتلاك ذلك السلاح الجديد بشراهة محدثى النعمة كانت ترى فرنسا فى الدبابة سلاح ثقيل الوزن ثقيل الظل. على العكس من ذلك طورت المانيا من طريقة استخدام هذا السلاح فجعلته عمود تكتيكاتها العسكرية وأخترعت استراتيجية جديدة: ففى حين كانت الدبابات الفرنسية موزعة على الوحدات العسكرية المختلفة مما خفف من تأثيرها قامت المانيا بتخصيص وحدات وكتائب حصرية من الدبابات مما ممكنها من تنفيذ استراتيجية الحرب الخاطفة
كان الأرهاق الشديد جراء الحرب العالمية الأولى يسيطر على فرنسا فكانت فرنسا تمثل دور المنتصر لكن الألام الكبيرة والخسائر العالية جعلتها لا تريد تكرار تلك التجربة أبدا. بينما كان الأذلال اللذى لاقته ألمانيا جراء أتفاقية فرساى جعل ظهرها للحائط ولا تخشى شيئا فلا يوجد ماتخسره. فكانت فرنسا تتراجع فى أي أزمة مع ألمانيا لأنها كانت لاتريد حربا جديدة فتهاونت فى تسليح ألمانيا وفى خلاف ألمانيا مع التشيك. وذلك الأرهاق فى العظام الفرنسية جعل فرنسا تبحث عن الراحة والسلامة حتى فى أختيار التكنولوجيات العسكرية ففكرت فى خط ماجينيو كوقاية ضد أي هجوم ألمانى قادم. وخط ماجينيو فى حد ذاته كان اعجازا هندسيا وعسكريا بمقاييس تلك الفترة. فهو كان عبارة عن حصن كبير بامتداد الحدود الفرنسية الألمانية. وكان يحتوى على مدن تحت الأرض تتسع لنصف مليون جندي تنقلهم قطارات كهربائية الى النقاط المختلفة. وكان يوجد تحت الأرض اماكن لايواء الجنود وقاعات سينما الى اخره. وكانت فكرة خط ماجينيو نابعة من الحرب العالمية الأولى فهي كانت حرب خنادق. وكانت فلسفة الفرنسيين قائمة على ترك الألمان يأتون اليهم ليلقوا حتفهم. فكان خط ماجينيو فى حقيقة الأمر يجبر الفرنسيين على الدفاع. وبذلك تخلوا عن حكمة نابليون اللتى كانت تقول ان الفريق اللذي يبقى خلف حصونه وقت اندلاع المعركة قد خسرها. فكان خط ماجينيو فى حقيقة الأمر خط تأمين بالنسبة للألمان أكثر من كونه تامينا للفرنسيين.
وكان خط ماجينيو يعطى للفرنسيين شعورا زائفا بالأمان. فالحرب العالمية الثانية لم تكن حرب خنادق ومواقع ثابتة ولكنها كانت حرب طائرات ودبابات. حرب ديناميكية سريعة. كما ان خط ماجينيو كان لا يحمى فرنسا بالكامل. هو كان يمتد على الحدود الألمانية والسويسرية فقط. لكن المانيا حتى فى الحرب العالمية الأولى لم تهاجم فرنسا عن طريق الحدود الالمانية الفرنسية ولكن عبر حدود بلجيكا. كما أن فرنسا امتنعت فى بداية الأمر ان تمد خط ماجينيو علي أمتداد الحدود البلجيكية. فهى لم ترد ان تبنى سورا بينها وبين بلجيكا يرسل رسالة سياسية ان فرنسا ستتخلى عن بلجيكا وقت ان تقوم حرب. لكن بلجيكا أعلنت فى عام 1936 من طرف واحد وبدون الرجوع الى فرنسا الى أنها على الحياد ولن تتدخل فى أى حرب قادمة. مما دفع الفرنسيين الى استكمال خط ماجينيو عبر الحدود البلجيكية ولكن حتى وقت اندلاع الحرب لم يكن الخط قد اكتمل.
