الغزالى و التحرر من سطوة ارسطو

للعلماء الكبار دورهم الهام فى اماطة  اللثام عن كثير من غوامض الامور ودفع مركبة العلم الى الامام. وهذا شئ يعلمه الجميع  ولكن ماقد يغفله البعض انه قد يكون لهؤلاء العلماء على الجانب الاخر اخطاء وهنات تعوق العلم وتحد من سرعة انطلاقه. ولكننا في جميع الاحوال يجب ان نؤكد على ان ايجابيات هؤلاء العلماء تفوق اى سلبيات قد تصدر عنهم. ويمكن تشبيه ذلك بالالعاب الاولمبية حيث تفوق ميدالية ذهبية وحيدة الاف الميداليات الفضية والبرونزية. وكذلك في ميدان العلم فكل البشر يخطئون بما فى ذلك العلماء. لكن لا يضيف الى الانتاج العلمي الا اصحاب العزيمة والمميزون فقط.

اما عن اخطاء العلماء فيمكن تصنيفها الى نوعين: النوع الاول هو نوع سافر مباشر و هو ان يتعصب العلماء لرأيهم ويحاربون اصحاب الاراء الجديدة. وقد تتعدى حدود معاداتهم للفكرة الجديدة فتصبح حربا على المستوى الشخصى لصاحب الفكر المنافس. ولذكر امثلة من هذا النوع نذكر الخلاف اللذى نشأ بين العالم الكبير ادنجتون وتلميذه الهندي سابرمينين شاندراشكهار بسبب عدم اعتقاد ادنجتون فى امكانية انكماش النجوم العملاقة فى نهاية حياتها وتحولها الى نجوم نترونية. وتحول الخلاف العلمى الى حرب على المستوى الشخصى مما دعا شاندراشكهار الى الهجرة من انجلترا الى شيكاغو فى الولايات المتحدة الامريكية وفاز بجائزة نوبل بعد ذلك.  وكذلك الخلاف بين الاستاذ الالمانى كرون أيكر وتلميذه العبقرى كانتور مؤسس رياضيات المالانهاية. ودفعت محاربة كرون ايكر لكانتور الى اصابته بالانهيار النفسى والعصبى حتى قضى نحبه فى مستشفى للامراض العقلية. وكذلك الخلاف بين همفرى دافى ومساعده العالم العملاق مايكل فاراداى حيث ربما شعر دافى بالغيرة والحسد من فاراداي و لم يعترف بانجازاته وكان مصرا على ان فاراداى يسرق ابحاثه من علماء اخرين.

