نتعرف اليوم على الثورة الفرنسية الثالثة او تلك الثورة اللتى اندلعت عام 1848. وربما يكون من المفيد ان نشير اولا الى الثورتين الاوليتين لما لهما من تأثير بالغ على مسار الثورة الفرنسية الثالثة. بل ان البعض يقول ان الثورة الثالثة ما هي الا المرحلة الثانية من الثورة الثانية اللتى اندلعت عام1830 .
كانت الثورة الفرنسية الاولى عام 1789 تجربة تاريخية فريدة بالنسبة لفرنسا وللعالم كله. فهذه الثورة اللتى استمرت 10 سنوات تقريبا كانت حقل تجارب سياسية لنظم الحكم المختلفة. فلقد استفاد العالم كله من تجربة فرنسا في تلك الفترة في كيفية اعداد الدساتير وتقييم نظم الحكم المختلفة. فقد بدأت الثورة عندما كان نظام لويس السادس عشر قائما ونظام حكم لويس السادس عشر كان نظاما ملكيا مطلقا ينسب شرعيته الى ارادة الله. فكل نظم الحكم الاوروبية في ذلك الوقت كانت تري ان انفرادها بالملك انما هو ارادة الله وقدره. ولو اراد الله غير ذلك لما جلسوا فوق عروشهم. وبالتالى فان اي خارج او ثائر عليهم انما هو رافض لقدر الله متحديا لارادته.فالنظام الملكي المطلق كان هو نظام الحكم الاول. وفي يوليو عام 1789 عندما ثار الفرنسيون على النظام لم يطيحوا بالملك ولكنهم ابقوا عليه في اطار نظام حكم جديد وهوالنظام الملكى الدستوري. اى ان الملك يبقى ملكا بارادة الشعب كما ان للشعب ارادة يسير بها اموره. وبعد فترة تم اتهام الملك بمعاداة الثورة وانه يدعو لغزو فرنسا من الخارج من اجل ارجاع النظام الملكي القديم مرة اخرى. وتم اعدام الملك و اعلان الجمهورية الفرنسية الاولى. وكان هذا نظام حكم مختلف ثالث. لكن الجمهوية غرقت بعد ذلك في بحار من الدماء فقد كان الكل يخون الكل وتدحرجت عشرات الالاف من الرؤوس تحت سكين المقصلة و اثارت اللجان الشعبية اللتى ملأت الشوارع الذعر والهلع. واحس الناس بانعدام الامن والامان وكانوا يشتاقون الى من يعيد لهم الامن والطمأنينة. وهنا ظهر نابليون بونابرت على الساحة فحقق الامن. ولكنه كان ديكتاتورا انهى النظام الجمهوري واعلن نفسه امبراطورا لفرنسا. وكان هذا نظام حكم جديد مرة اخرى.
وحقق نابليون الامن وحفظ دماء الفرنسيين داخل فرنسا و لكنه اراقها انهارا خارج حدود فرنسا. فقد كان نابليون ذا خطط و احلام استعمارية توسعية خاض وتسبب في حروب جمة وكان اسمه يثير الرعب و الفزع فى اوروبا. وفي النهاية فشل مشروع نابليون وتم اسقاطه ونفيه خارج فرنسا.
رأى الفرنسيون بعد ذلك ان النظام الملكى هو افضل نظم الحكم الممكنة. فكل الدول الاوربية الاخرى كانت ملكية. واي نظام اخر سوف يكسبهم عداوة باقى الدول الاوروبية. فتولى مقاليد الحكم لويس الثامن عشر وهو كان ينتمى الى اسرة البوربون و اعتبروا ان ملكه امتداد لحقبة لويس السادس عشر. ولكن الحقبة الملكية الدستورية. ولكن الملك الجديد كان من داخله يريد اعادة النظام الملكى المطلق مرة اخرى. وحاول بقدر الامكان ان يسير بفرنسا في هذا الاتجاه. ثم مات لويس الثامن عشر فخلفه في الحكم اخوه شارل العاشر اللذي كان ملكيا متطرفا يريد ان يرجع الامور الى سابق عهدها بشكل فج فاصدر عدة قرارات عام 1830 من اجل انهاء حرية الصحافة و الغاء مجلس النواب وتخفيض عدد الفرنسيين اللذين يحق لهم التصويت الى 25% من العدد الحالي. فلم يتحمل الشعب الفرنسى هذه العجرفة وهذه القرارات فخرج الشعب الى الشارع في مظاهرات حاشدة وهرب الملك الى خارج البلاد. وكانت هذه ثورة 1830. وهنا صنع الشعب الفرنسى شيئا عجيبا فقد قال مرة اخرى فليكن الحاكم ملكا. ولكن في هذه المرة نحن سوف ننصب واحدا عاديا من الشعب ولاينتمى لاى اسرة مالكة او نبيلة ملكا . فاختار الشعب لويس فيليب ملكا عليهم بعد ان كان مواطنا عاديا. واسمحوا لي بهذه المزحة كان لويس فيليب ملكا ورجل اعمال! لويس فيلييب كان اغنى انسان فرنسى في ذلك الزمن وهو كان ينتمى الى الطبقة البرجوازية. طبعا لايجب الخلط بين الطبقة البرجوازية وطبقة النبلاء. فطبقة البرجوازية كانت طبقة صاعدة في اوروبا تضم رجال الاعمال او بمعنى ادق هم اصحاب الاعمال اللذين لايكسبون قوتهم عن طريق عمل يدوي مباشر بل عن طريق امتلاكهم لوسائل الانتاج كرأس المال او المعدات او العمالة. وهذه الطبقة لم تكن بالضروة ثرية. فهي كانت تضم 3 فئات: البرجوازيون الصغار وتلك الفئة كانت تشمل اصحاب المقاهي و الحوانيت الصغيرة او ماشابه ذلك. والطبقة الثانية هي البرجوازية الصناعية اللتى كانت تضم رجال الاعمال المرتبطة طبيعة عملهم بالصناعة. ثم كانت هناك فئة البرجوازية المالية واللتى كانت تضم اصحاب البنوك و المضاربون في البورصة وملاك الاراضي.