وأدت سياسة فرنسا الدفاعية الي خوار الجنود الفرنسيين. فعندما بدأت الحرب العالمية الثانية وغزت ألمانيا بولندا لم تفعل فرنسا الشئ الكثير. كان بأمكان فرنسا أن تغزو الحدود الغربية الألمانية. ويقدر العسكريون أن المانيا لم تكن لتصمد سوى أسبوع او أسبوعين على حد أقصى ولأنتهت الحرب العالمية الثانية عند بدايتها. لكن الفرنسيين لم يفعلوا شئ. قاموا فقط بهجوم وحيد لعدة كيلومترات داخل الحدود ألالمانية امام الكاميرات السينمائية ثم بعد أسابيع قليلة وقبل أكتمال غزو بولندا أتت الأوامر مرة اخرى للفرنسيين بالأنسحاب خلف خط ماجينيو. كانت مدافع خط ماجينيو تضرب كل يوم لعدة دقائق باتجاه المانيا لاثبات الوجود فقط. ويروى احد المراسلين العسكريين انه عندما كان مع الوحدات الفرنسية فشاهد على الجانب الأخر الجنود الألمان يلعبون كرة القدم فسأل الضابط الفرنسى لماذا لاتطلقون النارعليهم؟ فاجابه الضابط ولماذا نفعل ذلك هم محترمون لا يطلقون النار علينا ونحن لا نطلق النار عليهم.
عندما قامت الحرب العالمية الثانية قامت فرنسا بعمل تعبئة كاملة وسحبت العمال من مصانعهم واماكن عملهم ولكن لم يكن هناك قتال حقيقى. وبعد اسابيع قامت مؤسسات العمل بفصل الجنود نظرا لتغيبهم عن العمل. وكان الأجر اللذى يحصل عليه الجندي الفرنسى فى ذلك الوقت قليلا مما دفع الكثير من الجنود الى العمل الأضافي عندما كانوا يحصلون على اجازة لاعالة أسرهم. وادي ذلك الامر الى فرار الكثير من الجنود من الخدمة العسكرية وساد التسيب والسكر وسط الجنود. فكان سلوك الجندي الفرنسى فى الحرب العالمية الثانية يختلف اختلافا جذريا عنه وقت الحرب العالمية الأولى
كانت خطة فرنسا لمواجهة المانيا خيالا علميا وغير واقعية. كان هم فرنسا الأول هو دفع ميادين القتال بعيدا عن الأراضى الفرنسية. فكانت تخطط لحرب التفاف واسعة تكسر التحالف الألمانى الروسى وتقطع الامدادات العسكرية عن الجيوش الألمانية. فكانت تخطط لضرب باكو عن طريق المطارات الفرنسية فى سوريا وتورطت هي وبريطانيا فى محاولة غزو فاشلة للنرويج فى ابريل ويونيو عام 1940 مما أدي الى فضيحة سياسية فى كلا البلدين وأستقالة حكومتيهما
ثم دعونا نصل الى حالة الاستقطاب السياسى الحاد اللتى اضعفت فرنسا. ففرنسا دولة سياسية بامتياز ولا يكاد يوجد مثيل لها فى اوروبا كلها من هذه الزاوية حتى اليوم. كان المجتمع والحياة السياسية فى تلك الفترة مشتتين لاقصى درجة: كان هناك اليسار والشيوعيون وكانت هناك الاتجاهات اليمينية اللتى كانت ترى ان هتلر افضل بملايين المرات من الشيوعيين الفرنسيين. وعنما تولى هتلر السلطة فى المانيا كانت فرنسا بلا حكومة وعندما ضم النمسا الى ألمانيا كانت فرنسا مرة اخرى بلا حكومة. كانت الحكومات فى فرنسا لا تستمر طويلا. وحتى عندما بدأت الحرب كانت هناك معارضة عنيفة ضد الحرب مع المانيا. والغريب انها هذه المرة اتت من الشيوعيين اللذين كانوا متأثرين بدعاوى ستالين. اللذى كان رأيه فى الحرب العالمية الثانية أن الرأسمالية تقضى على نفسها وأن الرأسماليين الفقراء وهم الالمان يحاربون الرأسماليين الأغنياء وهم الأنجليز. ورأى أن دعم هتلر يعدل من ميزان العدالة. وكان يقول ان هتلر سيقضى على الرأسمالية بدون أن يدرى أو أن يكون هذا قصده.
