القمر و البحر

نغفل أحيانا عن الدور المذهل اللذى يلعبه البحر فى بعض الظواهر الكونية. فنحن ننبهر بالبحر ونراه ظاهرة محلية جبارة. لكن البحر فى حقيقة الأمر أكثر من ذلك فهو ليس لاعبا محليا فقط بل لاعب كوني. او اذا اردنا عدم المبالغة فانه يلعب دورا واضحا بداخل مجموعتنا الشمسية. فالقمر و الشمس يدركان وجود بحارنا. ونرى أثر ذلك فى ظاهرة المد والجزر المشهورة.

ولو تخيلنا ان غلافنا الجوى كان دائما ملبدا بالغيوم بحيث لانستطيع ان نرى الشمس و القمر بسببهما ولكننا نلاحظ فقط ارتفاع وانخفاض سطح البحر لاستطعنا عن طريق ذلك فقط ان ندرك ان هناك قمرا موجودا فوقنا وانه سبب ظاهرة المد والجزر اللتى نشاهدها و لأستطعنا حساب كتلته بشكل تقريبى!

لكن ما ينبغى ألا ننساه فى هذا الصدد أن المد والجزر لا يحدثان فى البحر فقط ولكنهما يحدثان فى اليابسة أيضا. وبسبب صلابة اليابسة يكون ارتفاع الأرض بسبب المد والجزر سنتيمترات قليلة بينما قد يبلغ بالنسبة للبحر عشرات الأمتار. كما ينبغى ان ندرك ان المد والجزر  يحدث فوق القمر كما يحدث على الأرض. كما ينبغى ان ندرك ايضا ان ظاهرة المد والجزر على القمر قد جعلت طولي اليوم القمرى والشهر القمري يتساويان تماما ويساويان 28 يوم. وبسبب ذلك فنحن نشاهد دائما نفس الوجه من القمر. كما ينبغى علينا ان ندرك انه كما قامت الأرض بتثبيت زمن دوران القمر فأن القمر يحاول فاشلا حتى اليوم تثبيت زمن دوران الأرض وبحيث يجعل طول اليوم الأرضى يساوى طول الشهر القمرى. لكن بسبب كتلة الارض العالية فان القمر لم ينجح فى ذلك حتى الأن.

ويستطيع المرء ان يدرك بسهولة العلاقة الخاصة اللتى تربط بين القمر والبحر. ونظرا لاتساع مساحة سطح البحر وقلة مقاومته للقوى الخارجية فالبحر أشبه بمطار دولى تظهر فيه التأثيرات الخارجية أول ما تظهر. وحيث أن القمر هو أقرب الاجرام السماوية الينا فلذلك يظهر تأثير المد والجزر القمرى على البحر واضحا. لكن من الخطأ ان نتصور البحر فى صورة المستقبل الخامل. فالبحر كذلك يؤثر فى القمر كما يؤثر القمر فى البحر. و العلاقة بين القمر والبحر ترسمها قوانين نيوتن بدقة رائعة. وما نشاهده فى حاضرنا من تطابق القياسات مع الحسابات هو خير دليل على ذلك. ولكن قوانين نيوتن لاتكتفى بوصف العلاقة بين البحر والقمر فى الحاضر فقط ولكنها تصف أيضا تفاصيل تلك العلاقة فى الماضى و المستقبل. وما تقوله الحسابات هو شئ اكثر من مفاجئ!

نعلم مما سبق ان القمر يحاول ان يبطئ من سرعة دوان الأرض حول محورها وبحيث يجعل طول اليوم الأرضى كطول الشهر القمرى تماما. وتلعب البحار الدور الأساس فى ذلك. ولهذا الامر تداعياته الخطيرة. ودعونا نرى ذلك بشئ من التفصيل.

عندما ينساب البحر بكتلته الهائلة وبسرعة انسياب ليست قليلة صانعا موجات المد والجزر فاننا يجب ان ندرس ذلك بمنتهى الدقة لان التفاصيل الصغيرة تلعب دورا هاما فى موضوع اليوم. حيث تتولد قوى احتكاك صغيرة بين البحر وقاعه صحيح ان هذه القوى صغيرة لكن تأثيرها عبر السنوات مذهل. تقول الحسابات أن موجة المد ستتأخر عن موعد وصولها بمقدار بسيط بسبب قوى الاحتكاك. ولذلك فان شكل الكرة الارضية ببحارها المنفوشة يأخذ موضعا غير متماثل بالنسبة للقمر وهذا الامر له نتائج هامة.

ابتعاد القمر عن الأرض

وطبقا لقانون الجاذبية لنيوتن فأن الجانب العالى من الكرة الأرضية و السابق لحركة القمر -وكما نرى فى الصورة هو أقرب الى القمر- يجذب القمر بقوة أكبر من اللتى يجذبه بها الجانب العالى الأخر. وينتج عن ذلك ان شكل الارض الغير متماثل بالنسبة للقمر يجعل سرعة دوران القمر حول الأرض تزداد دوما. وعندما تزداد سرعة دوران القمر تزداد قوة الطرد المركزى الواقعة ويبتعد فى عن الارض فى مسار حلزوني. وبالفعل توضح القياسات و الحسابان أن القمر يبتعد عن الأرض بسرعة 3 سم فى العام. واكد قياس المسافة بين القمر و الأرض عن طريق الليزر هذا الأمر وأن القمر يبتعد عن الأرض بهذا المعدل.