وكان لويس فيليب يعتبر نفسه من ضمن البرجوازيين الصغار لكن كل قرارت عهده كانت تصب في صالح البرجوازيين الماليين ولم يأبه للبرجوازيين الصناعيين او اللبرجوازيين الصغار. فاللذين كان لهم حق التصويت في تلك الفترة وطبقا للدستور الفرنسى كانوا ملاك الاراضى فقط. وبالتالى كانت كل الحكومة منهم وكانت كل القرارات تصب في صالحهم. فكانت حكومة لويس فيليب هي حكومة رجال الاعمال او بمعنى ادق رجال المال. وازدادت ثروة هذه الطبقة بشكل ضخم حين سادث حالة من الكساد في فرنسا في الاعوام 1846 و 1847 ولكي يستطيع البرجوازيون الصغار تسيير امورهم فقد اقترضوا قروضا كبيرة من رجال المال اللذي ازدادت ثرواتهم بهذا مرة اخري. وكان المطلب الاساسى للشعب اللذي ينادي به معظم الناس هو حق التصويت وبالتالى يجلس نواب عنهم في البرلمان وتدخل عناصر منهم الى داخل الحكومة لتأخذ قرارات تتبنى مصالحهم. وكان الفرنسيون ينظرون بعيون تملؤها الحسد نحو الانجليز حيث لم تقم عندهم اى ثورة وبالرغم من ذلك فقد صدر قرار بمنح كل من يدفع ضرائب للدولة تزيد قيمتها عن 10 جنيهات سنويا حق الانتخاب. وكانت وسيلة الفرنسيين في التعبير عن هذا تظهر من خلال الموائد الشعبية حيث كانت المظاهرات السياسية و التجمهرات ممنوعة في ذلك الوقت. فكان الفرنسيون يجلسون على هذه الموائد العامة يعلون الصوت بمطالبهم ويهتفون للحرية و للمساواة وللأخوة. ثم حدث واصدرت الحكومة قانونا تمنع فيه تلك الموائد. فكان الحنق و الغضب عظيمين.ورشحت الانباء ان الصقليين قد قاموا بثورة ضد حكم اسرة البوربون و اعلنوا استقلالهم فكان هذا الخبر كالشرارة اللتى انطلقت في مناخ متوترفانفجر الموقف. فخرج الفرنسيون الى الشارع يهتفون باسقاط الحكومة وكان طوفان الباريسيين في الشوارع لانهاية له.فاضطر الملك الى اقالة رئيس حكومته بعد يوم واحد من اندلاع المظاهرات. وفرحت الجماهير بسماع الخبر وانطلقت الى مبنى البرلمان تحوطه واراد البعض اقتحامه. وبسبب خطا ارتكبه احد الظباط فقد اطلق الجنود الرصاص على الشعب. فراح ضحية هذه الحادثة 52 انسان. فخرجت كل الجماهير تهتف بسقوط الملك. اللذي هرب الى انجلترا.
واسس الثوار جمهوريتهم الثانية في 23 فبراير عام 1848 . وتولت حكومة مؤقتة السلطة. ودعت الى انتخابات عامة بعد شهر تقريبا لاختيارجمعية تأسيسية تضع دستورا جديدا وتشكل حكومة وتحضر للانتخابات الرئاسية. واصدرت الحكومة المؤقتة قرارين في غاية الخطورة. القرار الاول هو اعطاء حق الانتخاب لكل الفرنسيين الذكور. وكان معنى ذلك اضافة 9 مليون ناخب جديد الى من يحق لهم الانتخاب. وبقى محظورا على المرأة الانتخاب كما كان الحال في كل الدول الاوروبية. اما القرار الثاني فكان اقرار ان حق العمل حق اساسي للمواطن الفرنسي وقامت الدولة بانشاء ورش عمل وطنية لمنح المتعطلين عن العمل فرصة لكسب الرزق عن طريق تعبيد الطرق او زرع الاشجار. فحصل اقبال رهيب على ورش العمل هذه وتم توظيف مئات الالوف بهذه الطريقة.
