يناجي الشعراء القمر على مر الأزمان. ويبوح العشاق له بمكنون صدورهم بلا استئذان. بينما على الجانب الأخر فأن القمر طبعه الكتمان. فهو يحافظ على أسراره بالرغم من أن جيرانه اللذين يسكنون امام عتبة بابه يوجهون كل ليلة احداقهم اليه. حتى واتتهم القدرة فصوبوا مواسير تيليسكوباتهم اليه حتى واتتهم القدرة فوجهوا أقمارهم الصناعية اليه حتى واتتهم القدرة فارسلوا صواريخهم ببشرهم وعتادهم ومسابيرهم اليه! وقبل ذلك وبعده فأن القمر يخفى نصفه عنا. فنحن عبر السنوات لم نشاهد الا وجها واحدا للقمر وهو الجانب اللذى يواجه الأرض. ولكن على الناحية الاخرى يوجد جانب مختبئ ولم يره الا القليل من البشر.
وحار الفلكيون حول السر اللذى قد يخبأه القمر خلف ظهره. وظنوا حتى منتصف القرن العشرين أن هناك قد توجد Maria .!! وماريا ليس اسم علم ولكنها كلمة علمية متخصصة لوصف سطح القمر. وهى كلمة لا تينية معناها بحور. ومن هذه الكلمة يشتق الأسم العلم. ومفرد الكلمة هى Mare . ومن هذه الكلمة تشتق كلمة مارينا اللتى توجد فى اسماء بعض المدن الساحلية العربية. كما تشتق كلمة marines الانجليزية ومعناها مشاة البحرية الأمريكية. كما تشتق الكلمة الفرنسية la mere وكذلك الكلمة الألمانية das Meer ومعناهما البحر! فنحن نستطيع أن نرى بعيوننا المجردة بقعا غامقة اللون على سطح القمر. وظن الفلكيون فى بداية الأمر ان هذه بحار او محيطات. لكن الدراسات الحديثة اوضحت ان هذه البقع ليست ماء ولكنها حمما بركانية متجمدة. كما خيبت صور الجانب البعيد من القمر توقعات الحالمين. فقد أظهرته سطح ممل. صلب فى معظمه و لا يحتوى على ماء او حتى حمم متجمدة كما فى الجانب المقابل لنا. أذن فليس هذا هو السر اللذى سنحاول ان نكشفه اليوم. ولكنننا سنحاول ان نكشف عن سر اجمل وهو لماذا نرى نفس الوجه من القمر دائما؟
الاجابة بسيطة جدا. فنحن نرى دائما نفس الجانب من القمر لأنه فى حركته يلف ويدور بالمعنى الحرفى للكلمة! فالقمر يدور بمعنى انه يرسم دائرة نصف قطرها 400 الف كيلومتر. ولولا هذا الدوران لسقط القمر فوق الأرض. لكن لو كان القمر يدور فقط بدون التفاف لانكشف ظهره عندما يأتى عند الموضع المقابل للأرض اثناء دورانه. ولذلك فالقمر يلف حول محوره اثناء دورانه بحيث يواجه الأرض دائما بنفس الوجه. وشريطة ذلك أن يكون زمن التفاف القمر دورة واحدة حول محوره يساوى تماما زمن دوران القمر دورة واحدة حول الأرض. وأن لم يتم ذلك بحذافيره فسوف ينكشف ظهر القمر اثناء دورانه. وبالفعل فان القمر يدور حول محوره وحول الأرض دورة كاملة كل 28 يوما. لكن هل هذا التساوي فى الزمنين صدفة ام أن هناك سبب أخر أعمق؟
لا أحد يستطيع ان ينكر احتمال حدوث صدفة ما فى الفيزياء لأن حساب الاحتمالات يعطيها قيمة اعلى من صفر. لكن على الجانب الأخر فان الأجابة على أى تساؤل فيزيائى بالصدفة تساوى عمليا الأجابة ب “لا أعلم” !بالأضافة الى ان هذه الأجابة ترسم خط النهاية للبحث العلمى والسعى للبحث عن بدائل افضل. ولذلك يتجنب الفيزيائيون ما امكنهم هذا النوع من الأجابات ولم نعد نسمعه عمليا اليوم. وسبب تساوى زمن التفاف القمر حول محوره ودورانه حول الأرض يعود الى ظاهرة المد والجزر!
