اثبت الرياضى جيورج كانتور بطريقة بارعة ان المجموعات اللانهائية لا تتساوي كلها من حيث الضخامة. وكان ذلك عن طريق تزويج أو مقابلة كل عنصر من عناصر مجموعة لانهائية أولي مع عنصر أخر من مجموعة لانهائية ثانية فقد تنفذ عناصر احدى المجموعتين تماما بينما الأخرى لا. وبهذا الأسلوب استطاع كانتور أن يبرهن أن مجموعة الأعداد الحقيقية او تحديدا مجموعة الأعداد غير النسبية -اللتى هى جزء من مجموعة الأعداد الحقيقية- أضخم بكثير من مجموعة الأعداد الصحيحة!
وقبل ان نرى كيف فعل كانتور ذلك دعونا نتذكر معا ماذا تعني الأعداد الغير نسبية؟. الأعداد الغير نسبية تقع فى مقابلة الأعداد النسبية. والأعداد النسبية هي عبارة عن نسبة بين عددين صحيحين أو كسر مكون من بسط ومقام حيث البسط والمقام عددان صحيحان ولا يجوز للمقام أن يكون صفرا. بينما الأعداد غير النسبية لايمكننا ان نكتبها فى صورة كسرية أبدا. واذا اردنا التعبير عنها فى صورة رقم عشري فسنحصل على مالانهاية من الأرقام بعد الفاصلة.
لكن هذا ليس وحده مربط الفرس فاننا اذا اردنا ان نعبر عن الأعداد النسبية فى صورة عشرية فسنحصل أيضا على مالانهاية من الأرقام بعد الفاصلة فمثلا العدد
1/3=…….0.333333333
بل وحتى العدد واحد يمكن كتابته على الصورة التالية
1=……..1.000000
وهنا نلاحظ مالانهاية من الثلاثة فى العدد الأول ومالانهاية من الأصفار فى الحالة الثانية. بمعننا اننا نجد نمطا منتهيا معينا يتكرر الى مالانهاية. ففي العدد الأول نجد 3 تتكرر الى مالانهاية وفي العدد الثانى يتكرر الصفر الى مالانهاية. بينما في حالة الأعداد غير النسبية لا يوجد ذلك. فمثلا جذر 2 أو عدد أويلر e أو ثابت الدائرة ط PI لا تحتوي صورهم الكسرية العشرية اللانهائية على نمط متكرر. بل فى بعض الأحيان كحالة الثابت ط . فاننا يمكننا أستخدام هذه العدد لتوليد الأعداد العشوائية. وبالرغم من أن الحاسبات العملاقة قد حددت مليارات الخانات بعد الفاصلة فلا يوجد فيها اى نسق متكرر أبدا.
وقام كانتور بهذا البرهان عن طريق ما يعرف بالبرهان المعكوس او البرهان بالتناقض. وفيه يفرض الأنسان عكس ما يريد أن يثبته في البداية. ثم بعد القيام ببعض الاستنتاجات المنطقية يصل الأنسان الى نتيجة تناقض الفرض الأول. وهذا معناه أن الفرض الأول خاطئ والعكس هو الصحيح. وقد قام كانتور أولا بأفتراض ان سعة الأعداد الحقيقية تساوي سعة الأعداد الطبييعة وبالتالى فاننا يمكننا أن نرص كل الأعداد الحقيقية فى قائمة لانهائية طويلة تبدأ من العدد الأول ثم العدد الثانى حتى العدد اللانهائى الأخير . الفرضية المهمة هنا أن هذه القائمة الطويلة لا تترك عددا حقيقيا ألا وقد تضمنته بداخلها. لكن كانتور استطاع ان يبرهن انه بعد الانتهاء من هذه القائمة المزعومة سيظل بأمكاننا دوما تكوين أعدادا حقيقية جديدة ليست محتواة بداخل تلك القائمة. وذلك عن طريق الطريقة التالية. دعونا نعتبر الأعداد الحقيقة المحصورة بين الصفر والواحد فقط. ودعونا نفترض ان تلك القائمة صورتها كالتالي:
a1=0.12345…=a1
a2=0.23456…=a2
a3=0.34567…=a3
..
تقوم الطريقة على الخطوات التالية نأخذ اولا العدد فى الخانة الاولى بعد العلامة العشرية فى الصف الأول ونغيره بأن نضيف اليه واحد مثلا وبذلك نحصل على الخانة الأولى لعددنا الجديد. ثم نأخذ العدد فى الخانة الثانية فى الصف الثانى ونغيره بأن نضيف اليه واحد. ثم نفعل ذلك مع الخانة الثالثة فى الصف الثالث. ثم مع باقى الصفوف حتى نصل على الخانة اللانهائية فى الصف اللانهائ ونغير العدد الموجود هناك.. فنحصل في النهاية على عدد جديد يختلف عن كل الأعداد الموجودة فى القائمة. وهو تحديدا …0.246 وهو عدد جديد يختلف مع العدد فى الصف الأول على الأقل فى الخانة الأولي ويختلف مع عدد الصف الثانى على الأقل فى الخانة الثانية وهكذا دوما. اذن الأفتراض الأول خاطئ ولا يمكن سرد كل الأعداد الحقيقية فى مقابلة الأعداد الطبيعية.
