هناك شخصيات علمية تلعب انجازاتها دورا مهما فى حياتنا اليوم. مع ذلك فان سيرتهم الذاتية مجهولة بالنسبة لنا. مع أنها – أي سيرتهم الذاتية – قد تكون أحيانا مدهشة فى حد ذاتها وغير نمطية بل وتصلح لان تكون قصة سينمائية أو رواية أدبية. مع ذلك بقى حظهم من الشهرة قليل جدا. من ضمن هؤلاء كارل فايرشتراس.
كارل فايرشتراس هو مؤسس التحليل الرياضي أو ال analysis كما نعرفه اليوم. او اذا اردنا الدقة هو أحد أهم المؤسسين. ويطلق عليه أبا حساب الدوال الحديث. كانت البداية عند اسحاق نيوتن اللذي ادخل افكارا عبقرية غير مسبوقة لما يعرف بحساب التفاضل و التكامل. وكان لهذا نتائج مذهلة. فقد تدفقت اكتشافات علمية ورياضية هائلة بعد أكتشاف نيوتن العظيم.
لكن المشكلة كمنت في ان أفكار نيوتن العبقرية الهادرة لم تكن صياغتها محكمة 100 %. فظهرت مشاكل ومتناقضات وصداع رأس لكل العاملين فى الحقل الرياضي. ومن يفقه الرياضيات حقيقة يدرك ان الرياضيات ليست الا صياغة. فهى لغة كالعربية أوالأنجليزية. والفارق بين الرياضيات واللغات المستخدمة فى الحياة اليومية. ان الرياضيات اكثر بساطة وبدائية من اللغات الأخري. الا انها على الجانب الأخر اكثر صرامة ودقة.
وفايرشتراس هو من صاغ علم حساب الدوال بالصورة اللتى نعرفها عليها اليوم. فكان كعالم اللغة او رجل القانون اللذي يصيغ الأفكار الثمينة فى عبارات وصياغات محكمة ليصنع جسرا مكان الرياضيات من العبور من فوقه فوق اي مشكلة ونجاها من السقوط فى هوة التناقضات والمتضادات.
ولد كارل فايرشتراس فى عام 1815 وهو العام اللذى جرت فيه معركة وترلو الشهيرة فى مدينة مونستر الألمانية. وقد كان الأخ الأكبر لثلاثة أشقاء. ماتت أمه وهو فى الحادية عشرة من عمره وتزوج أبوه من أمرأة أخري يبدو انها لم تكن تهتم كثيرا بتعليم أبناء زوجها. وحتى أبوه كان حريصا على ان يعمل ابناؤه مبكرا. وقد عمل كارل منذ كان عمره خمسة عشرة عاما في أوقات فراغه كمحاسبا لدي أحد المعارف.
انهى كارل الدراسة فى المرحلة الثانوية بتفوق كبير وخصوصا فى مادة الرياضيات. هذا دفع اباه لان يلحقه بجامعة بون ليتخصص فى دراسة المحاسبة والقانون. وذهب بالفعل الفتى كارل الى جامعة بون للدراسة.
كان كارل فايرشتراس مقبلا على الحياة وكان قويا طويل القامة وفى غاية الرشاقة. كانت حياة كارل فايرشتراس الجامعية عبارة عن السمر مع اصدقائه: يجلسون على الطاولة يحتسون البيرة ويلعبون المبارزة. ويقال نظرا لرشاقة كارل وقوته انه لم يخسر اى تحدي فى المبارزة. وكان كارل يتعلم ما يهواه فقط. فمضت اربع سنوات هي مدة التحاقه بالجامعة لم يقدم فيها لامتحان واحد. عاد بعدها الى أهله وقد اصابهم بخيبة أمل هائلة.
وبعدما بدد كارل 4 سنوات من عمره وجزء غير قليل من ثروة العائلة كانت عائلته تتحدث عنه كشخص ميت. حتى اتى احد معارف الأسرة واخبرهم ان هناك معهد قريب لأعداد المعلمين فترة الدراسة فيه عامان. ونصحهم بان يعطوا كارل فرصة ثانية ليصبح معلما.
