الاعداد المركبة

للاعداد المركبة مكانة عالية فى رياضيات اليوم. كما انها تلعب دورا هاما فى التطبيقات العلمية المختلفة. ويصنف الرياضيون الاعداد الى مجموعات متداخلة. هى تحديدا: مجموعة الاعداد الطبيعية والصحيحة و النسبية والمركبة الى اخره. لكن تعد مجموعة الاعداد المركبة هي اكثر المجموعات صعوبة على الفهم وذلك يرجع بكل تأكيد الى انها تحتوي على الاعداد التخيلية. ولذلك يجب علينا اولا ان ان نتعرف على الاعداد التخيلية ولماذا لا يستسيغها كثير من الناس؟.

تعود مشكلة الاعداد التخيلية من وجهة نظرى الى اسمها. فذلك الاسم يشكل حائلا دون قبول الناس لهذه الاعداد. فهذا الاسم يشكل ظاهرة بلاسيبو سلبية او تأثير بالايحاء سلبى كما اثبتت وجوده بعض التجارب الطبية. وانى ازعم انه لو كان لهذه المجموعة اسما اخر  كمجموعة الاعداد الهامة او مجموعة الاعداد اللتى لا غنى عنها لاي رياضى او اي شئ اخر لتقبلها الناس بنسبة تزيد عن 85% مما يتقبلونه بها الان. ولتبارى الناس حينئذ فى اظهار انهم يفقهون هذه الاعداد ويستوعبونها. وفى حقيقية الامر فان جوهر الاعداد التخيلية ليس صعبا على القبول بالنسبة لانسان قد قبل بوجود الاعداد السالبة مثلا.

وفى الماضى البعيد رفض الاغريق الاعداد الغير النسبية و اسموها الاعداد الغير عقلانية وهذه هي الترجمة الحرفية لكلمة irrational numbers . فقد تصور الاغريق ان اي عدد يمكن التعبير عنه كنسبة او قسمة بين عددين طبيعيين . مثلا العدد 2/3 هو نسبة او قسمة 2 على 3 والعدد 1 هو قسمة 5 على 5 او 7 على 7 او اي شئ اخر مشابه. وقال الاغريق باستحالة وجود عدد لايمكن التعبير عنه كنسبة. ولكن اكتشف الاغريق لهول صدمتهم ان العدد جذر 2 لايمكن التعبير عنه كنسبة ابدا . وقد ذكر اقليدس البرهان على ذلك فى كتابه المشهور العناصر. كما رفض الاغريق ايضا الصفر لانه يعبر عن العدم. و الاغريق كانوا امة ترفض العدم و تعتبره فكرة كريهة تشوه جمال الكون الجميل. ومن الطبيعى ان من يرفض العدم  ان يرفض ايضا الاعداد السالبة. فكيف تكون هناك قيمة اقل من اللاشئ ومن العدم؟!!

وفى حقيقة الامر فان اسم الاعداد التخيلية هو الاسم اللذى اطلقه عليها معارضوها وكان هدفهم من الاسم السخرية والاستنكار ورفض الفكرة. ولكن هذا الاسم  هو اللذي بقى يرمز الى هذه الاعداد. وهذا يشبه تماما قصة تسمية الانفجار العظيم  big bang بهذا الاسم فهو ايضا كان اسما يقصد به الاستخفاف بالفكرة. لكن لعجائب الامور فان هذا الاسم هو اللذي بقى.

اما باقى اسباب عدم استساغة الناس للاعداد التخيلية فيرجع الى ماهيتها وكونها. فما هى الاعداد التخيلية؟

الاعداد التخيلية هى ببساطة حل المعادلات الرياضية اللتى تحمل الصورة التالية:
X^2 + a^2= 0     1
حيث a يرمز لعدد حقيقى. وبناء على ذلك فاننا يمكننا كتابة المعادلة السابقة على الصورة التالية
x^2 = -a^2   2

و على سبيل المثال اذا عوضنا عن قيمة a ب 1 نحصل على المعادلة التالية
x^2 = -1     3

ولحل هذه المعادلة يجب علينا ان نفكر بطريقة منطقية ونضع انفسنا فى دور محققى الشرطة حين يحققون فى جريمة  أو نلعب دور المفتش هركيول بوارو فى روايات اجاتا كريستى حين يبحث عن الجانى الحاذق اللذى ارتكب جريمة القتل فى الرواية. فاذا كان للمعادلة السابقة حلا ما فانه لا يمكن ان يكون عددا حقيقيا لاننا نعلم ان العدد الحقيقى قد يكون موجبا او سالبا او صفر. واننا اذا ربعنا اى عدد حقيقي فاننا لن نحصل على عدد سالب باى حال من الاحوال. اذن فالاستنتاج انه اذا كان للمعادلة 3 حلا ما فاننا لابد ان نخترع نوعا جديدا من الاعداد تسمح خواصه بان يكون حلا للمعادلة السابقة!!