مما سبق يتضح ان هناك شئ ما جوهرى يميز الأعداد الحقيقية عن الأعداد الطبيعية والصحيحة والنسبية. وهذا الأختلاف يتركز فى أن الأعداد الحقيقية متصلة متلاحمة. بينما الأعداد الطبيعية ليست كذلك فالعدد 2 ليس ملتحما مع العدد واحد. وكذلك هو الحال مع الأعداد الصحيحة. حتى الأعداد النسبية بالرغم من أنها كثيفة العدد لكنها ليست متلاصقة متلاحمة كما هي الأعداد الحقيقية على خط الأعداد. وأطلق كانتور على الاعداد الطبيعية والصحيحة والنسبية الاعداد النهائية القابلة للعد. بينما أطلق على الأعداد الحقيقية الأعداد اللانهائية الغير قابلة للعد. وليس المقصود من ان الأعداد قابلة للعد هو أننا نستتطيع ان نعدها بالكامل. لكن المقصود هو اننا يمكننا أن نبدأ ذلك فقط. فلو كان هناك حاسوب عملاق يستطيع كل ثانية مثلا أن يعد عددا واحدا. واعطيناه مالانهاية من الثواني فسوف يستطيع سرد كل الأعداد الطبيعية. لكن نفس هذه الجهاز لن يتمكن من فعل الشئ نفسه بالنسبة للأعداد الحقيقية. لأنه لن يستطيع أن يبدأ مهمته أساسا. فنحن لن يمكننا ان نصل الى أخر عدد حقيقى ولا الى أولها. ولا نعرف حتى طريقة لتسمية كل الأعداد الحقيقة. فما هو أسم العدد الحقيقى اللذي هو جار الصفر مباشرة؟
ولم يكتف كانتور بذلك. بل برهن ان ضخامة الاعداد الحقيقة ليست أكبر مالانهاية. فهناك مجموعات أخرى سعتها اكبر من سعة مجموعة الأعداد الحقيقية وهناك مجموعات اخرى سعتها اكبر من تلك السعة الجديدة وهكذا حتى مالانهاية! وذلك مرتبط بمجموعة جميع الأجزاء. ولنتعرف على مجموعة جميع الأجزاء دعونا نرى المثال التالي:
دعونا نتخيل ان هناك مجموعة من ثلاثة اشخاص تقدموا لوظيفة لدي شركة جوجل. وهؤلاء الأشخاص هم: زيد وعبيد وعمرو. سنجد ان هناك 8 نتائج محتملة لتوظيف جوجل لهؤلاء المتقدمين:
1 لا واحد
2 زيد
3 عبيد
4 عمرو
5 زيد وعبيد
6 زيد وعمرو
7 عبيد وعمرو
8 زيد وعبيد وعمرو
ومجموعة جميع الأجزاء تماثل جميع احتمالات اختيار عناصر ما من المجموعة الأم. ومجموعة جميع الأجزاء عدد عناصرها دوما أكبر من عناص المجموعة الأم. ولو كان عدد عناصر المجموعة الأم 4 لكان عدد عناصر مجموعة كل الأجزاء 16 وهناك قاعدة لتحديد عدد عناصر مجموعة كل الأجزاء فهى دائما تساوي: أثنين أس عدد عناصر المجموعة الأم
n2=2^n1
واثتبت كانتور أن مجموعة كل الأجزاء عدد عناصرها اكبر دوما من عدد عناصر المجموعة الأم وذلك حتى لو كانت المجموعة الأم لانهائية. فعدد عناصر مجموعة الأعداد الحقيقية يساوي: اثنان أس ألف صفر واذا اطلقنا على عدد عناصر مجموعة الأعداد الحقيقة الرمز c فسيكون عددها طبقا للمعادلة التالية:
c= 2^infinity
ويمكننا برهنة ذلك بالطريقة التالية: حيث اننا نعلم ان الأعداد الحقيقة تتكون من خانات لانهائية وكل خانة تحتمل أن تكون اى عدد من الأعداد من صفر الى 9 . اى ان عندنا عشر أحتمالات لكل خانة فيكون قيمة c كالتالي:
c=10x10x10x…=10^infinity
لكن نحن ذكرنا للتو ان الأساس ينبغى ان يكون 2 وليس عشرة فكيف يمكننا ان نغير من ذلك؟ الامر بمنتهى البساطة. علينا ان نعبر عن الأعداد الحقيقة من خلال نظام ثنائى يتكون فقط من العددين صفر و واحد وليس فى ضوء نظام عشرى كنظامنا المعتاد فنصل الى النتيجة نفسها
c=10^infinity=2^infinty
اذن فكل مالانهاية هناك مالانهاية أخرى أكبر منها. وكل مجموعة لا نهائية مجموعة كل اجزاءها أكبر منها. فنحن ليس لدينا السعة ألف صفر فقط. بل وأيضا السعة الف واحد وألف أثنان وألف ثلاثة بل وألف مالانهاية!
