الحرب العالمية الأولى: نهاية وبداية

انتهت الحرب العالمية الأولى قبل ستة وتسعين عاما وكما كل شئ فى الحياة كانت هذه نهاية مرحلة وبداية مرحلة جديدة. ولكنها لم تكن بداية اى مرحلة ولكنها بداية حاضرنا نحن. مع ذلك كثيرا ما يتغافل البعض عن الحرب العالمية الاولى ويبالغ فى دور الحرب العالمية الثانية مع انها -مع هول نتائجها-  ليست الا مجرد رد الفعل وتابع الزلزال اللذي حدث قبل واحد وعشرين عاما.

وموضوعنا اليوم سنتناوله من خلال ثلاث مسارح موزعة فوق الكرة الأرضية. المسرح الاول هو المسرح الروسي لما كان له من تأثير على التاريخ البشرى باكمله. والمسرح الثانى هو مسرح الدولة العثمانية لما كان له من تأثير مباشر علي العالم العربي. والمسرح الثالث هو مسرح وسط اوروبا وهو يتكون من موقعين: الموقع الأول هو مملكة النمسا-المجر باعتبار انها كانت الدولة العظمى فى ذلك الزمان. والموقع الثانى هو مملكة المانيا الفتية الصاعدة ويرتبط بهذا الموقع دول اوروبا الغربية القوية والولايات المتحدة الامريكية. وغنى عن الذكر ان هذه المسارح لم تكن معزولة عن بعضها وكانت الأحداث تتداخل فيما بينها.

نخطئ عندما نظن ان دول الحلفاء انتصرت على دول المحور فمعنى ذلك ان تفوقها كان مؤكدا. فى حقيقة الامر كانتا الكفتان متعادلتين. وكان بالامكان ان تخرج دول المحور كما دول الحلفاء فى النهاية منتصرة. كان  كلا الطرفين منهكين وكانت لعبة عض الاصابع مستمرة. وكان كل طرف يدرك انه قد فقد اصبعه لكنه لابد ان يستمر كيلا يفقد حياته. كانت المانيا تحاصر انجلترا لتجويعها وتركيعها وكذلك كانت تفعل انجلترا. فهي دول لاتملك مواردها الاولية بشكل كامل. وكانت قابلة لان تسقط بسبب الحصار. الدولة الوحيدة اللتى كانت تملك موراد هائلة ولا يمكن تجويعها هي روسيا. فكانت تمتلك امكانيات تكفى لتغذية العالم باكمله. مع ذلك فأن الدولة الوحيدة اللتى سقطت بسبب المجاعة كانت روسيا! وكان ذلك بسب سوء الادارة!

كانت الصورة فى روسيا صارخة وان كانت نمطية بالنسبة لنظم الحكم فى ذلك الزمان. كان الفارق بين الحكام و المحكومين كبيرا. كان القياصرة الروس ينتمون الى سلالة الاسر الكبرى فى اوروبا. فبسبب الزواج السياسي كانت كل الأسر الحاكمة فى اوروبا تمت بصلة قرابة الى بعضها بصورة او باخرى. فكان نيكولاوس الثانى قيصر روسيا ابن عم فيلهلم الثانى قيصر المانيا وكان فيلهلم الثانى حفيدا لفيكتوريا ملكة انجلترا. بينما كانت العامة تنتمى الى جنس اخر. فغالبية الشعب الروسى كانوا من الجنس السلافى او من قوميات اوروبية وأسيوية اخرى. كان نظام الحكم اقطاعيا ارستقراطيا. وكانت الوجاهة الأجتماعية تنعكس على الدرجة الوظيفية ولم تكن الكفاءة تلعب اى دور.

وبالمثل كان الجيش الروسى. فكان الظباط ينتمون الى الطبقة الارستقراطية بينما الجنود من الفلاحين البسطاء. وكان اعداد الجنود للقتال سيئا فمعظمهم لم يطلق رصاصة فى حياته. صحيح انهم كانوا وطنيين مخلصين للقيصر لكنهم لم يكونوا يعرفون مااللذى يقاتلون من اجله. ما يعرفونه انهم يقاتلون من اجل ابيهم القيصر. لكن من اجل ماذا كان يقاتل أبوهم القيصر؟

