ساعة الصفر وجائزة نوبل

عنوان موضوع اليوم هو ساعة الصفر كما تصلح قرائته على انه الساعة صفر ايضا. والمقصود بساعة الصفر هنا هو لحظة بداية الفيزياء وهي قد تكون لحظة بداية الكون فى نظر البعض. وموضوع اليوم تتقاطع فيه جوانب فيزيائية مع اخرى فلسفية ودينية وتاريخية.

كان الاغريق يظنون ان الكون ازلى و ابدي. وكان للمعلم الاول ارسطو  باع طويل فى هذه الرؤية. فهو كان يحتقر فكرة  العدم ويرفض  وجوده فى كوننا او حتى ان يكون سابقا له.  فاذا كان الكون قد ظهر فى لحظة ما فماذا كان موجودا قبل ذلك؟ من المستحيل ان يكون العدم من وجهة نظر ارسطو. اذن فان كوننا ازلى لا بداية له.  وبالتالى سيكون سرمدي لا نهاية له.

وبالرغم من ان تعاليم اليهودية و المسيحية والاسلام توضح ان الكون تم خلقه. الا ان افكار ارسطو بقت عصية على الكسر. وتطلب الامر مجهود ضخم لزعزعة الصورة اللتى رسمها ارسطو للكون. ومن ضمن هذه المجهودات لا يمكن اغفال الدور اللذى لعبه الغزالى ومجهوده فى تسفيه بعض اراء ارسطو والمتفلسفين ومن لف لفيفهم.

وحتى بعد انتهاء مرحلة سطوة اراء ارسطو فان صورة كوننا الثابت عبر الزمن واللذى لا يتغير شكله بقيت صامدة. حتى ان  عالم اسثثنائى مثل اينشتاين عندما توصل الى النظرية النسبية العامة اللتى تفسر قوة الجاذبية وايقن ان نظريته تحطم صورة الكون الثابتة لم يعترف بذلك. فقوة الجاذبية لابد وانها تجذب كل اطراف الكون نحو مركزه. و لا يمكن ان يبقى الكون ثابتا. ولكن  اينشتاين ادخل على معادلاته ثابتا جديدا اسماه الثابت الكونى  يعمل على تمدد الكون حتى يبقى شكله ثابتا. وقد ندم اينشتاين لاحقا على تصرفه هذا اشد الندم وقال ان هذا كان اكبر خطأ علمى ارتكبه فى حياته. بل حسب كلمات اينشتاين فقد قال ان هذا كان اكبر استحمار فعله فى حياته! وموقف مشابه اتخذه ايضا نيوتن اللذى ادرك ايضا انه طبقا لنظريته اي نظرية الجاذبية لنيوتن ان النجوم لابد و ان تجذب نفسها و انها لن تبقى ثابتة فى مكانها و لابد ان ينهار الكون باتجاه مركزه. ولكى يبرر عدم الانهيار قال ان سبب استقرار الكون هو ان عدد النجوم ليس رقما محدودا وان الكون لا نهائى. وبالتالى فلا يوجد للكون مركز يتم الانهيار باتجاهه!! وهذا الرأى يوضح المشاكل الجمة اللتى نعانيها عندما يصل الامر الى المالانهاية والصفر.