وافترض كانتور فرضية لكنه لم يستطع ان يبرهنها وفقد صحته بل وسلامة أعصابه وعقله فى سبيل ذلك الأمر فقد حاول أن يبرهن أن:
ألف واحد يساوي 2 أس ألف صفر
الف أثنان يساوي 2 أس الف واحد
الف ثلاثة تساوي 2 أس الف أثنان
وهكذا الى مالانهاية.
ونحن نعلم اليوم ان هذه الامر لايمكن برهنته ولا أيضا برهنة خطأه. فالرياضيات ليست مكتملة كما برهن جودل. لكن ينبغي ان ننتبه انه حتى لوكانت هذه الفرضية خاطئة فليس معنى ذلك ان الف واحد والف اثنان ليست غير موجودة. لكن معنى ذلك ان ضخامة الأعداد الحقيقة اكبر بكثير من ضخامة الاعداد الطبيعية وانها لا تليها مباشرة فى تراتيب الاعداد اللانهائية . بل ربما توجد بينهما مالانهاية اخرى ذات ضخامة متوسطة . بل وربما مالانهاية من النهايات.
ثم اتجه كانتور للبحث فى نقطة أخرى. فقد اراد ان يرى هل أن عدد النقاط فى المستوي أكثر منها فى الخط المستقيم ام انها تساويها. وعندما بدأ كانتور بحثه فى هذه الموضوع كتب رسائل أخبر فيه بنيته بحث هذه النقطة وانه يتوقع ان يكون عدد النقاط فى المستوي أكبر منها فى الخط المستقيم. وعندما كان فى زيارة الي جامعة برلين جامعته السابقة وأهم جامعة متخصصة فى الرياضيات صارح زملائه بنيته لكنهم صارحوه بانه يبحث فى أمر سخيف وانه لايمكن مقارنة أشياء ذات بعدين بأشياء ذات بعد واحد.
لكن بعد حوالى 3 سنوات من البحث توصل كانتور الى نتيجة اذهلته هو شخصيا. فقد توصل الي أن عدد النقاط فى المستوي ليست أكثر منها فى الخط المستقيم!. والبرهان يستخدم قطعة مستقيمة محصورة بين الصفر والواحد ومربع طوله الوحدة. والسؤال هل يمكن مناظرة كل نقطة فى المربع بعدد حقيقى على القطعة المستقيمة؟ ووجد كانتور أن الاجابة هى نعم. ويمكننا أن نفعل ذلك بالطريقة البسيطة التالية:
نعلم انه يمكننا صياغة كل النقاط عن طريق أحداثياتها الكارتيزية . فكل نقطة تتكون من احداثى سينى وأخر صادي . مثلا النقطة التالية:
(0.123,0.987)
يمكننا ان نناظرها بعدد حقيقيى عن طريق دمج الاحداثيين فى عدد واحد وذلك بأن نأخذ بالتبادل عددا من الأحداثي السينى ثم عددا من الاحداث الصادي لنحصل على العدد الحقيقى التالي: 0.192837 وبالتالى فعدد النقاط في المستوي يساوي عدد الاعداد الحقيقية. وهذه الامر لا يقتصر على بعدين فقط . بل حتى لو كنا نتحدث حول 3 أبعاد او مائة بعد فلا يوجد هناك اى فارق. والنتيجة هي هي.
وكتب كانتور رسالة الى صديقه الرياضى ديديكند يصف فيها برهانه ويقول انه يرى ذلك بعينيه مع ذلك هو نفسه لايستطيع أن يصدق ذلك!
وبارك ديديكند له أولا على برهانه ولكنه حذره من أن ينشر ذلك البرهان قبل أن يستعد لذلك تماما. فسوف يفاجأ بموجة من الرفض قوية جدا. فكانتور كان يهز أشياء كانت عند معظم رياضيين ذلك الزمن ثوابت بل مقدسات.
ونشر كانتور نتائجه وقوبل بعاصفة من الرفض لكن بمرور الزمن اتضحت صلادة افكار كانتور. وكانت لأعمال كانتور تأثير زلزالى على الأفكار السائدة. بل الأكثر من ذلك بعد وفاة كانتور حمل الرياضيون راية كانتور مسافة أبعد من ذلك ووصلوا الى مراحل لم يكن كانتور نفسه ليتصورها. لكن ذلك سوف نراه فى المرة القادمة ان شاء الله.