عندما بدأ الجد وتقابل الجنود الروس ضد الألمان كانت خسارة الروس مروعة. فالجنود الالمان كانوا افضل على مستوى الافراد والقيادة وبالرغم من أن الجنود الروس كانوا احيانا أضعاف خصومهم الالمان الا ان خسارتهم كانت فاجعة. كان الجنود الروس يعانون من ضعف التجهيزات والامدادات وقسوة قادتهم. فقد كان الضباط الروس يرون القسوة فى التعامل مع الجنود من الفضائل المحمودة. وكان المصابون الروس لا يتلقون الرعاية الطبية اللائقة. وعندما كان رودزيانكو Rodzianko رئيس البرلمان الروسى الدوما Duma فى زيارة ميدانية ورأى سوء الوضع بنفسه وكيف ان المصابين يتم شحنهم فوق قطارات البضائع فى صورة غير ادمية فيلقون حتفهم على الطريق فطلب عزل رئيس الاسعافات العسكرية. ولكنه لم يكن ينادي حيا! . فرئيس الاسعافات الطبية كان نسبه عتيدا لا يمكن عزله حتى لو هلك الجيش الروسى كله.

كانت خسائر الجنود الروس فادحة.  فقد سقط اكثر من 2 مليون قتيلا منهم ويعانون من سوء الامدادات وسوء الرعاية وسوء المعاملة. ولذلك كانوا كثيرا يستسلمون بمئات الألاف لعدوهم فى أقرب فرصة لانهم كانوا يعتقدون انهم سوف يلاقون فى الأسر معاملة اكثر كرامة من اللتى يلقونها أثناء خدمتهم. وكانت عائلات هؤلاء الجنود مستاءة جدا. فهم لم ينجبوا اولادهم ليرسلوهم للهلاك من أجل القيصر. وها هم يتركوا المزارع والاراضى ليبذلوا ارواحهم فى ميادين القتال. وكان العمال فى المدن مستائين ايضا. فهم كانوا يعملون ليلا ونهارا من اجل تصنيع الاسلحة والذخائر فى نفس الوقت اللذي توقف امدادهم بالمواد الغذائية بسبب ذهاب الفلاحين الى جبهات القتال من جهة وبسبب سوء الادارة فى توزيع المواد الغذائية من جهة اخرى.

اذن كان الفلاحون فى القري مستائين بسبب فجيعتهم فى ابنائهم وكان العمال مستائين لانهم لا يجدون ما يأكلونه وكانت الروح القتالية للجنود منخفضة ويفرون من ميادين القتال. مع ذلك كان القيصر الروسى يعيش فى برج عاجي منفصل عن الواقع  متمسك بنظامه الرجعي رافضا لاى اصلاح سياسى فى البلد. لا يعرف الا سياسة استخدام السياط مع الشعب. وكان يحتقر السياسيين الروس اللذين يدعونه الى الاصلاح. وذات مرة عندما وصله خطاب من رودزيانكو رئيس الدوما كان رده: “ما اللذى يريده هذا البدين؟”!

كثرت المظاهرات والاعتصامات والأضرابات فى المدن الروسية. كان الهدف من وراء هذه المظاهرات فى البداية اقتصادي. لكن سرعان ما تنامت المظاهرات السياسية واختلطت مع الاقتصادية. ولم يكن القيصر يعرف الا سياسة استخدام العصا دون جزرة. وفى فبراير عام 1917 امر القيصر جنوده باطلاق النار على المتظاهرين لكن هنا رفض الجنود الامر وانضموا الى المتظاهرين. وخرج الجيش عن طوع القيصر. واصبح الوضع خطيرا جدا. شعر القيصر بالخطر واصدر قرار بحل الدوما لكن الدوما تحدي قرار الحل وقام بدوره بعزل القيصر. وهنا خرجت الامور عن نطاق السيطرة. اتحد الثوار فى الشارع والسياسيون فى البرلمان على طلب عزل القيصر وشعر الجيش بالحرج وطلب من القيصر الرحيل لانه اصبح يشكل عبئا على النظام. وتردد ميخائيل اخو نيكولاوس قليلا فى خلافة اخيه على عرش روسيا. وكانت الاحداث كانت تمر سريعا وتم اعلان اسقاط النظام القيصرى واعلان الجمهورية.