كانت فرنسا وقت الحرب العالمية الثانية تمتلك 100 فرقة عسكرية وضعت نصفهم خلف خط ماجينيو. بينما وضعت نصفهم الأخر وهو كان النصف الأقوى والأفضل عند الحدود البلجيكية. كما كانت فرنسا تمتلك 13 فرقة انجليزية وضعتها انجلترا تحت تصرف فرنسا بعد ان غزا هتلر بولندا ونشبت الحرب العالمية الثانية. وكانت تلك الفرق الأنجليزية موجودة ايضا على امتداد الحدود البلجيكية. وعندما علم جاملان القائد الفرنسي بتحرك القوات الألمانية لم يفعل أي شئ. كما أنه علم بتاريخ الهجوم الألمانى لكنه قال دعونا ننتظر ماذا سيفعل الألمان!
في 10 مايو من عام 1940 ابتدأ الهجوم الجوى على هولندا. وكانت هولندا فى حالة حياد وهاجمها هتلر حتى بدون اعلان الحرب عليها اولا. ولم يكن لهولندا جيش قوى وهى لم تشارك فى أي حرب منذ زمن نابليون. وقامت الجيوش الألمانية بتدمير مدينة روتردام قبل ان تستسلم. وبذلك كانت روتردام ومن قبلها وارسو من اوائل المدن اللتى تم تدميرها فى الحرب العالمية الثانية. وخاف الهولنديون على مصير باقى مدنهم من أن تكون كروتردام فاستسلمت هولندا بعد أسبوع واحد فقط حيث ادركت انه لا فائدة من المقاومة.
وفى نفس اليوم تم ايضا عمل أسقاط جوى على بلجيكا. وكان اداء القوات الالمانية اكثر من ممتاز. وسقطت اقوى الحصون الدفاعية فى العالم فى قبضة الالمان. كانت سرعة الألمان فى الحركة مذهلة. كانت المعارك تحسم قبل ان يستطيع خصومهم القيام باى رد فعل. وكشفت تلك المعارك عن ضحالة معلومات جاملان حيث كان يحسب الوقت اللازم لحركة الألمان ويقدر ان امامهم 9 أيام على الأقل ليصلوا الى منطقة معينة فيتفاجأ انهم هناك بعد ثلاثة ايام فقط.
وفى يوم واحد فقط وهو العاشر من مايو عام 1940 أستسلمت لوكسمبوج اللتى كانت ايضا محايدة ولم تكن مسلحة من الأساس وكان عدد جيشها يقل عن 500 جندي.
وعبرت الجيوش الألمانية نهر الماس وتوجهت القوات الفرنسة والانجليزية الموجودة عند الحدود البلجيكية الى مواجهة الألمان. توجهت الى الفخ المنصوب لها بكل براعة واحكام!
كانت فرنسا تظن ان خط ماجينيو عاصمها. ولم يكن الخط عبارة عن انشاءات هندسية فى كليته. بل كانت هناك مناطق اعتبرتها فرنسا حصونا طبيعية مثل غابات الاردين اللتى كانت جبالا عالية تغطيها غابات كثيفة قدرت فرنسا انه من المستحيل اقتحامها ولم تحمها سوى بشكل بسيط جدا وباقل وحداتها تسليحا وتجهيزا. وكانت هذه الغابات محور الخطة الألمانية حيث قامت باجتياح الحدود من تلك النقطة مفاجئة فرنسا وذلك فى نفس الوقت اللذى تقدمت فيه القوات الفرنسية والأنجليزية فوقعت في فخ وكماشة القوات الالمانية.
