الصفر و الفراغ

الصفر مفهوم رياضى. اما الفراغ فهو مفهوم فيزيائ. وللوهلة الاولى يبدوا المفهومان مرتبطين او متشابهين. فالصفر قرين للفراغ فى ميدان الرياضيات. والفراغ هو قرين للصفر فى ميدان الفيزياء. فالصفر هو العدد اللذي قيمته لا شئ. وفى رياضيات فون نوينمان فان الصفر تعبر عنه المجموعة الخالية. اما الفراغ فنحصل عليه عندما نخلى حيز حجمى من كافة محتوياته بحيث يحتوى فى النهاية على لا شئ فنحصل على الفراغ.

وقد تأرجح المفهومان عبر التاريخ بين القبول والرفض. وقد عايشت حضارتنا الانسانية جميع حالات التباديل و التوافيق الممكنة لوضع هذين المفهومين.

فارسطو رفض المفهومين على حد سواء. حيث كان يبحث عن حل لمفارقة زينون. وكان من رايه ان الفراغ و المالانهاية هما سبب مفارقة زينون. وأن هذه الافكار موجودة فى العقل لكنها ليست موجودة فى الواقع. اذن فقد رفض ارسطو الفراغ. وحيث ان ارسطو كان يري ان الصفر هو قرين لفكرة الفراغ فى الرياضيات فقد رفض الصفر بالتبعية وقال انه لاوجود له هو الاخر.

الحالة الثانية كانت مع الذريين وهى جماعة اغريقية فى منتهى الاهمية ولكنها كانت اقل انتشارا من الجماعات الارسطية. وقالت جماعة الذريين ان الفراغ موجود. ولو انه لم لو يكن موجودا لما كانت هناك حركة. ولكنها انكرت وجود الصفر وقالت ان هناك حد ادنى او مالانهاية صغرى لا يمكن ان تصل الاعداد الى قيمة اقل منها.

الحالة الثالثة كانت بعد انتشار الحضارة الاسلامية فى كافة ارجاء العالم ودخلت فكرة الصفر معها. فتم قبول الصفر فى اوروبا ولكن كانت افكار ارسطو مازالت رائجة ايضا فتم قبول الصفر ورفض الفراغ. وسادت مقولة علمية فى ذلك الوقت مفادها ان الطبيعة تحتقر الفراغ.

الحالة الرابعة كانت مع باسكال العالم الفرنسى الشاب اللذى كان يبحث عن اجابة لسؤال كان يحير الفيزيائيين فى زمانه. وهى لماذا يشير بارومتر تورشيلى الزئبقى دائما الى 76 سم.؟ واذا استبدلنا الزئبق بالماء فانه يشير الى 10 متر؟!! وماهو السر خلف هذه الارقام الثابتة اللتى لا تتغير. وقام باسكال باعطاء قريب له وكان متسلق جبال بارومتر زئبقى وطلب منه ان يخبره ماذا سوف تكون قرائته عند قمة الجبل. ووجد متسلق الجبال ان البارومتر لايشير الى 76 سم بل الى 66 سم. وهنا ادرك باسكال ان هذا الرقم غير ثابت ولكنه يعتمد على الضغط الجوى وكلما صعدنا الى اعلى فكلما قل الضغط حتى ينعدم.

كان هذا موقف العلم فى العصور القديمة. لكن مارأى الفيزياء فى الصفر و الفراغ اليوم؟ الصفر اولا هو مفهوم غير فيزيائى بل هو مفهوم رياضى. ولذلك لاتستطيع ان تقول الفيزياء اى شئ حوله. فهو مفهوم رياضى سليم ومستقر. لكن تقول الفزياء الحديثة عن الفراغ انه غير موجود فعليا. فالمادة وحسب القياسات الحديثة لا تنعدم ابدا. صحيح ان كثافتها تقل الى حد كبير ولكنها لاتنعدم ابدا. حتى فى الفضاء الخارجى بين المجرات المختلفة فانها لا تختلفى. وتقول القياسات الحديثة ان متوسط كثافة المادة فى الغلاف الجوي هى حوالى 27 مليار مليار جزئ فى السنتيمتر المكعب الواحد. بينما فى الفضاء الخارجى فعدد الجزيئات ينخفض الى اقل من عشرة الاف. اي انه يقل جدا ولكنه مع ذلك لا ينعدم.