قبض البرلمانيون سريعا على السلطة وشكلوا حكومات الثورة المتعاقبة. ولم يعارض الثوار هذه الحكومات فى بداية الأمر. لكن الصدام كان مؤجلا. شكل الثوار من انفسهم سوفييت Soviet أو مجالس من العمال والفلاحين والجنود كانت هى من تتولى تنظيم الأمور فى  الشارع و الحياة. وكانت القضية الخلافية الاساسية بين الحكومات والثوار هى قضية السلم والحرب. ففى حين كان مطلب الشارع انهاء الحرب باى وسيلة وعودة الجنود من جبهات القتال. كانت دول التحالف تمارس ضغطا على الحكومة الروسية من اجل  الاستمرار فى الحرب حتى النهاية. وشعرت الحكومات المتعاقبة بالضغط وبدأت تمارس خطابا مزدوجا تقول امام شعوبها انها تريد انهاء الحرب وترسل خطابات فى الخفاء الى الحلفاء بانها معهم الى النهاية وما تقوله امام الشعب هو للاستهلاك المحلي. وكانت المانيا تدرك حقيقة الموقف فى روسيا ولذلك سهلت هروب رجل من سويسرا  كان منفيا بامر من القيصر لانها تعلم بتأثير هذا الرجل الثوري فى الشارع وانه سوف يساهم فى سحب الجيش الروسى من الحرب العالمية الاولى. وكان هذا الرجل هو لينين.

كان خطاب لينين الثورى هو اعلى الخطابات فى الشارع استطاع حشد الجماهير حوله واصبح الهتاف: “خبز ارض حرية” هو مطلب الثوار و الشعب الاول. ولم يكن لكذب الحكومة على الشعب ان يستمر طويلا فسرعان ما افتضح امر الخطابات السرية واصبحت الحكومة الروسية فى مأزق امام شعبها واصبح الصدام محتما.

كانت محاولة الانفلاب الاولى اللتى قادها البلشفيون بقيادة تروتسكى قد باءت بالفشل وقامت الحكومة بحبس تروتسكى . ثم احست الحكومة بالخطر يزداد يوما بعد يوم. وقام رئيس الوزراء بتعيين جنرال من الجيش كان معادي لأحداث ثورة فبراير ومن معسكر الثورة المضادة. لكنه كان اختيارا خاطئا. فقد قام هذ الجنرال بالانقلاب على الحكومة وعلى الثورة. وكان هذا ثانى انقلاب. ولكنه كان ايضا انقلاب فاشل. وساهم فى فشل هذا الانقلاب تروتسكى المحبوس اللذى قاوم الانقلاب من سجنه. كما قام عمال السكة الحديد بالامتناع عن  نقل الجنود الانقلابيين وتخريب خطوط السكة الحديدية مما ادى الى فشل الانقلاب وايداع الجنرال الانقلابى فى السجن. وخرج تروتسكى من سجنه واصبح للبلشفيين الصوت الاعلى فى الشارع والسلطة. وكانوا يجنحون اكثر وأكثر باتجاه اليسار. وهنا قرر البلشفيون مرة اخرى الاستيلاء بالكامل على السلطة والثورة على الثورة. فقام لينين بتخطيط مخطط قام بتنفيذه تروتسكى فى 25 من اكتوبر عام 1917 فكان الأنقلاب الثالث حيث استولى البلشفيون على السلطة فى الثورة الحمراء.

كان الالمان يضغطون على الحكومة البلشفية من اجل قبول السلم. وكان تروتسكى يماطل فى قبول العرض الالمانى فقد كان يحلم بان تقوم كل شعوب العالم بالثورة على حكامهم وان يقتدوا بالثورة الروسية وتشكل كل الشعوب نظام عالمى جديد. ولم يكن الوضع الداخلى فى النمسا او المانيا او معظم دول اوروبا يختلف كثيرا عن الوضع الروسى. وكان الالمان يدركون هدف البلشفييين ثم نفذ صبر الالمان فاعطوا تروتسكى انذارا اخيرا لقبول السلم. فلما لم يأت الرد قاموا بهجوم ساحق باتجاه الروس وكاد الجيش الروسى ان ينهار تماما وخاف تروتسكى على الدولة الناشئة فقبل العرض الالمانى وقبل باتفاقية بريست ليتوفسك  Brest-Litowsk فى 3 مارس عام 1918 وبذلك خرجت روسيا من الحرب العالمية الاولى نهائيا. ولكنها دخلت فى حرب اهلية كلفتها 700 الف قتيل. ثم كانت تجربة الاتحاد السوفيتى الشيوعية.