وفى اليوم الرابع للحرب كانت المانيا قد كسرت الدفاعات الفرنسية وكانت فرنسا قد خسرت الحرب فعليا. ولكن الغريب وحتى هذه اللحظة لم يفطن جاملان لخطة هتلر. كانت كل الطرق مفتوحة امام هتلر بعد اجتيازه غابات الاردين وظن انه فى طريقه لاحتلال باريس فأمر قواته بالتوجه الى هناك. لكن هتلر لم يكن يفكر فى غزو باريس بل فى الفتك بافضل فرق الجيوش الفرنسية الموجودة عند بلجيكا.
وفطنت انجلترا الى هدف هتلر فقامت بخطوة أنانية وسحبت قواتها اللتى كانت قد وضعتها تحت التصرف الفرنسى بعد أن رأت أن القيادة الفرنسية لم تتخذ قرارا واحدا صحيحا منذ بداية المعارك وتركت القوات الفرنسية لمصيرها الأسود.
كانت الخسائر الفرنسية هائلة جدا. وكان حظ القوات الفرنسية مع ذلك جيد فلولا أن الظروف الجوية كانت سيئة لتمت ابادة القوات الفرنسية المحصورة عن بكرة ابيها. وكانت الفرق الفرنسية تستسلم بالكامل.
وفى هذه الحرب برز أسم رومل اللذي كان ضابطا ألمانيا صغيرا. كان قائدا لوحدة من الدبابات. لكنه كان قائدا زئبقيا كلما صنع له خصومه العوائق والسدود وجدوه فجأة وبطريقة سحرية خلف عوائقهم بعشرات الكيلومترات. كما برز من الجانب الفرنسى شارل ديجول اللذى كان ايضا اسم غير معروف فى ذلك الزمن. وهو كان الضابط الفرنسى الوحيد اللذى استطاع صد هجوما للدبابات الألمانية وجعلها تنسحب. وذلك الأمر جعل رئيس الوزراء الفرنسى رينو يهتم به كثيرا. فالحالة المعنوية الفرنسية كانت فى وسط الشعب والحكومة منخفضة فقام بترقيته وتعيينه فى الحكومة كسكرتير ومسئول عن التنسيق العسكرى بين فرنسا وأنجلترا. وكانت هذه بداية ديجول السياسية.
لكن اذا كانت هناك شخصية تمثل حال فرنسا فى الحرب العالمية الثانية فأنها بلا شك شخصية المارشال بيتان Pétain . فسيرة هذا الرجل عجيبة وكأنها تراجيديا اغريقية. فقد تحول به الحال من قمم الشرف والمجد الى قيعان الخزي والعار. وقصته تمثل حال فرنسا اللذى يختلط فيه كثيرا العظيم مع الفظيع. كان بيتان أشرف أنسان فى فرنسا. فكان بيتان بطل فرنسا فى معركة الفردان فى الحرب العالمية الأولى وصدر قانون بترقيته الى رتبة مارشال ليس من قيادته العسكرية او من رئيس الدولة لكن من البرلمان الفرنسى مجتمعا. وحصل على عصا المارشالية من رئيس الدولة. ولتكريمه أكثر كان من ضمن الوفد اللذى وقع على معاهدة فرساى ممثلا الجانب الفرنسى. وبعد أن انتهى دور بيتان العسكرى عمل فى المجال الدبلوماسى فتم أرساله سفيرا فوق العادة لفرنسا عند الديكتاتور الأسبانى فرانكو. وبعد أن اندلعت الحرب العالمبة الثانية وبعد اداء فرنسا المخزي قرر رئيس الوزراء الفرنسى الأستعانة ببيتان لأنه بطل قومى معروف وذلك لرفع الروح المعنوية فعينه نائبا له. وكان عمر بيتان فى ذلك الوقت 84 عاما. وودع بيتان فرانكو قائلا انه سيعود الى فرنسا اللتى أنهزمت فى الحرب وهذه نتيجة طبيعية لعمل الماركسيين اللذين افسدوا البلاد على مدي الثلاثين عاما الماضية.