اما النوع الثانى من اخطاء العلماء وهو النوع الاعم فهو عبارة عن اخطاء غير مباشرة للعلماء الكبار لا يتحملون القسط الاكبر من الخطأ فيها. ولكن اللذى يتحمله هم تلاميذهم وجمهورهم اللذين يقدسون اقوال اساتذتهم ويرفضون اى رأى مغاير مهما كان مدعما بالبراهين ويسفهوا صاحبه. وفى هذا طبعا دليل على ضألة قيمة التابعين وانهم مجرد ببغاوات مرددين وأنهم لم يفهموا بعد مراد العلماء الكبار. ولضرب امثلة لهذه النوعية من الاخطاء نذكر اخطاء اينشتاين فى فيزياء الكم وكيف انه حارب تطورها مع انه كان احد ابائها الاوائل ولكنه مع ذلك لم يكن راضيا عن المسار اللذى اخذته النظرية بعد ذلك. لكن لحسن الحظ فان اخطاء اينشتاين لم تلعب دورا مؤثرا فى  اعاقة نظرية الكم لانه كان هناك فى زمان اينشتاين عملاق اخر هو نيلس بور الدنماركى اللذى كان احد اهم داعمى نظرية الكم واخذ يفند اعتراضات اينشتاين الواحدة بعد الاخرى حتى اخذت النظرية شكلها الحالى. ومثال اخر لتلك الاخطاء الغير مباشرة هى خطأ العملاق الانجليزي نيوتن حول طبيعة الضوء حيث انه انكر ان للضوء خواص موجية وقال ان للضوء طبيعة مادية فقط. وطبعا لان القائل هو العملاق نيوتن فقد حذى باقى العلماء حذوه وانكروا طبيعة الضوء الموجية. وعلى الرغم من ان القائلين بطبيعة الضوء الموجية كانوا معاصرين لنيوتن لكن لم يأبه احد لهم وضرب بادلتهم وبراهينهم عرض الحائط. وكان الحال هذه المرة اسوأ منه فى حالة اينشتاين حيث أنه لم يوجد عملاق اخر يدعم طبيعة الضوء الموجية. وقد اخر هذا الموقف العلم مائة عام تقريبا حتى تم فى النهاية الاعتراف بطبيعة الضوء الموجية. اما المثال الثالث اللذى نضربه فكانت البشرية اسوأ حظا. حيث كان الامر يتعلق بأرسطو وبالصفر. فقد رفض ارسطو الصفر رفضا تاما وكان ارسطو فى نظر معظم العلماء عبر القرون المختلفة هو عنوان العلم وكانت اراؤه مقدسة لايمكن المساس بها. وكانت نظريات ارسطو تشمل كل نواحى العلم والمعرفة فكانت اطروحاته تغطى ميادين الفلسفة والمنطق والرياضيات و الجغرافيا و الطب و البيولوجيا. وكان الاسكندر الاكبر تلميذا لارسطو فحرص على نشر علمه فى العالم كله. وبعد اعتناق الامبراطورية الرومانية للمسيحية جعلت الكنيسة فلسفة ارسطو هى محور فلسفة الكنيسة. وخصوصا ان ارسطو قدم برهانا على وجود الله امنت به الكنيسة الغربية وجعلت هذا البرهان وسيلتها فى الدفاع عن وجود الله وجعلت كل كلام ارسطو بشكل او باخر مقدسا لايمكن المساس به. والغريب ان كلام ارسطو كان يعارض احيانا كلام الكتاب المقدس. فكان الكتاب المقدس يتحدث عن خلق الله  للكون من العدم وان الكون لم يك فى يوم من الايام شيئا. بينما كان ارسطو يقول ان الكون لا نهائى ولا بداية له. مع ذلك فقد ضحت الكنيسة فى البداية بكلام الكتاب المقدس لصالح فلسفة ارسطو وكانت تقول بان الكون لا بداية له وترفض وجود الصفر والعدم! وكانت البشرية تحتاج الى عملاق اخر والى قامة اخرى توازي قامة ارسطو لتبين ان ليس كل مايقوله ارسطو صحيحا بل وقد يكون محض تخاريف مختلقة. وبالتالى فان الصفر ليس امرا مستحيلا ومقززا كما كان يدعي ارسطو.

اما المسلمون فقد  عنوا عناية كبيرة بترجمة كتابات العلماء من اللغات الاجنبية الى العربية وكان من ضمن هؤلاء العلماء ارسطو بلا شك. وقد حاز ارسطو عند علماء المسلمين مكانة سامية واطلقوا عليه لقب المعلم الاول. وكانت اقوال ارسطو محور انطلاق اعمال العلماء المسلمين. وكان من اشد المتأثرين بارسطو من المسلمين الفارابى وابن سينا ثم لحقهم ابن رشد بعد ذلك. وقد تعلم الغرب فى عصر النهضة علم ارسطو عن طريق ابن رشد وليس عن طريق كتاباته الاصلية كما قد يتصور البعض. وكان تاثر العلماء المسلمين بارسطو تأثرا كبيرا حتى ان بعضهم قال ايضا بان العالم لابداية ولانهاية له وانه سرمدي ازلى.  كما ان بعضهم انكر البعث بالاجساد كما انهم انكروا خلق الله للعالم بنفسه الى امور عديدة اخرى. وكان كل ذلك تأثرا باراء المعلم الاول. وكانت المشكلة ان ارسطو كان هو عنوان الثقافة والرقى وان من يقول بغير ذلك فانما هو انسان محدود الذكاء وغير قادر على تصور افكار ارسطو.

و لأنه لايفل الحديد الا الحديد فقد كانت البشرية بحاجة الى قامة عملاقة تناطح قامة ارسطو كما ناطحت قامة نيلس بور قامة اينشتاين لتفند مزاعمه وتبين خطأ اراءه. وكانت قامة الغزالى هى القامة المضادة فى حالة ارسطو وان كانت ظهرت  بعد قرون عديدة من وفاة ارسطو لكى تعيد الامور الى نصابها الصحيح.