كانت الدولة العثمانية قد أصبحت رجل اوروبا المريض وكانت جوانبها بدأت تتهاوي. فقبل الحرب العالمية الأولى فقدت تونس للفرنسيين عام 1881 ميلاديا وفقدت مصر للانجليز عام 1882 وفقدت ليبيا للأيطاليين عام 1911 وخاضت حرب كارثية ضد روسيا خسرت بسببها سلطانها على جزء مهم من الولايات فى اوروبا الشرقية . وتجرأت روسيا على الدولة العثمانية بصورة غير مسبوقة لدرجة انها وجهت اليها انذارا نهائيا بتسليم جميع الولايات الاوروبية اليها. وكانت تريد اجلاء سكان اسلامبول من المسلمين واستبدالهم بسكان اخرين يسهل السيطرة عليهم. لكن هنا هرعت انجلترا وعقدت مؤتمر برلين لانها لم تكن تريد لروسيا ان تقوى لهذا الحد وخرجت روسيا فى النهاية خاوية الوفاض.

كانت الدولة العثمانية مفلسة وديونها متراكمة الى السماء. وكان السخط يسود انحاء الدولة العثمانية سواء خلال ولاياتها التركية او خارجها. ونشأت بداخل تركيا جمعيات معارضة ذات طبع قومى وعلمانى مثل جميعة تركيا الفتاة وحزب الاتحاد والترقي. واخذ نفوذ هذه الجماعات يقوى داخل البلاد حتى استطاعت عزل السلطان عبد الحميد الثانى فى عام 1909وتولية اخيه مكانه. كما انها استطاعت تغيير الدستور وتحويل الدولة العثمانية الى دولة برلمانية دور السلطان فيها تمثيلى فقط والسلطة الحقيقية يمتلكها البرلمان. وكانت السلطة الحقيقية تمتلكها جمعية الاتحاد والترقى وكانت المسئولة الرئيسة قبل الحرب العالمية الأولى واثناءها.

كان حزب الاتحاد و الترقى ذا توجهات قومية شديدة. وكان يرى انتهاج سياسة الحزم والحسم لحماية الدولة من التحلل. ففرض اللغة التركية كلغة رسمية اجبارية في جميع انحاء الامبراطورية مما تسبب فى ضجر شديد فى المناطق العربية اللتى كانت مستاءة اساسة من الدولة العثمانية واسلوب ادارتها واهمالها للولايات الغير مركزية. فكان حزب الاتحاد والترقى سببا فى تحلل الدولة العثمانية اكبر منه سببا في جمع اجزاءها. ورأى انور باشا وزير الحربية واحد الباشوات الثلاثة الحاكمين ان الحرب بجانب دول المحور ستعطي الدولة العثمانية الفرصة فى تعويض خسائرها الحدودية مع روسيا. كما انه سيعطى الدولة العثمانية الفرصة  في التوسع باتجاه دول القفقاز ووسط اسيا باتجاه ايران كما فى فى استعادة النفوذ فى دول البلقان. على الجانب الأخر رأت دول التحالف أن الفرصة لافتراس الرجل العثمانى المريض قد حانت الأن.

لم تضيع انجلترا وقتا وارادت احتلال العاصمة العثمانية اسلامبول فارسلت حملة بحرية بالاشتراك مع فرنسا وكانت معركة جاليبوي Gallipoli لكن من الواضح ان دول التحالف كانت تستخف بالعثمانيين اكثر من اللازم. وفشلت هذه المعركة. واحس انور باشا بالزهو وشعر انه يسطر التاريخ باول هزيمة للبحرية الانجليزية اللتى لاتقهر.  ولمع اسم ظابط صغير هو مصطفى كمال اتاتورك مؤسس الدولة التركية اللائكية المعاصرة.

كان الوضع الداخلى فى الدولة العثمانية اكتر تعقيدا من الوضع الخارجى فكانت كالبيضة اللتى تستطيع ان تتحمل احمالا متوسطة من الخارج لكنها ضعيفة من الداخل حتى ان كتكوت وليد لاحول له ولا قوة يستطيع ان ينقرها بسهولة من الداخل. وكانت المخابرات البريطانية والالمانية شكلت مكاتب مختصة بالمناطق العربية فقط.

كانت الدول العربية الواقعة تحت الحكم العثمانى المباشر مستاءة جدا من اسلوب الحكم وسوء الادارة. ولم يكن عندها مشكلة مع الامبراطورية الانجليزية اللتى وعدت الدول العربية اللتى تتعاون معها بالاعتراف بها والاستقلال. فما بدأت الحرب حتى حدثت ثورات عربية ونشأت معارك فى الكويت والعراق وشبه الجزيرة العربية ومصر وفلسطين وبلاد الشام. كذلك كان الحال مع ارمينيا اللتى ما بدأت الحرب العالمية الأولى حتى اعلنت استقلالها عن الدولة العثمانية.