وفى الحقيقة فان للعلماء السابقين عذرهم فصورة الكون المعروفة حتى بداية القرن العشرين تختلف عن صورته كما نعلمها اليوم. وكان المسئول عن هذا التغير الفلكي الامريكى ادوين هبل Edwin Hubble حيث استطاع هذا الاخير من تطوير تلسكوب هائل امكنه من سبر اغوار الفضاء. وقام هبل برصد نوع معين معين من النجوم النابضة يدعى cepheids وهذه النجوم تتغير شدة اضائتها بشكل دورى فتبدو كما انها تومض كل 5 ايام مثلا. وتتميز هذه النجوم النابضة ان لها كلها نفس درجة الحرارة تقريبا. وبناء على ذلك فلابد وان شدة اضائتها الظاهرية تتوقف فقط على بعدها عنا. فكلما كان النجم بعيدا كلما بدت شدة اضائته خافته. وهذا امر منطقى ومفهوم. واكتشف هبل ان بعض هذه النجوم يبعد عنا بعشرات بل ومئات السنوات الضوئية. بل اكتشف هبل نجما خافتا من هذا النوع يبعد عنا مليون سنة ضوئية  يقع فى سحب اندروميدا الغازية. وكانت هذه مفاجئة لهبل. ففقد اكشف هبل ان سحب اندروميدا الغازية هى ايضا مجرة كاملة وبسبب بعدها الرهيب تبدو وكانها مجموعة سحب غازية. وكانت هذه مفاجئة . فقد كان العلماء وقتها يعتقدون ان كل الكون لا يحتوى الا على مجرة واحدة وهى مجرتنا: مجرة درب التبانة. بل اكتشف ايضا هبل ان كوننا يحتوى على العديد من المجرات الاخري!! ثم قام هبل بقياس سرعة حركة هذه المجرات بواسطة ظاهرة دوبلر وهنا توصل هبل الى اكشاف مذهل. فقد اكتشف هبل ان جميع المجرات تبتعد عنا بسرعة رهيبة وتبدو كما لو انها تفر منا فرارها من مجذوم. وليس هذا فحسب بل ان المجرات الاكثر بعدا عنا هى الاعلى فى سرعة فرارها منا!!

الانفجار العظيم

اذن كيف نفهم هذا؟ نحن لا نستطيع ان نفسر ذلك على اننا مركز الكون وجميع المجرات تبتعد عنا. لا. بل يمكننا تشبيه ذلك بالمثال التالى. لو تخيلنا ان لدينا بالونا هوائيا. ثم وضعنا فوقه بعض العلامات المميزة. ولنتخيل ان موقعنا فى الكون يماثل احد هذه العلامات ثم قمنا بنفخ البالون فماذا سوف نلاحظ ؟ سنشاهد ان جميع العلامات الاخرى على سطح البالون تبتعد عنا وكلما زاد بعد نقطة ما عنا كلما بدا لنا ان سرعتها  تزداد!! ولو تخيلنا اننا نصور مشهد تمدد الكون هذا سينمائيا. ثم قمنا بعرض هذا الفيلم للوراء بسرعة عالية فسيبدو الكون كما لو انه يصغر ويضيق حتى يصل الى نقطة واحدة ضئيلة قبل 14 مليار سنة!! وهنا يظهر امامنا الصفر مرة اخرى. وفى هذه النقطة تكون الكثافة لانهائية ودرجة الحرارة عالية لا يمكن تصورها. وعند هذه الحالة اللتى تشبه حالة الثقب الاسود تقفد كل قوانين الفيزياء معناها و لا يمكن تفسير قوانين الكون قبل هذه اللحظة. فهذه اللحظة تمثل لحظة ولادة الفيزياء برمتها. وتسمى هذه النظرية بنظرية الانفجار العظيم او big bang

لكن ربما يظهر سؤال الا يوجد تفسير اخر لموضوع تباعد المجرات سوى هذه التفسير السابق؟ الاجابة هى بلى. بل ان اسم النظرية كان اسم السخرية. فالترجمة الفعلية لاسم النظرية هو الفرقعة الكبيرة . فمنذ بداية اكتشاف هبل ظهرت نظريتان نظرية الانفجار العظيم السابق الحديث عنها. كما انه قد ظهرت ايضا نظرية الحالة الثابتة او ال steady state وكانت نظرية الحالة الثابتة تقول صحيح ان المجرات تتباعد. لكن فى مكان ما فى رحم الفضاء تتولد مجرات جديدة تملأ الفراغ الناشئ وبنفس السرعة فيبقى في النهاية شكل كوننا ثابتا لا يتغير. وانقسم العلماء بين هاتين النظريتين وكان كل عالم يختار احد هذه النظريتين بناء على قناعاته العلمية والايديولوجية. واستمر الموضوع هكذا حتى منتصف القرن العشرين حين انتصرت نظرية الانفجار العظيم. وهنا نصل الى جائزة نوبل المذكورة فى العنوان.