كان بيتان يمينيا متشددا وكان فى كثير من مواقفه قريب من أفكار هتلر. ورأى كثير من القادة الفرنسيين ان فرنسا لا يمكنها أستكمال الحرب بهذه الصورة ولابد لها من وقف اطلاق النار. وكانت أغلبية الحكومة تتبنى ذلك الرأى وكذلك كان بيتان. اما رئيس الوزراء رينو فكان يرى عكس ذلك ويرى ضرورة استمرار المقاومة والقتال. ولكنه عندما وجد نفسه من ضمن الأقلية أستقال وتم تكليف بيتان بتولى شأن رئاسة الوزارة والوصول الى أتفاق لوقف اطلاق النار مع الألمان فوقع معهم وثيقة هزيمة فرنسا في 22 يونيو عام 1940 كما كان وقع معهم من قبل وثيقة انتصارها.
وذاق الفرنسيون الذل عندما اصر الألمان أن يتم توقيع اتقاقية وقف أطلاق النار فى نفس عربة القطار اللتى وقعت فيها ألمانيا على وثيقة أستسلامها فى الحرب العالمية الاولى. وشعر الفرنسيون بالمهانة عندما قامت القوات الألمانية بعمل استعراضات النصر فى قلب فرنسا فى شارع الشانزلزية ومارة بقوس النصر وأخذة نفس المسار اللذى سارت فيه القوات الفرنسية المنتصرة فى الحرب العالمية الأولي
نصت وثيقة وقف اطلاق النار الى تقسيم فرنسا الى منطقتين: منطقة تحت ادارة الاحتلال العسكرى الألمانى فى شمال وغرب فرنسا. وكانت تبلغ مساحة هذه المنطقة 60% من مساحة فرنسا ومنطقة اخرى غير محتلة. وكانت عاصمة هذه المنطقة الغير محتلة تقع فى مدينة فيشى جنوب باريس وان كان ذلك بشكل غير رسمى لأن الدستور الفرنسى ينص على أن باريس هى عاصمة البلاد. ولذلك يطلق على حكومة فرنسا فى تلك الفترة حكومة فيشى. واصبح بيتان رئيسا لجمهورية فيشى. وذلك بعد أن استطاع الحصول من البرلمان على تغييرات فى الدستور جعلت لرئيس الدولة صلاحيات شبه مطلقة تشريعية وتنفيذية وقضائية تجعل من رئيس الدولة دكتاتورا كما كان نظام الحكم فى ألمانيا. وطلبت منه المانيا ان يكون شريكها فى الحرب العالمية الثانية ولكن بيتان رفض وقال ان فرنسا ستبقى على الحياد ولكنها ستعاون الألمان فقط ولن تكون شريكا رسميا فى الحرب. وقام بيتان بالدفاع عن سياسة التعاون مع المانيا بأنها ضروة حتمية. وغير بيتان من صفة فرنسا من جمهورية لانه كان يكره ذلك الأسم الى دولة وقدم ثلاثية جديدة كشعار لفرنسا الجديدة: العمل الأسرة الوطن. وذلك كبديل غير رسمى لشعار فرنسا منذ الثورة الفرنسية: الحرية المساواة الاخاء. وتقبل الفرنسيون ذلك فى بداية الأمر لكن مع مرور الزمن ضاقوا به زرعا بسبب تضييق الحريات وانه بمرور الزمن تحول بيتان الى دمية فى يد هتلر. وقام على سبيل المثل بترحيل اليهود الفرنسييىن الى معسكرات العمل الاجبارى فى بولندا
فى هذه الاثناء كان ديجول مثله مثل رينو رئيس الوزراء ضد استسلام فرنسا وكان يرى ضرورة مواصلة القتال فقام بالهرب الى انجلترا بعد ان قام بالأستيلاء على مائة الف فرنك فرنسى ذهبى وقام بتأسيس ما يعرف بالقوات الفرنسية الحرة. حيث قام بعمل نداء شهير فى محطة البى بي سى الأنجليزية دعا فيه الضباط والجنود والمهندسين الفرنسيين بالأنضمام اليه فى انجلترا ومواصلة الحرب. وقال صحيح ان فرنسا خسرت الحرب لكن هذه الحرب ليست حربا فرنسية ولكنها حربا عالمية والحرب مازالت قائمة وهناك فرصة قادمة لتعويض خسارة فرنسا. وانضم له مباشرة بعد خطابه باسابيع قليلة حوالى سبعة الاف شخص لكن كان هذه العدد فى تزايد خاصة من القوات الموجودة فى المستعمرات الفرنسية فى الخارج. ووصل عدد الفوات الفرنسية الحرة عند تحرير فرنسا الى 400 ألف مقاتل. وقام ديجول بعد فترة بتأسيس حكومة فرنسية موازية فى المنفى. ويعتبر ديجول هو صاحب الفضل فى أنه لم يجعل فرنسا تختفى بالكامل من ساحة المواجهة ولكنه جعل هناك بشكل ما فرنسا أخرى موجودة على ساحة القتال وان كان ذلك بشكل رمزى وسياسى اكثر منه بشكل عسكرى حاسم مؤثر.