تحكم عائلة الصباح الكويت منذ القرن الثامن عشر. والكويت كانت منطقة لم تستطع الدولة العثمانية ان تسيطر عليها بشكل كامل فكانت احيانا تحمل لواء العثمانيين واحيانا تخلعه. وعندما بدأت الحرب العالمية الاولى قامت بالثورة على الدولة العثمانية واستطاعت بالتعاون مع القوات الانجليزية اخراج العثمانيين من العراق.

وقام الشريف حسين امير مكة بالثورة على العثمانيين واستطاع اخراجهم من شبه الجزيرة العربية. وكان هناك اتفاق بين الشريف حسين والأنجليز على الاعتراف بالشريف حسين ملكا على المنطقة العربية. وكان يشرف على الاتفاقات الانجليزية-العربية ظابط مخابرات انجليزى اكتسب شهرة عريضة بعد ذلك يعرف بلورنس العرب.

فى نفس الوقت كانت تدور فى الخفاء مباحثات سرية بين الانجليز والفرنسيين تهدف الى تقسيم املاك الرجل المريض فيما بينهم. وكان سايكس الانجليزي وبيكو الفرنسى يجتمعان منذ عام 1915 من اجل هذا الشأن. وانتهت الاجتماعات باتفاق سرى فى مايو 1916. وانتهى الاتفاق بان تحصل انجلترا على العراق والاردن وفلسطين وان تحصل فرنسا على جنوب تركيا وسوريا ولبنان. وكانت روسيا طرفا فى هذا الاتفاق على أن يتم التنسيق معها بشان الصيغة النهائية. لكن عندما قامت الثورة الروسية قام تروتسكى بفضح هذه الاتفاق ليفضح الانجليز والفرنسيين امام شعوبهم أولا وليوضح انهم لايحاربون من اجل المبدأ ولكن للأستعمار. كما أنه اراد ان يحرج القوى الغربية امام باقى العالم خاصة حلفائهم العرب.

حاول الانجليز التهوين من اتفاقية سايكس بيكو فقالوا ان الامر فيه مبالغة وان سايكس وبيكو موظفان صغيران فى الخارجية و الاتفاق بينهما ليس ملزما بينما تعهدات الحلفاء امام حلفائها العرب هى امر نهائي. وهناك خطابات متبادلة بين الشريف حسين والممثل الأنجليزي الأعلى مكماهون بخصوص هذا الشان. لكن فى خلال هذا الخضم فى نوفمبر 1917 ظهر وعد بلفور الموجه من وزير الخارجية الانجليزي بلفور الى المليونير اليهودي روتشلد واللذي يعد فيه بضمان اقامة وطن قومى لليهود.

الملفت انه عندما اعطت انجلترا وعد بلفور لم تكن قد احتلت فلسطين بعد. كما أن تاريخ هذا الوعد فى العام قبل الاخير من الحرب وقبل السنة الحاسمة  منها يدعو الى التأمل. بالأضافة الى ان بلفور لم يكن مشهورا بحبه لليهود. يري البعض ان هذا الوعد كان بهدف استمالة اليهود فى كل انحاء العالم لجانب دول التحالف. فقد كان تروتسكى والكثير من الضباط البلشفيين من زعماء الثورة الروسية من اليهود. وكان الانجليز يغازلونهم لمحاولة جذب روسيا الى الحرب مرة اخرى. كما ان مساعدي الرئيس الامريكى نيلسون كانا صهوينيين متعصبين وكان الانجليز يريدون مشاركة امريكية مؤثرة فى الحرب. كما ان اليهود  كانوا موجودين فى المانيا و النمسا وكانوا بذلك يغازلون اليهود ليتعاطفوا معهم ضد دولهم الأم. كما ان اللوبى اليهودي فى انجلترا كان له وزن مهم.

كانت مصر تابعة للدولة العثمانية. ولكنها كانت تتمتع بما يشبه الحكم الذاتى تحت حكم اسرة محمد على باشا. ثم دخل الانجليز مصر فى عهد الخديوي توفيق فى عام 1882 وبقوا بعد ذلك بدعوى الدفاع عن مصالحهم وخاصة قناة السويس. وكانت للأنجليز اليد الطولى فى ادارة الشأن المصرى وان كانت اسميا مازالت تابعة للذولة العثمانية.  وعندما قامت الحرب العالمية الاولى كان  الخديوى عباس حلمى فى الاستانة وعندما طال بقاءه هناك اتهمته انجلترا بالتواطئ ضدها. كان موقف مصر غرييا فهى من الناحية الرسمية تابعة للدولة العثمانية الطرف فى الحرب ومن ناحية اخرى كان قرارالحكم الفعلى فى يد الانجليز الطرف الأخر فى الحرب. فقامت انجلترا بعزل عباس حلمى وتعيين عمه حسين كامل بدلا عنه فى ديسمبر 1914. واعطته لقب سلطان. وقامت بفصل مصر عن الدولة العثمانية عقابا للدولة العثمانية على الدخول فى الحرب ضدها.