كان العالم الروسى فريدمان من اوائل الفيزيائيين المقتنعين بتوسع الفضاء. وكان ذلك بشكل مستقل عن اكشافات هبل وبناء على حساباته النظرية الخاصة. وانتقلت فكرة فريدمان عبر تلميذه جاموف الى الولايات المتحدة الامريكية حيث هاجر الى هناك وعمل استاذا. وفى جامعة برنستون كان هناك فريق بحثى يتتبع نظرية الانفجار العظيم فى بداياتها ويرسم سيناريو لكيف كان شكل الكون فى بداياته. وكان هذا الفريق البحثى يشمل العالمين ديك و بيبلس اللذان كانا يتتبعان افكار جاموف. وتوصلوا الى انه بعد 300 الف سنة تقريبا من  بداية الانفجار العظيم تمدد الكون الى حجم يصل الى واحد فى الالف من حجمه الحالى. وبردت درجة حرارته الى 3000 درجة فى المتوسط. وفى هذه الدرجة المنخفضة نسبيا ظهر الضوء حرا لاول مرة. ففى هذه المرحلة تمت عملية تدعى ال recobmination حين اتحدت الالكترونان مع البروتونات وتحرر الضوء من اسر هذين العنصرين واصبح كانه سيف قد استل من غمده. وفى هذه المرحلة ملا الكون ضوء احمر يميل الى الاصفرار. ويمكن تشبيه هذه المرحلة بيوم ذي شبورة كثييفة ثم بدأت هذه الشبورة فى الانقشاع  حتى بدأ الضياء واضحا جليا. وهنا بدأت فكرة فريق العلماء. ماذا حدث بعد هذه اللحظة؟ وجدوا ان الكون استمر فى التمدد. وتمدد معه هذا الضياء حتى لحظتنا الحالية هذه. ولذلك فلابد ان يبقى هذا الضياء موجودا حولنا فى كل مكان لكن درجة حرارته لن تبقى 3000 ولكنها  ستنخفض الى 3 درجات كلفن. وكما نعلم من قانون بلانك ان كل جسم ذي حرارة يشع طيف كهرومغنطيسى ذو نمط معين. فلابد اذن ان يكون حولنا هذا النمط الكهرومغناطيسى. وكان الفريق البحثى يبحث  عن هذا الاشعاع الكونى القديم و الحالى فى نفس الوقت ولكن بلا جدوي.

ننتقل الان الى مشهد اخر الى مكان قريب من جامعة برنستون حيث كان يعمل فيزيائيان هما بنزايوس و ويلسون فى شركة بل للاتصالات. وهى كبرى الشركات فى ذلك الوقت. وكان الفيزيائيان يستخدمان هوائيات حساسة جدا. وكان يزعجهم  شوشرة مستمرة على الارسال. موجات كهرومعناطيسية قصيرة فى نطاق موجات الميكرويف. وكانت هذه الشوشرة لا تنقطع ابدا صباحا ام مساء صيفا ام شتاء. ومهما غيروا اتجاه الهوائيات يبقى التشويش موجودا. وادرك الفيزيائيان ان مصدر هذا التشويش ليس مكان ثابت على سطح الارض او حتى صادر من المجموعة الشمسية. لان التشويش يبقى فى جميع فصول السنة وفى جميع الاوقات وبغض النظر عن اتجاه الهوائي. وكان الفيزيائيان يعتقدان ان هذه المشكلة نتيجة لروث الحمام. فكانوا كل يوم ينظفوان الهوائى جيدا. ولكن النتيجة بقيت كما هى. وعن طريق المصادقة يسمع العالمان بمحاولات فريق العلماء فى الجامعة القريبة منهم ويدركون انهم قد توصلوا الى ذلك الاشعاع الكونى اللذى يبحث الفريق عنه. وينشرون اكتشافهم ذلك. وكان ذلك نبأ عظيم على المجمتع العلمى ويحصل بنزايوس وويلسون على جائزة نوبل فى الفيزياء ويخرج الاخرون خاليي الوفاض. ويري البعض فى هذا ان هيئة جائزة نوبل تريد ان تقدر من يقومون بالتجارب العملية على اساس انها الاعلى تكلفة وترهق عاتق منفذيها اقتصاديا. لكن تبقى هذه الجائزة مختلف فى شأنها فى نظر الكثيرين ويرون انها ذهبت الى من لا يستحق. فقد ذهبت الى فيزيائيين هم الاقل علما فى ميدانهم. بل وعلموا بامر اكتشافهم عن طريق غيرهم. بل قد ينطبق عليهم عنوان المسرحية الكوميدية شاهد ماشافش حاجة!!