لكن ذلك ليس مقصدنا اليوم. دعونا نتخيل التجربة الذهنية التالية: دعونا نتخيل صندوق مغلق طوله 10 سم وعرضه 10 سم و ارتفاعه 10سم. ودعونا نتخيل اننا نستطيع ان نرى ما بداخله واننا افرغناه من المادة تماما. حتى العشرة الاف جزئ فى السنتيمتر المكعب الموجودة فى الفراغ الكونى غير موجودة فى صندوقنا. فهل هو خالي فعل و لا يحتوى على شئ؟

نظرا لان للصندوق اسطح داخلية لها درجة حرارة معينة فتنبعث منها فوتونات أو موجات كهرومعناطيسية تنتقل من سطح الى اخر وتملأ الصندوق. فمعنى ان اسطح الصندوق لها نفس درجة الحرارة ليس معنى ذلك ان الاسطح لا ترسل حرارة فيما بينها. لا بل معنى ذلك ان الاسطح وصلت الى حالة اتزان حرارى فهى ترسل وتستقبل بنفس المعدل والسرعة. والامر اشبه بشخصين كل منهما يحمل برتقالة في يده. لكن منهما يقذف برتقالة للاخر ويلقف منها اخرى!!

اذن فالصندوق ليس خاليا ولكن يحتوي كل محيط هائل من الموجات الكهرومغناطيسية والجاذبية الى اخره. لكن هذا الامر فى الحقيقة لا يزعجنا. ونحن نعرفه من قبل فالضوء ينتقل الينا من المجرات البعيدة عبر الفراغ الكونى. والضوء هو موجات كهرومغناطيسية. فدعونا نعود الى مقصدنا من كلمة فراغ. ودعونا نعيد تعريف الكلمة بان القمصود هو الخلو من المادة وليس من الموجات. فهل الان ووفق هذه الرؤية الفراغ موجود؟ او على الاقل من الممكن وجوده نظريا؟ الاجابة هى ايضا لا. ودعونا ننتقل الى التجربة الذهنية التالية.

صحيح ان الموجات الكهرومغناطيسية وغيرها لا تزعجنا وفقا لتعريفنا الجديد للفراغ. لكن دعونا مع ذلك نتخلص منها بقدر الامكان. دعونا ننتخيل ان صندوقنا ليس 10 سم فى الطول والعرض و الارتفاع. لكن دعونا نتخيل ان ابعاده لانهائية. ودعونا نتخيل اننا ندرس حيز مكانى على شكل مكعب طول حافته 10 سم فى منتصف هذه الصندوق الهائل. ولفترة زمنية طولها 1 ثانية بحيث تكون احتمالية ان تخترق احد الموجات هذا الحيز الصغير احتمال ضئيل جدا. بل دعونا نتخيل ان هذا الصندوق ليس موجود فى كوننا هذا بل فى كون اخر مواز. ليس فيه شئ غير هذا الصندوق. وهذا الكون لا يتأثر بكوننا الحالى و لايشعر به . فهل يكون هذ الحيز الخالي فى الصندوق الخالى فى الكون الخالى فعلا خاليا؟!!

تقول ميكانيكا الكم لا!! فنظرية عدم الدقة لهايزنبرج و هى احد اعمدة نظرية الكم تقول اننا لايمكننا ان نقيس اى قيمة فيزيائية بدقة كبيرة الا ويكون ذلك على حساب دقة قياس كمية فيزيائية اخرى. فنحن لا نستطيع ان نقيس سرعة جزئ ومكانه بدقة لانهائية فى نفس اللحظة. وكذلك نحن لا يمكننا ان نقيس الطاقة والزمن بدقة عالية فى نفس اللحظة. وهنا تكمن المشكلة . ففى كون خالى تكون الطاقة الموجودة صفر. وهذا رقم يمكن تحديده بدقة هائلة وذلك لكل اللحظات. وتقول نظرية الكم شيئا مجنونا لتجنب هذه المفارقة. تقول انه فى كل لحظة تتولد طاقات جديدة ولكنها سرعان ماتتلاشى سريعا حتى تتفادى الثبات عند القيمة صفر!! وبعض الطاقات المتولدة قد تكون عالية جدا جدا. ولكن كلما علت قيمة الطاقة كلما قلت الفترة الزمنية اللتى تتولد فيها هذه الطاقة!!