لكن ازمة فرنسا الاقتصادية كانت مرعبة. فعندما فر لويس فيليب لم يفر وحده انما فر معه الاثرياء باموالهم فحدث نزوح رهيب للثروة الى خارج فرنسا. كانت ايرادات البلد متوقفة و الاضرابات و المظاهرات قد شلت حركة البلد. ثم ان مشروع ورش العمل الوطنية قد كبد خزانة الدولة تكاليف باهظة.فمن اين تأتى الحكومة بالاموال؟ قد قررت رفع الضرائب على الفلاحين وملاك الاراضى الزرعية.لكن الفلاحين رفضوا تنفيذ هذا القرار. وقالو ان الدولة تريد ان تحل مشكلة اهل المدن الكسالى على حساب الفلاحين المظلومين. فبالتالى كانت ورطة الحكومة المؤقتة ضخمة. وساد وسط الفرنسيين ذعر وقلق بشأن المستقبل وفي اثناء هذه الظروف وبعد شهر من انطلاق الثورة نظمت قوى المحافظين انفسهم وكان شعارهم عودة النظام وانهاء حالة الفوضى. واسسوا حزبا يحمل اسم النظام. وكان معنى النظام عندهم عودة الامور كسابق عهدها ايام لويس فيليب. وفي هذه الاجواء تم تنظيم الانتخابات. وللمفاجاءة لم يحصل الثوارسوي على مقعد واحد واحد في داخل المجلس التاسيسي وكانت حصة الاسد لصالح حزب النظام وللقوى المعتدلة. فشعر الثوار بخيبة الامل. وكانت الثورات الاوربية في بلاد اخرى قد بدأت في الحدوث .فاخذ الثوار يضغطون على الحكومة من اجل دعم تلك الثورات وخصوصا ثورة بولندا.
وتغيرت خريطة الثوار فبعد ان كانت تضم طبقة العمال والطبقات البرجوازية الصغيرة و الصناعية. وكانت لهذه الطبقات دورا مهما في ثورة 1848 وخصوصا طبقة البرجوازيين الصغار. تغيرت هذه الخريطة واصبح البرجوازيون و العمال يقفون في صفين متضادين. فلقد رأى البرجوازيون ضرورة الاستقرار واهمية ان تدور عجلة الحياة مرة اخرى. وخصوصا البرجوازيون الصغار اللذين كانوا على وشك الافلاس او افسلوا بالفعل.
ثم اصدرت الحكومة في شهر يونيو قرارا بالغاء ورش العمل الوطنية فثارت ثائرة العمال فخرجوا الى الشوارع ونصبوا المتاريس وقطعوا الطرق. وقامت حرب شوارع بين الثوار وقوات الجيش اللذي وصل عدد قواته الى اكثر من 120 الف. ووقف البرجوازيون وخاصة الصغار كما قلنا على الجانب المقابل وتم القضاء على هذه الانتفاضة. وكانت هذه الحادثة اشارة الى ان الثورة قد انتهت. والمفاجاءة انه بعد ان هدأت الامور وبعد ان بذل البرجوازيون الصغار جهدا ضخما في القضاء على انتفاضة العمال وجد البرجوازيون الصغار انفسهم في مقابل دعاوى قضائية لرد الديون اللتى عليهم واللتى هي واجبة السداد الان. وكان معظم هولاء عاجزين عن دفع ايجار محالهم منذ بداية الاحداث من الشهر الثاني. وفشلت كل المحاولات لجدولة ديون هؤلاء البرجوازيين الصغار على اعتبار ان الاحداث الثورية كانت السبب الاساس خلف تعثر هؤلاء الافراد. وكان سبب هذا الفشل تعنت البرجوازيين الماليين ووجودهم القوي في المجلس التأسيسى والحكومة. فافلس هؤلاء البرجوازيون الصغار و اضطروا مرة اخرى الى العودة الى صفوف العمال من اجل البحث عن عمل مقابل اجر.
وهنا فقدت شريحة كبيرة من القوى اللتى قامت بالثورة مكانها. ثم اقيمت الانتخابات الرئاسية في شهر ديسمبر عام 1848 وكان هناك 4 مرشحين متنافسين اهمهم لويس بونابرت وهو كان ابن اخى نابليون بونابرت. وكان دكتاتورا متسلطا ولكن الناس رأت ان الامان مع دكتاتور قادر خير من عدم الامان مع الثورة. وحصلت الانتخابات وحصل بونابرت على4 اضعاف عدد الاصوات اللتى حصل عليها اقرب منافس له. وكان اسم عائلته بونابرت من عوامل نجاحه فلقد اختاره دعاة الملكية ومعظم افراد الجيش وكل الفلاحين. وتم انتخاب مجلس وطنى ذو سلطات مع نابليون. وبعد 3 سنوات حل لويس بونابرت هذا المجلس رغم ان سلطاته الدستورية لم تكن تسمح له بذلك واعلن نفسه امبراطوارا للبلاد واطلق على نفسه اسم نابليون الثالث.