رأت الدول العثمانية ان الفرصة مواتية لاستعادة مصر من الانجليز مرة اخرى. فارسلت حملة عسكرية بقيادة الخديوي المعزول عباس حلمى لاخراج الانجليز من مصر. لكن هذه الحملة قد فشلت. ثم ارسلت الدولة العثمانية حملة ثانية لكن مرة اخرى فشلت تلك الحملة. فكان من المتوقع ان يقوم الانجليز بهجوم مضاد اللذى تأخر بسبب ارتباك بريطانيا فى حربها الاوروبية ضد المانيا. لكن عندما حدث ذلك الهجوم المضاد استطاعت انجلترا احتلال فلسطين وكل بلاد الشام.

اتفاقية سيفر

اتفاقية سيفر

كانت النتيجة كارثية على الدولة العثمانية خصوصا بعدما خرجت المانيا من الحرب.  فقد فقدت كل ممتلكاتها العربية والاوروبية. بل واكثر من نصف مساحة تركيا الحالية كانت واقعة تحت الاحتلال الغربي.  وقام السلطان العثمانى محمد وحيد الدين بالتوقيع على اتقاقية سيفر Sèvres القاضية باستسلام تركيا والقبول بان تفقد معظم اراضيها للدول الغربية. اما الباشوات الثلاثة الحاكمين فقد قاموا بالهرب بعدما وقعت الواقعة. لكن باقي الاحزاب القومية فى الجزء التركى غير المحتل رفضوا هذه الاتفاقية وشكلوا حكومة موازية لحكومة الباب العالى, ومرة اخرى ظهر اسم مصظفى كمال اتاتورك اللذى استطاع ان يحل بالجيش اليونانى هزيمة قاسية. واصحبت للدولة العثمانية حكومتان كل منهما تدعى الشرعية وتمثيل الدولة. وقبل مؤتمر لوزان الاخير قام مصطفى كمال اتاتورك بعزل حكومة الاستانة واعتبر ان السلاطين العثمانيين خونة لتوقيعهم اتفاقية سيفر وتم طردهم من البلاد وتجريدهم من الجنسية التركية.

كانت مملكة النمسا-المجر هي الدولة العظمى فى ذلك الزمان. وكانت هي الأخ الأكبر وكانت مملكة المانيا هى الاخ الاصغر. لكن عندما بدأت الحرب اثبتت المانيا انها هى فى حقيقة الامر الاخ الاكبر ورأس حربة دول المحور. فكانت تحارب على جميع الجبهات بحوار النمسا-المجر والدولة العثمانية. كانت المانيا كالثور الجامع تنطح الانجليز و الفرنسيين والأيطاليين والروس وتمثل لهم كابوسا مرعبا. لكن لم تكن المانيا تخطط لحرب لمدي الحياة. كان فى تقديرها ان الحرب ستكون سريعة. واقصى فترة كان بامكان المانيا ان تتحملها عامين. لكن عندما امتدت الحرب 4 سنوات اثقلت الجراح الثور الألمانى. بينما كانت النمسا-المجر تنزف من جميع الجوانب.

كانت النمسا-المجر دولة عظمى . وكان الجندي فى جيش تلك الامبراطورية فخورا بخدمته هناك. لكن تغير الحال وشاخت الامبراطورية. واثقلت المشاكل الدولة وكان اعداد الجنود سيئا وتجهيزهم بالمؤن ضعيفا. وكان الجنود حالتهم مزرية على جبهات القتال. وعندما لم  تعد المانيا قادرة على المساعدة كان على الأمبراطورية العظمي ان تواجه مصيرها بنفسها. كانت تتكون من من قوميات واعراق مختلفة. وكانت كلما تنسحب من منطقة تعلن تلك المنطقة استقلالها عن الامبراطورية الام. فانفصل التشيك وكرواتيا وسلوفينيا.  ثم كانت المعركة الاخيرة حيث كان الايطاليون يتأهبون لهجوم حاسم على النمسا. وتراجع الجيش لخط الدفاع الاخير لخوض اخر معركة. لكن الجنود المنهكين لم يتراجعوا الى اخر خط دفاعى بل ذهبوا الى بيوتهم. وتبخر فجأة جيش الامبراطورية والأمبراطورية كلها. ولا اقول كأنها اصبحت أثر بعد عين فحتى الأثر تبخر . اما الوضع فى المانيا فكان اكثر دراماتيكية.

