لا يمكننا أن نزور نفس البحر مرتين

اتساع البحر و صخبه لهما وقع هائل فى النفس. ولطالما تغنى بذلك الشعراء فى دواوينهم و دونه الأدباء فى اعمالهم وحاكاه الرسامون فى لوحاتهم. لكن من ناحية أخرى لا ينبغى أن يغرنا أتساع البحر ويوحى لنا بسراب لمالانهاية غير موجودة. أويوهمنا صخب البحر بديمومة مغلوطة. فلا ينبغى لنا أن نخال البحر دائما ثابتا لأن الحقيقة عكس ذلك تماما.

قال الفيلسوف اليونانى القديم هرقليطس Heraclitus : “لايمكن للمرء ان ينزل فى نفس النهر مرتين”. وكان يقصد بذلك ان كل شئ يتغير و لا يوجد شئ ثابت. وحتى النهر اللذى يبدو للوهلة الاولى انه عتيق راسخ اذا تأملنا فيه جيدا سنجده انه ليس ذلك النهر اللذى كان قبل 5 دقائق مثلا. فالمياة اللتى تجرى فى النهر الأن جديدة وليست هى اللتى كانت قبل 5 دقائق. بل نحن أنفسنا لسنا ما كنا عليه قبل 5 دقائق. فثمة شئ ما قد تغير!!

وكذلك الحال بالنسبة للبحر. فلا يمكن للأنسان ان ينزل فى نفس البحر مرتين. فالبحار دائمة التغير. وبعض البحار والمحيطات يكبر وبعضها يصغر وبعضها يولد وبعضها يموت ويختفي من فوق سطح الأرض!! ولكن أفة الأنسان أنه يميل لأن يحكم على الامور من زاوية نفسه الضيقة وبمعيار حياته اليومية. فنحن نشعر بالملل اذا انتظرنا نصف ساعة او ساعة. لكن تلك الفترة الزمنية لا تساوى شيئا فى عمر الأرض. فعمر كرتنا الارضية 4.5 مليار سنة تقريبا. و اذا تخيلنا اننا صورنا الكرة الارضية من بداية تكوينها حتى الان كفيلم فيديو ورفعناه على اليوتيوب ولكننا ضغطنا مدته فجعلناها 5 دقائق بدلا من 5 مليارات سنة فسوف نشاهد شيئا عجيبا. فكل مانعتقده راسخ خالد سنشاهده غير ذلك. سنشاهد جبال تنشأ و تمضى. وسنشاهد محيطات تنشأ وتمضى. وحتى قبل 10 ثوانى من نهاية الفيلم فلن يكون المحيط الأطلنطي موجودا!!. فالمحيط الاطلنطى هو احدث المحيطات وعمره يتراوح بين 150 الى 165 مليون سنة. وكل ذلك تفسره نظرية حركة القارات. فما هى تلك النظرية؟

كانت القارات ملاصقة لبعضها

تنبه العالم الألمانى الفريد فيجنر Alfred Wegner فى عام 1915 أن ساحل غرب افريقيا يتشابه تماما مع الساحل الشرقى لأمريكا الجنوبية وكأنهما يشكلان لعبة بازل puzzle  مفككة عن بعضها. وبالمثل فان سواحل باقى القارات تكاد تتطابق مع بعضها وكأنها كانت ملتصقة معا فى يوم من الأيام. وتزداد درجة التطابق عندما نتجاوز السواحل المباشرة للقارات اللتى تتراكم عندها  ترسبات هائلة و ندرس سواحل القارات اللتى تقع على عمق 200 متر تحت سطح البحر. والمثير للاهتمام ان التشابه لا يتوقف فقط على الشكل الهندسى لخطوط الساحل بل انه يمتد ليشمل الخواص الجيولوجية و الخريطة النباتية و التجمعات الحيوانية الموجودة على جانبى هذه السواحل ومع أن هذه المناطق تقع اليوم فى عوالم بعيدة عن بعضها وتفصلها محيطات شاسعة.