ولكن عندما يبتعد القمر عن الارض بسبب ازدياد سرعته فان ذلك سوف يؤدى الى نتيجة عجيبة  فطول الشهر القمرى سوف يزداد لآن القمر سوف يقطع الان مسافة أطول فى دورانه.  كما أن جزء من طاقة حركة القمر سيتحول الى طاقة وضع وبالتالى فسوف تقل سرعته. وبناء على ذلك فان الفارق بين اليوم الارضى والشهر القمرى سوف يزداد اكثر مما يجعل عملية فرملة القمر لدوران الأرض حول محورها اكثر قوة.

كما ان العكس صحيح تماما. فكما ان القمر يبتعد عن الارض بسرعة 3 سم فى العام فلابد انه  فى الماضى كان اقرب الى الارض. وكلما كان القمر قريبا من الارض كلما كان الشهر القمرى أقصر. كما انه ينبغى فى هذه الحالة ان تكون سرعة دوران الارض حول محورها اسرع. وبالفعل تقول قوانين نيوتن انه قبل ملياري سنة من اليوم كان القمر على بعد الاف كيلومترات قليلة من الأرض وان الارض كانت تدور حول محورها دوره كل 6 ساعات تقريبا. اى ان اليوم لم يكن 24 ساعة كما هو الحال اليوم بل 6 ساعات ففط أو أقل.

وفى عام 1962 قام العالم جون ويلز John Wells  بدراسة هامة. حيث درس بعض انواع الشعاب المرجانية المتحجرة و اللتى يبلغ عمرها 400 مليون سنة. وتتميز هذه الشعاب المرجانية بأنه توجد بها خطوط حلزونية كالموجودة فى القواقع. وتقوم هذه الشعاب بصنع خط سميك بعد مرور عام كامل. كما أنها تقوم بصناعة خطط رفيع بين الخطوط السميكة بعد مرور يوم كامل . تماما كما تفعل بعض الاشجار فى لحاءها. وبالتالى فهذه الشعاب اشبه بتقويمات من الزمن القديم. وطبعا فى عصرنا الحالى فأن هذه الشعاب تصنع 365 خطا رفيعا بين الخطوط السميكة لان السنة الشمسية تحتوى على 365 يوم تقريبا. لكن ويلز وجد ان الشعاب المرجانية القديمة اللتى يبلغ عمرها 400 مليون سنة كانت تصنع 400 خطا رفيعا فى العام. كما أنه وجد ان الشعاب المرجانية اللتى يبلغ عمرها 300 مليون سنة كانت تصنع 380 خطا فى العام. وهذا يوضح ان اليوم قبل 300 مليون عام كان مكونا من 22,5 ساعة فقط بينما قبل 400 مليون سنة كان مكونا من 21 ساعة. وهذا يتوافق تماما مع الحسابات الفيزيائية. كما اوضحت تجارب دقيقة على الساعات الذرية ان اليوم يزداد طوله بمقدار 2 مللى ثانية فى القرن!

لكن ما تأثير ذلك على المستقبل؟ اذا افترضنا أن المعدلات ستبقى كما هي عليه اليوم وأن القمر سيظل يبتعد عنا بمعدل 3 سم فى العام  وأن القمر سوف يواصل نشاطه فى اطالة اليوم الأرضى فسوف نصل الى يوم سيبتعد فيه القمر عنا بنسبة 60% أكثر مما هو عليه اليوم. وفى ذلك الزمان سوف يكون القمر قد نجح فى  تثبيت سرعة دوران الأرض حول محورها. وسيبلغ طول اليوم الارضى 55 يوم مما نعد اليوم وليس 24 ساعة فقط!

ولكن حتى نصل الى هذه الحالة لابد من مرور مليارات السنوات. وكما نعلم ان المتبقى من عمر الشمس 5 مليارات سنة تقريبا. اى اننا قبل ان نصل الى هذه اللحظة سوف تكون الشمس قد ماتت وقد تحولت الى عملاق احمر وقد التهمت عطارد والزهرة والقمر . وربما تكون قد التهمت الأرض ايضا. لكن دعونا ننسى هذا الأمر ونفترض ان الشمس سوف تبقى على حالها ودعونا نرى فى تجربة ذهنية ماذا سوف يحدث بين القمر و الارض؟

بعد ان وصلنا الى هذه الحالة وبعد ان قام القمر بتثبيت زمن دوران الارض. سوف يقوم المد والجزر الناشئ عن الشمس بدوره بمحاولة تثبيت زمن دوران الارض وجعله يساوى سنة شمسية. أى ان يبلغ اليوم الارضى 365 يوما من أيامنا الحالية! اذن سوف تبطئ الارض من سرعة دورانها اكثر. ولكن هنا سوف يقوم القمر بدور معاكس تماما حيث سيصبح طول اليوم الأرضى اطول من الشهر القمرى. فسوف يقوم القمر فى هذه الحالة بمحاولة اسراع دوان الارض حول محورها . وفى سبيل ذلك فان الطاقة اللتى سوف يمنحها القمر للأرض سوف يفقدها هو. أو ان عزم دوران حركته سوف يقل وبالتالى سوف يقترب من الارض مرة اخرى. وهكذا سوف تستمر حركة القمر فى التأرجح قربا وبعدا من الأرض كلعبة اليويو!