ولذلك فتم استحداث رمز جديد هو i وهو يمثل عدد من نوع جديد الا وهو النوع التخيلي واللذي يمثل حلا للمعادلة السابقة. و لاستكمال كل الحلول نقول ان للمعادلة السابقة حلان هما i و i- . وهنا قد يسأل سائل لماذا علينا ان نخترع حلا جديدا للمعادلة السابقة. الا يمكننا التوقف ونقول انه لا يوجد حل لهذه المعادلة وينتهى الموضوع عند هذا الحد و لا داعى لاختراع نوع جديد من الاعداد؟

نستطيع ان نجيب على هذا السؤال بسؤال عكسى ونقول ولم لا؟ ومااللذي يمنع؟ فنحن لم نخرق قاعدة قائمة بل حافظنا على القوانين الموجودة كلها. والقوانين الجديدة كلها متسقة مع نفسها و لاتؤدي الى اى تناقض. وما هى الرياضيات الا تجنب التناقض؟. بل الاكثر من ذلك اننا اذا تأملنا روح الرياضيات لوجدنا ان اختراع نوع جديد من الاعداد امرا ليسا ممكنا فقط بل هو المفضل. فالرياضيات تتنفس الحرية وتعيش من الابداع. فهى ليست قيود جامدة كما قد يظن البعض. فالقوانين فى الرياضيات اشبه بالقافية و البحر فى الشعر . فهذه قواعد لا تحد من الابداع و لا تقيده. وكما فى كرة القدم فان القواعد تنظم اللعبة و لا تقلل من جمالها فلكى يحرز لاعب هدفا عبقريا ليس عليه ان يلعب الكرة بيده أوان يدفع خصمه او يوسعه ضربا وركلا حتى يخلو له الطريق الى المرمى. ولكن مع ذلك فالرياضيات تسمح دائما بخلق صنوف جديدة من القوانين يخلقها الرياضى نفسه. فمن يظن ان القافية تحد من ابداع شعره فهناك الشعر الحديث اللذى لايلتزم بالقافية ومن يظن ان دفع الخصم امر لامشكلة فيه فهناك رياضة الرجبى. باماكانك ان تخترع قوانين وقواعد جديدة فى اى وقت. فقط لا يمكنك ان تخترع القوانين فى منتصف اللعب. فاذا بدأت شيئا فعليك ان تلتزم به حتى النهاية. واذا اردت تغيير القواعد فاخترع شيئا جديدا وابدأ من جديد.

وهنا قد يسأل انسان مرة اخرى وهو مازال غير مقتنع بفكرة الاعداد المركبة: ولكن اين توجد الاعداد المركبة فى الطبيعة؟ والاجابة هى ان الاعداد المركبة لا توجد فى الطبيعة! كما ان الاعداد السالبة مثلا لا توجد فى الطبيعة. فمن رأى منا عددا سالبا؟ وما معنى ان توجد قيمة اقل من العدم فى الحقيقة؟ وفى الواقع فان كل استخدامات الاعداد السالبة هى امور مجازية. فنحن نقول مثلا سالب 50 دولار ونعنى به مثلا ان يكون الانسان مدينا. ولكن لا توجد قيمة من المال قيمتها تساوي سالب 50 دولار. ولكننا نعتبر المديونية عكس للملكية. كما اننا نعتبر القبح عكس الجمال فاذا اعطينا لشئ درجة من الجمال تساوي سالب 5 فاننا نعنى انه قبيح.