وكانت نظرية فيجنر تمثل فتحا عظيما بالنسبة للجيولوجيين ولعلماء الأحياء ولكنها كانت تمثل طرحا سخيفا ولا يمكن قبوله بالنسبة للفيزيائيين. ففيجنر لم يستطع ان يقنع المجتمع العلمى بسبب حركة القارات. وقد فسر ذلك أولا بقوي الطرد المركزي اللتى تنشأ بسبب دوران الأرض أو بسبب قوى المد والجذر. لكن حسابات الفيزيائييين أوضحت ان هذه القوي ضئيلة جدا و ليس بامكانها تحريك كميات الصخور الهائلة اللتى تتكون منها القارات. وأدعاء فيجنر معناه بكل بساطة ان قوة صغيرة بامكانها التغلب على قوة اكبر منها! وهذا مستحيل فيزيائيا. وكان رد فيجنر ان عدم قدرته على حسم سبب حركة القارات لا يعنى ان نظريته خاطئة . كما ان عدم القدرة على تحديد القوة اللتى سببت نشأة الكون لا يعنى ذلك ان الكون غير موجود!

وأستمر الوضع هكذا حوالى 50 سنة تقريبا. وفى اثناء تلك الفترة نشأت حربان عالميتان و ألقت الولايات المتحدة الامريكية قنبلتين ذريتين على اليابان. وابتدأت مرحلة سباق التسلح النووى. وتطورت عديد من العلوم مصاحبة لهذا التطور السياسي المخيف. وتعتبر علوم الزلازل من اكثر العلوم اللتى استفادت من سباق التسلح و الحرب الباردة حيث نشأت لدى الدول المختلفة حاجة ماسة لمعرفة ان كانت دول اخرى قامت بتفجيرات نووية تحت سطح الأرض او لا. وظهرت الحاجة الى التمييز بين التفجيرات النووية والزلازل اللتى قد تحدث بشكل طبيعى فى امريكا او فى الاتحاد السوفيتى السابق.

وبدراسة الموجات الزلزالية المختلفة توصل العلماء الى تصور واضح لقلب الأرض. فقد لاحظوا ان معظم الزلازل تنشأ فى طبقة سطحية قريبة من سطح الارض و انه لا توجد زلازل عميقة الا فى مناطق معينة. و توصلوا الى ان باطن الارض ليس صلبا فى معظمه. بل فقط هى قشرة الارض وأول طبقة تالية لها من الغلاف الأرضي هما فقط الصلبتان. ثم تليهما طبقة هائلة فى صورة لدنة شبه سائلة ثم تليها أخيرا نواة الأرض وهى مرة اخرى طبقة صلبة. أذن القوة اللتى يحتاجها نموذج فيجنر لحركة القارات ليست كبيرة جدا كما كان يعتقد الفيزيائيون من قبل. حيث ان القشرة الارضية تعوم عمليا فوق وسط سائل. كما توصل العلماء الى ان قلب الأرض الساخن يسبب تيارات حمل فى تلك الطبقة السائلة مما يسبب حركة القشرة الارضية فوقها!! وهذا هو سبب حركة القارات!

pangaea

اذن ملخص الصورة حتى الأن ان القشرة الارضية كلها تتشكل من 7 أو 8 صفائح تكتونية عملاقة وبعض الصفائح الصغيرة. وقد كانت كل القارات متصلة ومتحدة مع بعضها قبل 300 مليون سنة فى قارة واحدة عملاقة اسمها بانجيا Pangea. ولكنها انفصلت عن بعضها اليوم كلعبة البازل! وهذا الامر تكرر فى الماضى اكثر من مرة.أى ان البازل قد تجمع و تفرق اكثر من مرة. كما انه سوف يحدث فى المستقبل مرة اخرى. اي ان القارات ستتجمع مرة اخرى فى قارة واحدةعظمى ثم تتفرق من جديد!. ودعونا الان نرى نشأة المحيط الاطلنطى بشئ من التفصيل.