كان فى الادارة الالمانية حمائم وصقور. وكان ذلك فى الشأنين الداخلى والخارجي. كانت الحمائم تسعى الى اصلاح سياسى فى البلد. كانت تسعى الى نظام حكم برلماني دستورى كما فى انجلترا وفرنسا. وان كانت انجلترا اقرب لان نظام الحكم ملكى هناك. كانت الحمائم تسعى لاصلاح النظام الانتخابى. فقد كان النظام الانتخابى يقسم المجمتع الى ثلاث طبقات غير متساوية فى العدد والحقوق. وفى الشأن الخارجي كانت الحمائم تريد انهاء الحرب بدون ان تنتزع المانيا انتصارا حاسما وكانت تريد قبول وساطة الرئيس الأمريكى نيلسون اللذى كان يقدم دوما مبادرات لاحلال السلام فى اوروبا. اما الصقور فكانوا عكس ذلك تماما. كانوا يريدون اكمال الحرب حتى النهاية وانتزاع انتصار حاسم لصالح المانيا. كما كانوا يرفضون اى تعديل على النظام السياسى القائم. وكانوا من اجل ذلك يوغلون فى الحرب لانهم كانوا يعتقدون ان اى نتيجة بخلاف الانتصار العسكرى الحاسم ستنعكس على الوضع السياسى فى البلاد.

كان القيصر الألمانى مع الصقور. وعندما تأخر الحسم العسكرى بدأ الشعب يضجر من تلك الحرب اللعينة اللتى حسدت ملايين الارواح بلا فائدة واللتى جعلت الحياة صعبة لا تطاق. وكان الصقور كلما تأخر الحسم العسكري يلقون باللائمة على المعارضين السياسيين ويتهموهم بانهم خوارون وطابور خامس وانهم يفتون فى عضد الأمة وهم سبب تأخر الحسم العسكرى. ثم كانوا تارة ينحون بلائمة تأخر النصر على الاقليات الموجودة فى البلاد كاليهود واتهموهم بانهم خونة يتهربون من الخدمة العسكرية. وقد كان ذلك من اسباب كره اليهود واضهادهم لاحقا اثناء الحرب العالمية الثانية.

عندما سقطت روسيا وخرجت من الحرب نهائيا كانت فرصة النصر مواتية الى حد قريب. وسحبت المانيا قواتها من الشرق ووجهتها كلها باتجاه الغرب لحسم المعركة. واشتاط الصقور فى حرب الغواصات لاسقاط كل السفن العابرة فى الاطلنطى لتجويع انجلترا مما كان سببا فى دخول الولايات المتحدة الامريكية الحرب. لكن كل هذا كان لا قيمة له فى نظر الاستراتيجيين الالمان اللذين كان فى وجهة نظرهم ان انجلترا تترنح ولن تحتاج الا سوى اسابيع حتى تسقط نهائيا بغض النظر عن دخول الولايات المتحدة الأمريكية الحرب من عدمه.

كانت دول الحلفاء ترى الصورة سوداء. لكن كان هناك امل وحيد لديها. وهى ان تصمد حتى تدخل الولايات المتحدة الامريكية الحرب بقوة مناسبة. من الغريب ان ندرك ان الولايات المتحدة الامريكية فى ذلك الوقت لم تكن قوة عسكرية ذات شأن. ولم تكن تملك اى طائرة حربية مقاتلة على الأطلاق ولم تكن تملك اى طيارين حربيين مقاتلين. ولكى تستعد امريكا للحرب ارسلت طيارين للتدرب فى فرنسا فى وحدة لافاييت ليشكلوا نواة الطيران الامريكية. كان وضع الحلفاء يشبه فريق كرة القدم اللذى لا يستطيع ان يقدم شيئا خلال المباراة. لكنه يريد ان يصل بعمر المباراة حتى الوقت الاضافى وضربات الجزاء حتى يستطيع ان يشرك لاعبا غير مجهد. صحيح ان هذا اللاعب ليس مشهور بالبراعة لكنه شاب قوى وافر الصحة والمجهود.

