ماء البحر مالح. هذه حقيقة لا مراء فيها. ويستطيع ان يؤكد هذا الأمر كل من شرب عن طريق الخطأ شئ ما من ماء البحر. وهناك سؤال بسيط -ولكن اجابته ليست كذلك كما سنرى اليوم- يطرح نفسه: كيف اصبح ماء البحر مالحا؟
تقول اسطورة قديمة لدى بعض الشعوب الاوروبية الشمالية انه كان هناك شاب فقير أعطى كسرة الخبز الوحيدة اللتى كانت لديه لرجل عجوز فكافأه بان اعطاه طاحونة سحرية تستطيع ان تطحن كل ما يشتهيه قلب الفتى النبيل. واختار الفتى ان تنتج طاحونته ملحا. فمن عجائب الامور ان الملح كان قديما سلعة نفيسة جدا وينافس الذهب من حيث القيمة. وطبعا قد تغير الحال اليوم فالملح قيمته اليوم قليلة جدا. وفعلا انتجت الطاحونة الملح. ولكن الشاب لم يدر كيف يجعل الطاحونة تتوقف عن العمل!! . وكان فى ذلك الاثناء مستقلا قاربه فاستمرت الطاحونة فى انتاج الملح حتى غرق القارب ومازالت الطاحونة مستمرة فى انتاج الملح حتى اليوم وحتى صار البحر مالحا!!
ومن هنا نرى ان السؤال عن سبب ملوحة البحر هو سؤال قديم جدا. وأول من حاول أن يحيب على هذا السؤال بشكل علمى كان العالم الايرلندى روبرت بويل Robert Boyle وهو صاحب لقب ابو الكيمياء الحديثة ووينافسه على نفس اللقب الفرنسى انطوان لافوازييه بينما جابر بن حيان الأقدم هو صاحب لقب ابو الكيمياء. قال بويل ان سقوط الامطار يغسل التربة والصخور من الاملاح الموجودة فيهما ثم يدفع بها فى اتجاه الانهار. ثم تصب الأنهار فى النهاية فى البحر فتترسب الاملاح بصورة نهائية هناك. ولذلك تكون نسبة الاملاح فى البحار عالية ولكنها ضئيلة فى الأنهار. وهذا التفسير هو الأشهر كما انه المقرر على تلاميذ المدارس فى كثير من البلدان اليوم. ولكن هذا التفسير ليس كاملا وتعيبه 4 اعتراضات اساسية. فدعونا نتعرف عليها.
الاعتراض الاول وكما يقول المثل: الشيطان يكمن فى التفاصيل. فدعونا نحسب ما هو الزمن اللازم لكى تصل درجة ملوحة البحر الى الدرجة اللتى هى عليها اليوم وهى بين 3 الى 4 %. يقدر العلماء الزمن اللازم لذلك ب 100 مليون سنة فقط. لكننا نعلم ان عمر الأرض هو 4.5 مليار سنة. فهناك اختلاف كبير بين عمر الأرض والزمن اللازم حتى صار البحر مالحا!
الاعتراض الثانى انه طبقا لهذا السيناريو فان البحر تزداد ملوحته باستمرار. فالانهار تمد البحار يوميا بحمولات من الاملاح الاضافية. لكن بدارسة عينات قديمة من البحر عمرها 200 مليون سنة وجد العلماء ان نسبة الاملاح فى البحر فى الماضى تساوى نسبتها تماما اليوم! وكأن نسبة الملح فى البحر هى مقدار ثابت.
الاعتراض الثالث انه طبقا لتفسير بويل فأن الأمطار تجرف الارض من الاملاح الموجودة فيها باستمرار. ولذلك وطبقا لحسابات العلماء فان 100 مليون سنة كافية لتجريف الارض من كل الاحجار الجيرية الموجودة فيها تماما. ولكننا نرى الارض حولنا غير مجرفة ومازالت تحتوى على كثير من المعادن و الاملاح!!