وبالفعل التحق كارل بالمعهد لكنه هذه المرة لم يضع وقتا فقد اهتم بدراسته وخاصة الرياضيات اللتي كانت تستهويه. وفى نهاية الدراسة كان ينبغى على الطلاب تقديم بحثا للتخرج. وهذا البحث فى العادة عبارة عن اسئلة تقليدية لكنها صعبة الى حد ما يتلقاها الطالب من استاذه اللذي يعرف الأجابة الصحيحة بطبيعة الحال. ثم على الطالب ان يجيب علي هذه الأسألة بصورة صحيحة يثبت بها جدارته لكي يكون معلما يدرس التلاميذ. لكن فى حالة فايرشتراس كان الأمر مختلفا. كان أستاذ فايرشتراس منبهرا به جدا. والسؤال اللذى أعطاه أياه لم يكن هو نفسه يعلم اجابته! فقد كانت مسألة رياضية مفتوحة لا يعلم احد أجابتها فى ذلك الزمان. واجازت ادارة المعهد هذا السؤال وقالت انه بناء على طلب الاستاذ ورغبة الطالب نفسه فقد قامت بعمل استثناء واجازت هذا السؤال.
وبالفعل لم يخذل الطالب استاذه واستطاع اجابة قضية رياضية متطورة فى ذلك الزمان. ونجح فايرشتراس فى انهاء دراسته وكتب استاذه توصية غير عادية في حقه موجهة لادارة المعهد. حيث قال ان هذا الطالب اكثر من ممتاز وانه لا يري ان مكانه ان يصير مدرسا فى احد القري الألمانية يدرس الأطفال الحساب واللغة الألمانية والجغرافيا ولكن مكانه ينبغى ان يكون فى احدي كبريات الجامعات الألمانية المتخصصة فى الرياضيات لكي يفيد العالم بعبقريته الفذة. لكن ادارة المعهد شطبت التوصية الخاصة بتحويله للجامعة وابقت على الثناء الغير استثنائى لفايرشتراس.
وبالفعل صار كارل فايرشتراس فى السادسة والعشرين من عمره مدرسا للأطفال فى احد القري المغمورة. وبقى هناك اكثر من 15 عاما. لكن حب فايرشتراس للرياضيات لم يتوقف وصار يبحث فى أوقات فراغه فى المواضيع الرياضية.حيث وصل الى صورة كاملة لما ينبغى ان تكون عليه الرياضيات. لكنه لم ينشر اى من اكتشافاته لانه مرتبه كان ضئيل جدا لا يسمح له حتي بشراء طابع البريد ليرسل أعماله لاحد المجلات الرياضية المتخصصة.
لكن بعدما تجاوز فايرشتراس الأربعين من عمره ارسل عمله مكتملا الى احد المجلات الرياضية اللتى قامت بنشره. وفجأة اصبح اسم فايرشتراس أشهر من النار على العلم. ولم تكن المفأجأة فى نتأئج فايرشتراس فقط ولكن فى حجم عمله. فانه من النادر جدا ان يكتشف الأنسان فرعا كاملا من العلم وهو منعزل عن العالم الخارجي وليس عضو تدريس فى جامعة كبيرة. ففائدة الجامعات الكبيرة هى انها ملتقى للعقول الذكية والكبيرة مما يتيح الفرصة للتواصل بين هذه العقول عن طريق النقاشات فيتم تلقيح الكثير من الأفكار واخصابها بل وحتي انتاجها. لكن ان يقوم انسان بمفرده بكتابة تخصص كامل فى الرياضيات كان أمرا عجيبا جدا.
ولم يمر وقت طويل حتى قامت جامعة برلين اهم جامعة للرياضيات فى ذلك الوقت بمنح فايرشتراس الدكتوراة الفخرية فى الرياضيات ودعته لأن يقوم بالتدريس لديها. وهناك قام فايرشتراس بالتأثير على أجيال كاملة من أهم الرياضيين فى تاريخ الرياضيات. وهناك قابل رياضى كبيروهو الرياضي كرون ايكر المعروف من خلال النظرية النسبية اللذي كان خلافه فى كل شئ: من حيث الجسم كان كرونايكر قصيرا وفايرشتراس طويلا. من حيث النشأة الاجتماعية كان كرونايكر من عائلة ثرية وفايرشتراس من عائلة فقيرة. من حيث الطباع كان كرونايكر حادا بينما كان فايرشتراس هادئا. من ناحية فلسفة رؤيتهم اللرياضيات كانوا مختلفين فى كل شئ. وكانت كثيرا ماتدور بينهم نقاشات حامية شبهها احد المعاصرين لهم بكلب صغير يهاجم بعدوانية كلبا اكبر منه حجما بكثير. وكانت لهذه النقاشات نتائج هامة ربما نتعرض لها فى مرة أخري ان شاء الله.
Pingback: مشاكل المالانهاية وفندق هلبرت | روائع العلوم