اخذت الولايات المتحدة تصاميم طائرات عسكرية من فرنسا وانجلترا لتصنع مثلها فى داخل البلاد وانتجت منها مئات والاف النسخ فالولايات المتحدة لها موراد طبيعية وصناعية وفيرة. وكان الالمان يدركون ان عليهم توجية الضربة القاضية بسرعة وقبل ان يصل الامريكيون بالعدد اللازم الى القارة الاوروبية فكانوا كالملاكم المنهك اللذى قرر وضع كل قوته فى الضربة الاخيرة اللتى يجب ان تصيب خصمه لكى تقضى عليه!

كان  الحلفاء يتوقعون هجوما مروعا من الالمان. وكانوا يعلمون ان الالمان يسابقون الزمن من اجل توجية اللكمة القاضية. باختصار كان كل طرف يعرف موقف الطرف الاخر بشكل ممتاز. وبالفعل اتي الهجوم الالمانى مرعبا باتجاه فرنسا. وكان الحلفاء يتوقعون ذلك وكان عليهم الصمود.

كان اكتساح الالمان جارفا. وتوغلوا بشكل غير مسبوق فى الاراضى الفرنسية. لكن كانت هذه خطة الحلفاء. فقد ترك الحلفاء الالمان يكتسحون حتى تخطوا مدي تغطية مدافعهم. فكانوا كالفقاعة اللتى اخذت تتمدد حتى انفجرت من تلقاء نفسها. فبعد ان توغل الالمان كثيرا فى فرنسا عاد الحلفاء وانقضوا على الالمان وفرقوا شملهم. وطاشت الضربة الالمانية اللتى كانت  من المفترض ان تكون القاضية. وهنا ادرك العسكريون الالمان انهم خسروا الحرب. وعلى القيصر ان يجد حلا ما.

بعد 4 سنين كارثية بدون اى انتصار والهزيمة بارزة فى الافق كان لابد من ايجاد حل سريع. وتفتق ذهن مستشار القيصر عن عمل اصلاحات سياسية وكأن بيدي لا بيد عمرو . فقبل القيصر ان يشارك البرلمان فى تشكيل الحكومة. فتكون المانيا على غرار انجلترا. وبالفعل كادت الخطة ان تنجح. بل تبجح قائد الجيش وقال على السياسيين ان يشكلوا الحكومة  الأن حتى يتحملوا مغبة ما صنعوه ويكفروا عن ذنب الهزيمة اللتى تسببوا بها!

لكن هنا حدث شئ غريب فقد قام قائد البحرية الالمانية بفعل اجرامى. فبعد ان علم بنهاية الحرب وكانت البحرية الالمانية لم تشارك فى الحرب لانها لم تكن اهلا للبحرية الانجليزية- بينما كان الجيش الالمانى قد قام بما يشبه المعجزة رغم الهزيمة وقام بدور بطولي-. امر قائد البحرية قواته بالخروج فى البحر ومهاجمة السفن الانجليزية. لكن البحارة الالمان عصوا الامر ونزلوا الشارع مع المتظاهرين فاصحبت ثورة فى الشارع لايمكن كبحها.

كان الحكم القيصرى اصبح فى خبر كان. وكان الشارع ثائرا. وكان هناك من يريد صنع نظاما شبيه بالثورة الروسية.  لكن القسم الاخر كان مرعوبا  تحديدا من تجربة الثورة الروسية. وهنا تقدم رجال الاعمال ورجال الدولة القديمة والضباط القدامى واعلنوا فى الخفاء دعمهم للثائرين الرافضين لنسخ الثورة الروسية فى المانيا. وقاموا بتمويل ما يشبه جيش شعبى من قدامى الجنود فى حالة ان قامت حرب اهلية لكي يحسموا الحرب لصالحهم.

وبالفعل بعد ان انتشرت الفوضى استطاع ايبرت زعيم حزب الاشتراكي SPD من حسم الامر فى الشارع مع الميلشيات المدعومة من رجال الاعمال والدولة القدامى ونشأت جمهورية فايمر الالمانية السابقة لعهد النازى ادولف هتلر.

ثم كانت مفاوضات فرساي النهائية اللتى استسلمت المانيا بمقتضاها استسلاما غير مشروطا وتعهدت بدفع كل تكاليف الحرب. كانت الفاتورة باهظة جدا. لايمكن لأي مجتمع ان يتحملها فترة طويلة. وبالفعل لم يطل الانتظار حتى اطلت حرب عالمية جديدة بوجه اكثر قبحا.