الاعتراض الرابع ان تركيبة الاملاح الموجودة فى الانهار تختلف عنها فى البحار. فالاملاح الموجود فى الانهار يغلب عليها بكربونات الكالسيوم. بينما 90% من الاملاح الموجودة فى البحار عبارة ملح الطعام أو كلوريد الصوديوم. فلو كانت الانهار هى المورد الرئيس للأملاح بالنسبة للبحر فلماذا يختلف تركيب الأملاح فى البحر عنه فى النهر؟
فى الحقيقة فأن تفسير روبرت بويل لسبب ملوحة البحر يمثل جزءا من ركن واحد من اركان الصورة. فبالفعل الامطار تجرف الاملاح من الارض وتدفع بها باتجاه الانهار ثم باتجاه البحر. ولكن هذا ليس المصدر الوحيد للملح. فليست الأمطار وحدها لكن أيضا الانهار و البحار تجرف قيعانها وتستخلص منها املاحا جديدة. كما ان البراكين المائية تنتج ايضا املاحا جديدة. لكن كل ذلك هو ركن واحد من اركان الصورة. وللموضوع ثلاثة جوانب اخرى. وقد رأينا لتونا جانبا فماذا عن الجوانب الأخرى؟
الجانب الثانى: صحيح ان الأنهار تمد البحار بالملح. لكن على جانب أخر فأن البحار تمد الانهار ايضا بالملح! مثال على ذلك الكلور. فكما علمنا سابقا ان ملح البحر غنى بالكلور حيث ان 90% من ملح البحر هو كلوريد الصوديوم. فعند تبخر ماء البحر تتصاعد بعض بلورات الملح الى الهواء ثم تتحطم وتحملها الرياح باتجاه الارض بعيدا عن الساحل. وهذا هو السبب فى اننا نشم رائحة البحر فى المدن الساحلية فى مناطق داخلية بعيدة عن الشاطئ. ثم تتساقط الامطار ومعها الكلور فيصل الى الانهار ثم الى البحر. وبذلك تكون بضاعة البحرقد ردت اليه مرة أخرى! ولذلك فعند دراسة الأملاح اللتى تصل الى البحر عن طريق النهر لابد أن نحدد النسب الصافية وليست الأجمالية للأملاح اللتى يضيفها النهر الى البحر. أى فقط تلك الأملاح اللتى لم يكن البحر مصدرها. وفى حالة الكلور تحديدا فأن النسبة الصافية هى صفر تقريبا!! وهنا نصل الى الركن الثالث.
الركن الثالث: النسب الصافية اللتى يضيفها النهر الى البحر فى معظمها بكربونات الكالسيوم. اذن لماذا يختلف تركيب املاح البحر عن النهر؟ فى الحقيقة هناك خطأ أساسى يكمن فى تصور البحر وكأنه وعاء خامل يكتفى باستقبال الترسيبات المختلفة . ولكن البحر ليس خاملا ابدا. بل هو معمل كيميائى و بيولوجى وجيولوجى عجيب. وكل عنصر كيميائى له قصة مختلفة يجب دراستها على حدة. وقد رأينا سابقا دورة حياة الكلور. فما هى دورة حياة العناصر المهمة الأخرى؟ لنبدأ بالكالسيوم. يصل الكالسيوم بوفرة الى البحر عن طريق الأنهار . فتستخلصه الكائنات البحرية لنفسها لانه يدخل فى تركيب عظامها كما انها يدخل فى تركيب القواقع. ثم بعد فترة تموت هذه الكائنات الحية أو تفترسها اخرى ولكنها في النهاية تحلل وتترسب مخلفاتها على قاع البحر او المحيط!