نعلم ان سبب ظاهرة المد والجزر يعود الى الفارق بين قوة الجاذبية من جانب وقوة الطرد المركزى من جانب اخر. ولذلك يرتفع الماء المواجه للقمر بسبب تفوق قوة الجاذبية ويرتفع الماء فى الجهة البعيدة عن القمر بسبب تفوق قوة الطرد المركزي. لكن ما ينبغى ان ننتبه اليه هو ان ظاهرة المد والجذر ليست مقصورة على البحر فقط. فهى تظهر فى اليابسة ايضا. فاليابسة تشعر ايضا بالفرق بين قوة الجاذبية وقوة الطرد المركزى كما البحر تماما. لكن الفارق بين اليابسة و البحر ان قوة تماسك اليابسة اكبر بكثير منها من البحر. ولذلك فى حين يرتفع البحر بالأمتار بسبب المد والجزر فأن اليابسة ترتفع وتنخفص سنتيمترات قليلة فقط! ونحن لا نشعر بهذا الأمر بسبب ضألته ولكن الأرض اللتى نمشى فوقها ترتفع وتنخفض يوميا وتسجل اجهزة القياس الدقيقة هذا الامر بدقة تامة. فالكرة الأرضية ليست جامدة ولكنها تخفق كالقلب البشرى كل يوم! ومن المهم ان ننتبه ايضا الى أنه ليس القمر فقط هو اللذى يسبب المد والجزر على الأرض ولكن الأرض ايضا تسبب المد والجزر على القمر. وهذه هى نقطتنا المحورية اليوم.
اذن الأرض تؤثر فى شكل القمر وبشئ من المبالغة فانها تجعله اقرب الى كرة الرجبى منه الى كرة القدم. وبحيث يقع الجانب الأطول من الكرة فى مواجهة الارض. وبسبب تأثير قوى المد والجزر من الأرض على القمر من ناحية. وبسبب ان مادة القمر ليست مرنة تماما من ناحية وبسبب تغير موضع القمر من الارض اثناء حركته من ناحية ثالثة فكل ذلك يؤدى الى ظاهرة تعرف ب tidal locking أو تثبيت زمن التفاف القمر حول محوره وجعله يساوى زمن دورانه حول الارض. وذلك يوضحه المثال التالى.
اذا ضغطنا على كرة مطاطة مرنة باصبعي السبابة والأبهام فسنجد ان شكلها سوف يتغير وسوف تنبعج فى مناطق معينة. ثم اذا رفعنا اصابعنا بسرعة كبيرة عن الكرة فماذا سوف نلاحظ؟ سوف نلاحظ ان الكرة سوف تستعيد شكلها الأصلى بعد برهة قصيرة. وهذه البرهة القصيرة هى اللتى تهمنا اليوم! فمعنى ذلك ان الكرة فى لحظات معينة سوف يكون شكلها مشوها على الرغم من انه لا توجد قوة خارجية تسبب هذا التشوه!. وسبب هذا ان الكرة المطاطية لا تتبع تأثير اصابعنا فورا. فسواء حركنا اصابعنا سريعا ام لا فهناك قوى داخلية تتولد بداخل الكرة وهى اللتى تحدد السرعة القصوى لاستجابة الكرة للمؤثرات الخارجية.