ومن يسأل عن وجود الاعداد المركبة فى الواقع يخلط بين العلوم طبيعية كانت او انسانية بالرياضيات. فالعلوم الطبيعية والانسانية مرتبطة بالواقع  القائم وهى خاطئة وساقطة ان خالفت الواقع الموجود. فالفيزياء والكيمياء والبيولوجيا كلها امور مرتبطة بالواقع المعاش. وكذلك العلوم الانسانية كالتاريخ و الجغرافيا و اللغات وعلم الاجتماع الى اخره كلها مرتبطة بالحقيقة وبالواقع القائم. اما الرياضيات فهى مرتبطة فقط بكل ما يستطيع العقل ان يتخيله ويعقله اى ان يربطه ربطا منطقيا سليما لا تناقض فيه. وما يستطيع العقل ان يتخيله قد يكون موجودا فى الواقع وقد لا يكون موجودا فيه.  وفى الحقيقة فان ما يستطيع العقل ان يتخيله اوسع بكثير من الواقع القائم. ولذلك فان الاعداد المركبة ومعظم الرياضيات تنتمى الى هذه النوعية وواجب الرياضيات ان تعبر عن كل ما يستطيع العقل ان يتصوره ويربطه ربطا منطقيا. و الاعداد المركبة هى مما يستطيع العقل البشري تخيله ولذلك فان اختراع الاعداد المركبة ليس امرا ممكنا فقط او حتى محبذا بل صار بهذا ضروريا!

وبناء على ذلك اذا عممنا الفكرة السابقة و كنا نريد حلا للمعادلة التالية:
x^2 -2x + 5 = 0
فاننا لن نجد حلا حقيقيا لها او حتى تخيليا. ولكنه عدد مركب من شقين احدهما حقيقى و الاخر تخيلى. فللمعادلة السابقة حلان هما:
1+2i
1-2i

وهنا قد يسأل السائل مرة ثالثة: لكن اذا كانت الاعداد المركبة غير موجودة فى الواقع فهل معنى ذلك اننا لايمكن ان نستخدمها فى وصف واقعنا المألوف؟ الاجابة هى لا. فالاعداد المركبة تستخدم بالفعل فى وصف وقائع حياتنا. فهى تستخدم فى ميادين الكهرباء و الديناميكا والنظرية النسبية وكل ميادين الفيزياء تقريبا. ولا يوجد اى تعارض فى اننا نصف الواقع بارقام هي ليست جزءا منه. فالعبرة هى بمرونة هذه الارقام وقدرتها على الوصول الى النتيجة النهائية بشكل مرض بعض النظر عن اى شئ اخر. فالنموذج الرياضى يعبر عن الحقيقة ولكنه ليس الحقيقة نفسها. ونحن نعلم بمتحف مدام توسو للشمع الموجود في لندن واللذى توجد فيه تماثيل للمشاهير تشبههم بصورة مذهلة. فهنا حينما احببنا ان نمثل انسانا بصورة قريبة جدا من حقيقته استخدمنا مادة ليست موجودة فى حقيقة الانسان!. فالانسان لا يتكون من الشمع! ولكن الشمع يعتبر فى هذه الحالة هو من افضل الطرق للوصول لهدفنا وهو تمثيل الانسان وعمل نموذج صادق له. وعندما نريد تقديم شخصية راسبوتين على المسرح فنحن لا نبحث عن ممثلين روسيين لتأدية هذا الدور.فهذا الدور قدمه يوسف وهبى وغيره بشكل فذ. فالنموذح الرياضى او القوانين الفيزيائية الرياضية  اللتى تفسر الواقع ليست هى الواقع نفسه. وهناك مثل صينى يقول: انت تشير الى السماء و الاحمق ينظر الى اصبعك. فالقوانين الفزيائية هى مجرد الاصبع اللذي يشير الى الواقع فقط ولكنها ليست السماء نفسها. ولذلك لا يجب تحميل القوانين الفيزيائية والافكار الرياضية اكثر من طاقتها ونسأل ما معنى عدد تخيلى او مركب او ما شابه ذلك فى الحقيقة و فى الواقع؟

وقد يسأل السائل مرة اخري: وهل انتهى الابداع العقلى عند هذا الحد؟ و هل هناك صور رياضية  اخري ربما يمكنها ان تعبر عن الاعداد المركبة؟ الاجابة هى نعم فهناك صور اخرى تؤدي وظيفة الاعداد المركبة تماما. ويعتبرها الرياضيون صورا اخرى للاعداد المركبة. بل ان بعض هذه الصور لا يحتوى على اعدادا تخيلية من الاساس!! ولكننا سنتعرف على هذه الصور فى مرة اخرى قادمة.