اذن ماذا عن الصوديوم؟ الصوديوم يصل الى البحر عن طريق النهر بنسبة قليلة. فيلتحم بالغرين الموجود فى البحر ويترسب فى النهاية على هيئة مركبات طينية تتحول مع مرور احقاب جيولوجية طويلة الى صخور الجرانيت. لكن لماذا يطغى الصوديوم وهو الأقلية على الكالسيوم وهو الأكثرية ضمن الاملاح الوافدة؟ هنا يظهر مفهوم جديد يجب ان نتعرف عليه وهو: زمن البقاء. فزمن البقاء بالنسبة للكالسيوم هو مليون سنة. اما بالنسبة للصوديوم فهو 69 مليون سنة. فما معنى ذلك؟ معنى ذلك اننا اذا اضفنا 100 كجم كالسيوم ومائة كجم صوديوم الى البحر فبعد مليون سنة لن نجد ذرة واحدة من ذرات الكالسيوم بسبب الاحياء البحرية والعمليات البييولجية الموجود فيه بينما سيظل هناك 89 كجم صوديوم! ولذلك يطغى الصوديوم فى مياة البحر. أما الكلور فزمن بقائه عمليا هو مالانهاية!! يقول البروفيسور جيمس تريفل اذا تناولنا شيئا ما من ملح الطعام فعلينا ان نتذكر ان ذرة الصوديوم اللتى نتناولها الان نزلت البحر عندما كانت الديناصورات تدب فوق سطح الأرض بينما ذرة الكلوم كانت موجودة هناك منذ بداية تكوين الأرض أى منذ 4.5 مليار سنة! لكن تجدر الاضافة ان هناك نسبة ضئيلة من الكلور الجديد تتم اضافته الى املاح البحار عن طريق البراكين المائية كما سنرى عما قليل.
لكن كل ماسبق لا يوضح الأعتراض على عملية تجريف الأرض. فبغض النظر عن كل مايحدث فى البحر من عمليات بيولوجية وكيميائية و جيولوجية ففى هذه الاثناء تستمر الأمطار فى تجريف الارض من املاحها ومعادنها كالكالسيوم و المغنسيوم! وهنا نصل الى ركن الصورة الرابع. فقد علمنا فيما سبق من دورة حياة الكلور أن ما تعطيه الانهار للبحار من كلور بيدها اليمنى تستعيده مرة اخرى بيدها اليسرى! فهل هناك عملية مشابهة تتم بين الأرض و البحر؟ كما اننا علمنا ان عملية تسليم الكلور من قبل البحر الى الأنهار تتم عبر الهواء ومن فوق الأرض. فهل تتم عملية اخرى من تحت الطاولة يعيد بمقتضاها البحر الاملاح مرة اخرى الى اليابسة؟ الأجابة هى نعم. و الاجابة تقدمها لنا علوم الجيولوجيا والأرض.
توضح الجيولوجيا ان الأرض تتكون من طبقات كرية متداخلة. اعلاها هى القشرة الارضية. و القشرة الارضية ليست شيئا واحدا ولكنها تتكون من صفائح تكتونية غير ساكنة. فماذا يحدث عندما تصطدم صفيحة تاكتونية قارية اى تحمل قارة فوقها بصفيحة تاكتونية بحرية اى تحمل محيطا فوقها؟ القاعدة العامة هى ان تندفع الصفيحة البحرية الخفيفة تحت الصفيحة القارية الثقيلة الراسخة. وعند موضع الاصطدام يحدث احد شيئين: اما تنشأ أحزمة بركانية تندفع من خلالها الحمم ويتولد عن طريقها املاح جديدة ومنها الكلور وهذا مااشرنا اليه عاليأ. اما الاحتمال الثانى فهو ان تتكون اخاديد بحرية عميقة وهذا هو بيت قصيدنا هنا.
اذن عندما تصطدم صفيحة قارية مع صفيحة بحرية فان قاع البحر يغوص تحت الصفيحة الأرضية. ويتم كل سنة عبر هذه الطريقة أعادة 3 سم مرة اخرى من البحر للأرض. او ان البحر يقدم فوق صنية من فضة ما خزنه عبر ملايين السنوات من املاح وخلافه الى الأرض مرة اخرى حتى تعيد تدويره من جديد! ولكن الكيفية التفصيلية اللتى تصل بها الاملاح من اعماق الارض الى القشرة الارضية مرة اخرى مازالت تفاصيلها غير معروفة تماما. وهى مازالت تحت منظار البحث العلمى. ولكن الصورة العامة مكتملة.
يقول عالم البحار فيرين ماكلنتاير Ferren Maclntyre معلقا على أسطورة الطاحونة السابق ذكرها بالأعلى انها صحيحة في مجملها ولكن تفاصيلها تحتاج الى التعديل. وهاهنا نرى فعلا انه فى قاع البحر توجد طاحونة سحرية ولكنها لا تزود البحر بالملح بل العكس. فهى تنزع الملح من البحر وتعيد تقديمه الى اليابسة!