تثبيت القمر من جانب الأرض
والقمر ليس اكثر مرونة من الكرة المطاطية ومن هنا فانه يحتاج الى وقت اطول حتى يتخلص من تأثير القوى الواقعة عليه او يستجيب لها. وكما علمنا فأن القمر يدور حول الأرض ويلف حول محوره. فلو كانت سرعة التفافه حول محوره اكبر بكثير من سرعة دورانه حول الأرض- كما فى حالة الأرض مثلا فهى تدور حول محورها مرة كل يوم بينما تدور حول الشمس مرة كل 365 يوم- وبشيئ من المبالغة يمكننا تخيل القمر وقد التف ولكنه لم يتقدم فى مداره. فلم يعد الجانب الطويل يقع على الخط الواصل بين مركزى الأرض و القمر ولكنه ياخذ وضعا منحرفا. ولو افترضنا اننا ننظر للقمر من ناحية بحيث نشاهده يدور حول الأرض ويلف حول محوره فى عكس اتجاه دوران عقارب الساعة فسوف نشاهد انحراف الاتجاه الطولى للقمر ايضا فى عكس اتجاه عقارب الساعة. وتجذب الأرض الجانب القريب منها بقوة اكبر من الجانب البعيد كما ينص قانون نيوتن للجاذبية. وبالتالي تسبب قوة الجذب على الجانب القريب عزم دوران حول منتصف القمر فى اتجاه دوران عقارب الساعة بينما تسبب القوة على الجانب الأبعد عزم دوران فى عكس اتجاه دوران عقارب الساعة. وحيث ان القوة على الجانب الأقرب هى الأقوى فتكون النتيجة النهائية هى عزم دوران فى اتجاه دوران عقارب الساعة. او ان الأرض تبطئ من سرعة التفاف القمر حول محوره!.
ولو أفترضنا ان العكس هو الحاصل وأن سرعة دوران القمر حول ألارض اكبر بكثير من سرعة التفافه حول محوره. فبشئ من المبالغة يمكننا تصور القمر وقد تحرك فى مداره حول الأرض ولكنه لم يلتف و الجانب الطويل مازال موازيا لنفسه مما يعنى مرة اخرى ان الجانب الطويل لن يقع على الخط الواصل بين مركزي الأرض والقمر. لكن فى هذه الحالة فان القوة المؤثرة على الجانب القريب تسبب عزم دوران فى عكس أتجاه دوران عقارب الساعة بينما القوة على الجانب البعيد تسبب عزم دوران فى الأتجاه الأخر. فتكون المحصلة النهائية هى عزم دوان فى عكس اتجاه عقارب الساعة. أو ان الأرض تسرع من سرعة التفاف القمر فى هذه الحالة.
أذن الخلاصة بغض النظر عن سرعة التفاف القمر الابتدائية فان الأرض تعمل على تثبيت سرعة التفافه وتجعلها تساوى سرعة دورانه حول الأرض! وصحيح ان عزم الدوران الناشئ قليل ولكنه قادر على تثبيت القمر وفى فترة زمنية قصيرة نسبيا تقدر ب 10 ملايين سنة! وظاهرة تثبيت الاجرام الاكبر للاجرام الاصغر منتشرة فى مجموعتنا الشمسية وليست مقصورة على الأرض والقمر فقط. فكذلك المشترى وزحل يثبتون اقمارهم الداخلية. وكذلك الشمس قد ثبتت الكوكبين القريبين منها عطارد والزهرة بحيث صار طول اليوم على هذين الكوكبين قريبا من طول العام عليهما!.
وفى النهاية احب ان أوضح نقطتين. النقطة الأول: أن الجانب البعيد للقمر يطلق عليه احيانا الجانب المظلم من القمر. ولكن هذا الوصف ليس دقيقا وهو اكثر شاعرية ولكنه اقل علمية. فالجانب البعيد من القمر ليس مظلما لانه تسقط فوقه أشعة الشمس. اما الجانب المظلم فهو مفهوم علمى اخر والمقصود منه ذلك الجزء من القمر غير المضئ بسبب ان اشعة الشمس لا تسقط فوقه كما يكون القمر وقت المحاق! اما النقطة الثانية فان الشرح السابق كان فى الظروف المثالية المبسطة ولكن فى الواقع فاننا نستطيع تحت ظروف معينة ان نرى شيئا بسيطا من الجانب البعيد من القمر. ويقدر نسبة أجمالى ما نستطيع ان نراه من ذلك الجانب على مدار العام و تحت ظروف معينة ب 18%.