فقد اراد الغزالى ان بين خطأ منحى الفلاسفة المسلمين فيما ذهبو اليه فى بعض قضايا الالهيات فقرر ان يتجه مباشرة صوب الرأس صوب ارسطو وان بيين خطأ كلامه وعوار منطقه. فقسم الغزالي علوم الفلاسفة الى اقسام مختلفة: علوم الرياضيات وهى علوم لاخلاف عليها لانها مبرهنة برهانا تاما ولا يمكن الطعن فيها. و القسم الثانى من العلوم هى العلوم الطبيعية وهى فى معظمها صحيحة ويجب الاخذ بها وقال بخطأ المسلمين اللذين يرفضون العلم باسم الدين لانهم بذلك يضرون بالاسلام نفسه و لاضرر مثلا فى الاخذ بالتبرير الارسطى لظاهرتى الكسوف والخسوف لان التبرير الارسطى يدعمه المشاهدة والواقع. اما القسم الثالث فهى المواضيع الالهية وهذا القسم من العلوم فقط هو القسم اللذي رفضه الغزالى فى معظمه عندما يخالف الثابت من الدين وقال باستحالة ان يلم العقل البشرى المحدود بالطبيعة الالهية الغير محدودة. بل قال الغزالى ان اطروحات ارسطو فى هذه القضايا ليست من الثقافة و الرقى في شئ بل هو كفر صراح.

وكان لكلام الغزالى وزنه الثقيل. فهو كان فيلسوفا من العيار الثقيل. وكان له اسمه المهم وقيمته الشامخة بين المسلمين. فهو كان الملقب بحجة الاسلام.  كما كان للغزالى ايضا اسمه وقيمته بين غير المسلمين. فكما ان اسماء العلماء و الفلاسفة اليوم هى نيوتن واينشتاين وهيجل وكانت ونيتشة فكانت اسماء العلماء والفلاسفة في عصر النهضة هى الخوارزمي وابن سينا و البيرونى و الغزالى وابن رشد.  وكان تأثير الغزالى على الغربيين كبيرا وخصوصا عند رجال الدين منهم فقد تأثروا كثيرا بمنطقه فى نصرة النص الدينى قبالة افكار ارسطو. وفلسفة الغزالى كانت و لازالت تدرس فى الكنيسة الغربية حتى اليوم ويتم اعداد دراسات الدكتوراة حول كتاباته واراؤه حتى اليوم.

وكان هذا الدور للغزالى مؤثرا عند غير المسلمين. مما دفع اهم علماء اليهود وهو موسى بن ميمون واللذى كان ايضا ارسطيا حاول التوفيق بين كتابات الكتاب المقدس وفلسفة ارسطو ولكنه  اضطر في النهاية الى رفض اراء ارسطو عندما اصطدمت بكلام الكتاب المقدس وقال بان العالم مخلوق وله بداية وليس لانهائيا فى الزمن كما كان يقول ارسطو. وكتب موسى بن ميمون عن المسلمين وقال بانهم فى حقيقة الامر ليسوا ارسطيين ولكنهم على مذهب الذريين. وقد كان اليهود في بداية الامر ينتصرون لاراء ارسطو على حساب الكتاب المقدس ويأولون النص الديني على اعتباره مجازا لغويا.

وكانت لاراء الغزالى دورا مهما فى تغيير اراء الكنيسة الغربية. فقد غيرت الكنيسة الغربية من موقفها وبدأت تتحدث لاول مرة بان الكون مخلوق من العدم وانه ليس لانهائى ومحدود فى الزمن. وكان من اوائل من اخذوا هذا المنحى الجديد بيشوف فرنسا تمبيير فى عام 1277 اللذى دعا الى رفض كل افكار ارسطو اللتى تحد من قدرة الله.

وكان لهذا التطور المهم اكبر الاثر على تغيير موقف اوروبا من العدم والصفر ومهد هذا  الطريق الى قبول الصفر فى وسط الاعداد فى العالم الغربى بعد ان كان قد اخذ مكانه فى بلاد الهند والمسلمين.