المحيط الأطلنطى

قبل 165 مليون سنة كانتا الصفيحتان الافريقية و الاوروبية من جهة الشرق ملاصقتين تماما للصفيحتين الامريكتيين من جهة الغرب. ثم ابتدأت الماجما او الصهارة فى التدفق بين الصفائح ودفعها بعيدا عن بعض. وتدفقت المادة المصهورة الجديدة لتشكل ارضا جديدة غطتها المياة فورا وحصلنا رويدا رويدا على محيط جديد seafloor spreading. وفى الوقت الحالى يتسع المحيط الاطلنطي بسرعة 3 سم فى السنة. وتتفق هذه الصورة النظرية مع الواقع تماما. فطبقا لهذه النظرية فأن فمنتصف المحيط الاطلنطى هو البؤرة اللتى تتدفق منها المادة الارضية الجديدة. وبالفعل فى منتصف المحيط الاطلنطى توجد جبال بركانية تحت الماء تخرج منها الماجما وهى تمثل اضحل منطقة فى المحيط الاطلنطي.كما انه طبقا للنظرية فينبغى ان يكون مننتصف المحيط الاطلنطى هو اسخن مناطقه واحدثه عمرا بينما كلما ابتعدنا عن المنتصف باتجاه السواحل القارية ينبغى أن نجد ان الارض الموجودة اقدم جيولوجيا. وبالفعل هذا هو الامر الواقع. فمنتصف المحيط هو الاحدث جيولوجيا واطرافه اقدم منه. بل الاكثر من ذلك وحيث ان الصهارة المتصاعدة من باطن الارض تحمل حديدا فى داخلها وبسبب السخونة والمجال المعناطيسى الارضى فان هذا الحديد يتم مغنطته وبطريقة تتناسب مع شكل المجال المغناطيسى الارضى. ولذلك فعندما تبرد الصهارة وتتجمد فانها تخزن معها حالة  المجال المغناطيسى الارضى فى ذلك الوقت الى الأبد. وتوضح الخريطة المغناطيسية لأرض المحيط ان كرتنا الارضية عكست قطبيها المغناطيسيين -اى ان يصير القطب الشمالى جنوبيا و العكس- مرات عديدة على مر السنوات وبمعدل مرة كل 250 الف سنة فى المتوسط. الماضية.

لكن حيث ان نصف قطر الكرة الأرضية ثابت وكذلك مساحة سطحها اذن عندما تتولد ارض جديدة فيجب اهلاك اخرى حتى تبقى مساحة سطح الأرض ثابتة. وعندما تندفع صفيحتان تاكتونيتات بعيدا عن بعضهما فلابد ان تقترب صفيحتات تكتونيتان من بعضهما. فماذا يحدث فى هذه الحالة؟ اذا التقت صفيحة قارية مع اخرى محيطية فان الصفيحة المحيطية تنزلق اسفل المحيطة القارية وتنشأ اخاديد بحرية عميقة وذلك يحدث مثلا بالنسبة لأطراف المحيط الهادي. فالمحيط الهادي يضيق  بينما يتسع المحيط الاطلنطى. اما اذا تقابلت صفيحتان قاريتان مع بعضهما فتعلو احدهما فوق الاخرى لنحصل على سلسلة جبال كما فى سلسلة جبال الهملايا حيث تلتقى الصفيحة الهندية مع الصفيحة الاسيوية.

اذن البحار و المحيطات هى ابعد مايكون عن الاستقرار و الثبات. فالمحيط الاطلنطى يتسع و الهادي يضيق. وخليج العقبة يمتد حتى يصل الى تركيا. بل ويتسع البحر الاحمر حتى يصير محيطا بينما العكس يحدث بالنسبة للبحر المتوسط.  فقارة اقريقيا تتحرك باتجاه الشمال حتى تلتصق باوروبا وينتهى البحر الابيض المتوسط. ولكن فى نفس الوقت  يتوقع العلماء ان تنفصل شبه جزيرة ايبريا عن اوروبا وان تلتحق استراليا بقارة اسيا!! ثم تواصل الصفائح حركتها حتى تتحد كلها مرة اخرى فى قارة واحدة كبيرة عظمى ثم تنقسم مرة اخرى وهكذا دواليك.

ولكن ليست الحركات التكتونية وحدها هى سبب تغير البحار فهناك ايضا عامل اخر مهم وهو يعتمد على درجة الحرارة. فنسبة كبيرة من المياة مخزنة فى القارات توجد فى صورة متجمدة. وعندما ترتفع درجة الحرارة يذوب الجليد المخزون فى القارات ويرتفع مستوى الماء فى البحار وتطغى البحار على الشواطئ و البلاد الساحلية. بينما اذا انخفضت درجة الحرارة انحسر الماء عن الشواطئ. وهناك اثار انسانية وحيوانية تعود الى العصر الجليدى موجودة على قاع المحيط الاطلنطى بجوار الساحل الأمريكى عندما كان الماء منحسرا وكانت تقطن المنطقة تجمعات شتى.

حقا لايمكن للمرء ان يزور نفس البحر مرتين!