كما نشأت داخل فرنسا مجموعات للمقاومة Résistance. لكن هذه المجموعات لم تكن لها ادارة مركزية ولم تكن لها علاقة بالقوات الفرنسة الحرة اللتى قام ديجول بتأسيسها خارج فرنسا. وقد حاول ديجول لاحقا التنسيق مع هذه المقاومة الداخلية ووضع اهدافا عامة تربط بينها.
وكعادة الانجليز – حتى اليوم – فهم يحبون أن تبقى جميع أوراق اللعب في يدهم كاملة. فهم قد أووا ديجول والمعارضة الفرنسية لكنهم رأوا التعاون رسميا مع الحكومة الفرنسية و بيتان كممثل لفرنسا. لكن بريطانيا بعد فترة قصيرة أعلنت عن تخليها عن بيتان وقالت ان ديجول هو المسئول عن الفرنسيين بالكامل. ولم تكن العلاقة بين تشرشل وروزفلت من ناحية و ديجول من الناحية الأخرى على المستوى الشخصي جيدة. وكان لديجول عبارة شهيرة يرددها بأن فرنسا ليس لها أصدقاء ولكن مصالح. حتى ان الانزال البحرى على شواطئ النورماندى لم يتم اشراك ديجول فيه وتم اخباره فقط قبل فترة بسطية من الموعد. وفى هذه الاثناء تم الحكم على ديجول فى فرنسا غيابيا بالأعدام بتهمة الخيانة العظمي
وكانت اتفاقية وقف اطلاق النار تنص على ان المستعمرات الفرنسية ستبقى على حالها. اى انها ستبقى تابعة لفرنسا. وأمر المستعمرات الفرنسية يهمنا لانها كانت تضم الكثير من البلدان العربية كلبنان وسوريا والمغرب والجزائر وتونس. وبعد استسلام فرنسا حدث صدام عسكرى فى 3 يوليو من عام 1940 بين انجلترا وفرنسا فى ميناء المرسى الكبير فى الجزائر حيث كانت انجلترا تخشى من حصول المانيا على الأسطول الفرنسى فقامت غدرا باغراق الاسطول الفرنسى الراسى فى الميناء فمات جراء هذه العملية حوالى 1300 فرنسى. وسببت هذه العملية كرها بين البحارة الفرنسيين بصفة خاصة والقوات الانجليزية
وكانت اول القوات الفرنسية اللتى تمردت على الوضع الجديد القوات الفرنسية فى افريقيا السوداء. فتمردت القوات الفرنسية فى تشاد في اغسطس من عام 1940 واعلنت انضمامها الى ديجول والقوات الفرنسية الحرة ثم تبعتها المستعمرات فى الكاميرون ووافريقيا الاستوائية فى خريف نفس العام وانضمت بعض القوات للقتال مع القوات الانجليزية فى مصر.