لكن من اين تتولد هذه الطاقة اساسا ؟ فقد كان الصندوق خال ولا يحتوى على اي شئ من الاساس! الاجابة تكمن في علاقة اينشتاين الشهيرة:
E = m*c^2
بمعنى ان الكتلة هى احدي صور الطاقة. اذن تتنبأ النظرية ان فى قلب الفراغ تتولد مادة افتراضية للحظات بسيطة تم تتلاشى سريعا مرة اخرى. والمقصود بتعبير مادة افتراضية انها مادة عادية كاللتى نعرفها فى حياتنا اليومية تماما. لكن هذه المادة لانستطيع ان نستخلصها فى المعمل لنراها ونجرى تجاربنا عليها . لكننا فقط نستطيع ان ندركها عن طريق اثارها وتأثيراتها.

اذن معنى ذلك ان الفراغ يحتوى على كميات هائلة من المادة الافتراضية . بل العجيب ان كمية الطاقة الموجودة فى الفراغ لا نهائية. فكمية الطاقة الموجودة فى الفراغ الموجود تحت فتحة الباب فى غرفتك تفوق كل الطاقة اللتى نستطيع ان نولدها من كل محطات التوليد النووية فوق الكرة الارضية. و الغريب ان معظم العلماء يتجاهلون هذه الطاقة ويعتبرون انها صفرا. وذلك ليس لانها غير موجودة ولكن لاننا بامكاننا ان نختار الصفر عند اى قيمة بشكل انتقائي ونبدأ القياس من عند هذه النقطة. فنحن نعتبر مستوى الصفر هو مستوي سطح البحر بالرغم انه ليس اكثر شئ انخفاض. وقاع البحر اكثر انخفاضا من سطح البحر. كما اننا نعتبر خط جرينتش هو خط الصفر بالنبسة لخطوط الطول رغم انه ليس اول خط فعلا. وهكذا. ومنطق العلماء ان هذه الطاقة صحيح انها لانهائية نظريا ولكن ليس بالامكان استغلالها عمليا

قوة كازمير

لكن عالم هولندي اسمه كازمير Hendrik Casimir استطاع ان يغير هذه النظرة. فهو تنبأ بان هذه الطاقة يمكن ان تظهر عمليا ووضع القوانين والحسابات من وجهة نظرة. ثم بعد ذلك بسنوات اكدت التجربة العملية نبؤة كازمير وبنفس النتيجة اللتى توقعها. وتقول فكرة كازمير الاتى. لو تخيلنا ان هناك لوحان متقابلان بينهما حيز بسيط من الفراغ. فطبقا لما قلناه سابقا فانه ستتولد جسيمات افتراضية عديدة فى هذا الحيز الصغير. وبعض هذه الجزيئات سوف يصدم باللوحين من الداخل مما يسبب نوعا من الضغط يدفع اللوحين عن بعضهما. لكن نظرية الكم تقول ايضا ان الجسيمات الافتراضية المتولدة تخضع ايضا لنظرة الكم . والطول الموجى للجسيمات الافتراضية المتولدة لابد وان يتناسب مع طول الفتحة الصغيرة. وتقول نظرية الكم ايضا انه خارج هذين اللوحين تتولد ايضا جسيمات افترضية بنفس الكيفية السابقة وترتطم باللوحين من الخارج وتضغطهما معا باتجاه بعضهما. لكن حيث ان الحيز المكانى الموجود فى الخارج اكبر منه فى الداخل فان عدد الجسيمات المتولدة فى الخارج اكبر منها من المتولدة فى داخل الفتحة حيت يسمح الفضاء الاوسع باطوال موجية اكثر. فتكون المحصلة حركة صافية للوحين باتجاه بعضهما!!

واستطاعت التجربة العملية التحقق من ذلك فعلا. لوحان متقابلان فى الفراغ حيث لا يؤثر عليهما اى شئ. يتحركان من تلقاء انفسهما كل باتجاه الاخر. وتعرف هذه القوة اللتى تدفع اللوحين للحركة باتجاه بعضهما بقوة كازمير.