اما البلاد العربية فدعونا نبدأ بالمشرق العربى. كانت القوات الفرنسية موجودة فى لبنان وسوريا وجنوب تركيا. بينما كانت القوات الانجليزية موجودة فى العراق وفلسطين ومصر. فى البداية بقى الوضع كما هو عليه بدون تغيير. فقد كانت القوات الفرنسية على الحياد. لكن تغير الوضع عندما قامت ثورة رشيد الكيلانى الفاشلة فى العراق واللتى كانت موجهة ضد الأنجليز وقام الطيران الألمانى بدعم هذه الحركة انطلاقا من القواعد الجوية الفرنسية فى سوريا. لكن بعد فشل هذه الحركة شعرت انجلترا بالخطر لأن قواتها الموجودة فى فلسطين ومصر واقعة بين فكى كماشة بين القوات الالمانية الموجودة فى ذلك الوقت فى ليبيا وبين قوات حكومة فيشى اللتى يمكن ان تسمح للألمان بالعمل من فوق الأراضى اللتى تمتلكها. فقررت انجلترا اخراج الفرنسيين من تلك المناطق. وكان عدد الجيش الأنجليزى قليل جدا. وكان جل اعتماده على جنود الأمبراطورية الانجليزية عبر العالم. فشاركت فى تلك المعارك قوات من استراليا ومن الهند والفيلق العربى من الاردن وكان هناك عدد كبير من المتطوعين اللبنانين يقودهم الجنرال فؤاد شهاب اللذي اصبح رئيسا لجمهورية لبنان فيما بعد واللذى كانت تربطه علاقة صداقة بشارل ديجول حينما كان يعمل فى بيروت. وقد انضمت تلك القوات المكونة من 22 الف جندي الى القوات الفرنسية الحرة. كما شاركت قوات الهاجانا اليهودية فى تلك الحرب. وهذه القوات اصبحت فيما بعد نواة الجيش الاسرائيلى والكبار من العمر نسبيا ربما يتذكرون موشى ديان اللذى شغل العديد من المناصب فى الحكومات الاسرائيلية وكان ما يميزه انه يضع عصابة على عينه. وربما مالايعرفه البعض انه قد فقد عينه عند نهر الليطاني عندما كان يشارك مع القوات البريطانية وقام قناص فرنسى بقنصه فى عينه حينما كان ينظر فى منظار مكبر مما اصابه بعاهته المستديمة اللتى لازمته بعد ذلك طوال حياته. وقد تم طرد الفرنسيين من سوريا ولبنان فى يوليو عام 1941
اما طرد الفرنسيين من بلاد المغرب العربى فان ذلك تم فى اواخر عام 1942 وبدايات عام 1943 . وقد تم اختيار الامريكيين لتلك المهمة. فقد كانت الولايات المتحدة الامريكية قد دخلت الحرب بعد أعتداء اليابان واعلان هتلر الحرب عليها. وتم اختيار امريكا لتطهير شمال افريقيا من القوات الموالية لفيشى لعدة اسباب. اهمها علاقة الصداقة بين الامريكيين والفرنسيين. وكانت هناك معلومات ان الفرنسيين غير سعداء بسبب تعاون فرنسا مع ألمانيا. وهم قد رفضوا من قبل المشاركة مع قوات رومل فى شمال أفريقيا بدعوى أنهم على الحياد. وكان الحلفاء متفائلين وتوقعوا أنه ربما تنضم القوات الفرنسية الى قوات الحلفاء وقد كان هذا الحال بالفعل مع القوات الفرنسية الموجودة فى الجزائر حيث قامت بانقلاب عسكرى وأنضمت الى الحلفاء. وكانت التعليمات الصادرة للقوات الأمريكية بعدم فتح النيران اولا. لكن دارت بعض المعارك بين الحلفاء والقوات الفرنسية اللتى استسلمت سريعا.
وشعرت المانيا بالغصب جراء احتلال الحلفاء لشمال أفريقيا وقالوا ان الفرنسيين لم يقاتلوا بالشكل الكافى فقامت المانيا وبمعاونة ايطاليا باحتلال فرنسا بالكامل ولكنها مع ذلك ابقت على حكومة بيتان اللتى لم يصبح لها اى وزن فعلى.
اما القوات الفرنسية الموجودة فى أسيا فقد بقت موالية لحكومة فيشى حتى نهاية الحرب. وقد سمحت للقوات اليابانية باستخدام مواقعها عندما طلبت منها ألمانيا ذلك.
وفي ذلك الوقت كانت الأستعدادات قائمة علي قدم وساق من اجل الأنزال البحرى. وكانت هناك تحديدا منطقتان تصلحان للأنزال البحرى وهما مدينة كاليه وسواحل النورماندي. اما كاليه فهي الأقرب للسواحل البريطانية وهي المدينة اللتى تطالعنا اخبارها يوميا لأن هناك لاجئين موجودين عند هذه المدينة يريدون الهروب من فرنسا الى انجلترا. اما سواحل النورماندي فكانت أبعد لكن تضاريسها افضل بالنسبة لعملية الهجوم. وكان يتخلل تلك الفترة عمليات انزال كاذبة للمرواغة ولخداع الالمان ولتعميتهم حينما يأتى اليوم المقرر للعبور. واستمر الحال هكذا حتى 6 يونيو من عام 1944 حيث عبرت القوات الامريكية والأنجليزية تعاونها قوات كندية واسترالية ونيوزلاندية وبولندية وبعض القوات الفرنسية الحرة بحر المانش عند سواحل النورماندي وظن الألمان اولا ان هذا عبور كاذب فهم كانوا يتوقعون عملية العبور الحقيقية ان تتم عند مدينة كاليه. لكن كانت هذه بالفعل الجبهة الثانية اللتى طالما ألح ستالين في طلبها. كانت مقاومة الألمان عنيفة لكن موازين القوى كانت قد تغيرت وابتدأ الخناق يضيق على ألمانيا من الشرق والغرب.
وتمكنت قوات الحلفاء من تحرير فرنسا بالكامل. ثم قامت المانيا بمحاولة يائسة اخيرة والقيام بهجوم مضاد. لكن هذا الهجوم فشل ولم يبقى امام المانيا سوى الأستلام.
وفى تلك الاثناء كان بيتان قد قام بتسليم نفسه للحكومة الفرنسية الجديدة فقدمته للمحاكمة اللتى أدانته بتهمة الخيانة العظمى وقضت عليه بالأعدام مع تجريده من شرفه العسكرى وجميع الأوسمة اللتى حصل عليها. وهنا تدخل ديجول ونجح فى تخفيض الحكم عليه بسبب سن بيتان الكبير الى السجن مدي الحياة. ومات بيتان فى سجنه ومنفاه فى عمر الخامسة والتسعين. وحياة بيتان كانت عجيبة جدا فبعد ان كان يرفل فى العز والفخار انتهي به الحال الى مزابل الخزي والعار. ويشكل بيتان منطقة محرمة وثقبا اسودا عند كثير من الفرنسيين فكان كثير من الناس يتعاطفون معه بسبب تاريخه البطولى والبعض يدافع عنه بدعوى انه لم يكن يملك من أمره شيئ واخرون يقولون انه كان جيد ولكن من كانوا حوله كانوا سيئين. فقط الرئيس الفرنسى شيراك كان اول من كسر ذلك المحرم وقال صراحة ان بيتان كان مجرما. اما عند اليمين الفرنسى المتطرف فبيتان هو بطل. فعند لوبان مؤسس حزب الجبهة الوطنية ورئيسه السابق فأن بيتان بطل عظيم. بينما بنته مارى لوبان رئيسة الحزب الحالية تتجنب الحديث حول هذه النقطة.
ثم وقعت المنطقة الجنوبية الغربية الالمانية تحت الاحتلال الفرنسى حتى تم تاسيس دولة المانيا الغربية عام 1949 ثم تم الانسحاب الكامل فقط فى عام 1994 . والعلاقة اليوم بين فرنسا والمانيا تستحق الأعجاب والتقدير. فقد رأت الدولتان انه لايجب العيش فى الماضى ويجب النظر الى الأمام فقامتا الدولتان بصفة خاصة بتاسيس الأتحاد الاوروبى وتربطهما اليوم علاقة صداقة قوية.
اما فرنسا اليوم فتبقى كما كانت دوما ذات مناخ سياسى صاخب ملئ بكافة انواع الشحنات والصواعق وحالة الاستقطاب السياسي هي السائدة وسيشهد عام 2017 انتخابات فرنسية جديدة ربما يكون لها تأثيرا تاريخيا على اوروبا كلها.