نقد العقل الخالص

كتاب “نقد العقل الخالص” هو علامة مضيئة وانجاز فريد فى تاريخ الفلسفة. والمؤلف هو الفيلسوف الالمانى ايمانويل كانت وقد استغرق 11 سنة فى كتابته ويعد من اصعب ماكتبه على الاطلاق. وقد كان استقبال القراء للطبعة الاولى من الكتاب سلبيا جدا. حتى أن احد زملاء كانت وهو موسيس مندلسون وصفه بانه عمل موتر للاعصاب. وشعر كانت بخيبة أمل كبيرة ولكنه كتب كتابا اخرا اسمه Prologomena حاول ان يجيب فيه على الاسئلة والانتقادات المتعلقة بكتابه السابق ثم اعاد طباعته مرة ثانية بعد تبسيط اسلوبه. وكان استقبال الطبعة الثانية هذه المرة هائلا. واصبح الكتاب مثار النقاش فى كل الصالونات الثقافية.

والكتاب يتناول ميدانين اساسيين من ميادين الفلسفة وهما ميدانا: الميتافيزيقا او ما وراء الطبيعة ونظرية المعرفة. اما الميتافيزيقا فهى ذلك الميدان من الفلسفة المختص بالبحث خلف الوجود. وهناك سوء فهم يتعلق بداية بهذا الفرع من الفلسفة. وحتى اسمه لم ينج من سوء الفهم.  فقد كان لارسطو عمل  موسوعى كبير تطرق فيه الى كل ميادين الفلسفة. وكان هذا العمل يتكون من 14 كتابا. واطلق النساخ اسم ماوراء الطبيعة على الاعمال التالية لكتاب الفيزياء وكان قصدهم الكتب اللتى تقع وراء كتاب الفيزياء فوق رف الكتب ولم يقصدوا ان يشيروا بهذا الاسم الى محتوى معين!  اما من حيث المحتوى فالميتافيزيقا تحاول ان تستنبط الشروط الكامنة خلف اى وجود. مثلا نحن نعلم ان الاجسام تسقط على الارض بفعل الجاذبية الارضية وأن كل الظواهر الحياتية لها قوانين تفسرها. فاذا رأينا شجرة عالية فاننا نعرف ان لها جذورا ضاربة فى الارض. واذا رأينا منزلا عاليا نكون متيقنين ان له اساس عميق. واذا رأينا جبلا سامقا فاننا ندرك ان ما تحت الارض مازال اعظم مما هو فوق الارض. فماذا بالنسبة للموجودات امامنا؟. هل يوجد لها قانون اعمق يفسر وجودها؟. فالميتافيزيقا تبحث فى شروط الوجود.

اما الميدان الثانى فهو ميدان نظرية المعرفة. وهو ذلك الميدان اللذي يهتم بدارسة  حدود المعرفة وكيف تنشأ وباقى الاسئلة من هذا النوع. فهدف الكتاب هو باختصار اجابة هذا السؤال: هل الميتافيزيقا علم؟  اذن فنحن اليوم سننطلق كالسهم. وسوف تكون قاعدة انطلاقنا هى نظرية المعرفة ثم تنتهى رحلتنا بان ننغمس فى قلب الميتافيزيقا ثم نرى فى النهاية هل كان مسارنا سليما؟ وهل حافظنا على كل القواعد الاساسية اثناء رحلتنا حتى وصلنا الى هدفنا؟

بداية دعونا نستوضح عنوان الكتاب. فكلمة نقد ليس المقصود بها معنا سلبيا. فمعنى النقد هو التقييم. وقد يكون التقييم فى النهاية ايجابيا كما قد يكون سلبيا. فكانت هنا يقيم العقل الخالص. ثم تأتى الكلمة الثانية العقل. والعقل ليس المقصود به ذلك العضو البشري او المخ. ولكن المقصود هو عملية عقل الاشياء اى ربطها ببعضها وفهمها.  والكلمة الاصلية الالمانية اللتى استخدمها كانت هى Vernunft وهى تعنى ايضا الحكمة. وفي بعض الاحيان ستكون كلمة الحكمة هى التعبير الادق. اما كلمة الخالص فالمقصود بها خالصا من اى تجربة حسية ودون الاستناد الى الخبرة الحياتية العملية. بل سنحكم على الاشياء بقوة العقل النظري فقط. وهنا تكمن مشكلة العقل.  فالعقل ينظر دائما الى الواقع ليستنبط اسباب هذا الواقع. ثم ينظر الى الاسباب بدورها ويحاول ان يستنبط اسبابها. وهكذا دواليك!!.  فالعقل دائما يتم قصفه باسئلة هو صانعها و لايمكنه ان يهرب منها و لا حتى ان يجيب عليها احيانا. وفى هذا الكتاب يصنع كانت محاكمة للعقل. يكون العقل فيها شاكيا ومتهما. ولكنه سوف يكون القاضى ايضا فى نفس الوقت!!

اختلف الفلاسفة فيما بينهم فى تحديد وسائل المعرفة. فهناك جماعة العقلانيين اللذين قالوا ان اكتساب المعرفة يكون عن طريق التأمل النظري فقط. اما التجربة العملية ومراقبة الواقع فلا قيمة لهما لان الظواهر خادعة. واقوى حجج هؤلاء هى صدق الرياضيات وعلو كعبها على سائر العلوم الاخرى من ناحية الثقة فى نتائجها. فالرياضيات تعتمد على العقل فقط ولا توجد فيها اى تجارب. ويرون ان باقى العلوم لابد ان تكون على نسق الرياضيات. واشهر المنتمين الى هذا الرأي افلاطون وهو رأس هذه المجموعة . اما المجموعة الاخرى فهم التجريبيون و هم على نقيض العقلانيين تماما. فقالوا ان طلب المعرفة يكون عن طريق التجربة العملية فقط. اما التأملات النظرية فلا وزن لها مالم تدعمها المشاهدة. و الا فهى احلام و شطحات لاقيمة لها. واشهر المنتمين لهذه المدرسة هم هيوم ولوك. اما كانت فقد اخذ مسارا وسطيا بين الاثنين وقال ان المعرفة تتم بالاثنين معا. بل لايمكن للمعرفة ان تتم الا بالاثنين معا!

وقسم كانت المعرفة الى 3 أنواع: النوع الاول هو معرفة تحليلية مستغنية عن التجربة او “a priori” والترجمة الحرفية لهذه الكلمة اللاتينية هو قبل التجربة. ومثال لهذا النوع من المعرفة الجملة التالية: للمربع 4 اضلاع. فهذه معلومة صحيحة من التعريف. واذا قال لى انسان ان هناك مربع ذو 5 اضلاع فلن احتاج لعمل تجربة لتبيان صحة كلامه من خطأه. واذا شكلنا المعلومة فى صورة جملة اسمية فسيكون الخبر هو المبتدأ نفسه او دال عليه او جزء منه بالضرورة.  اما النوع الثانى من المعرفة فهى المعرفة المركبة المعتمدة على الخبرة او a posteriori و الترجمة الحرفية لهذه الكلمة هى بعد التجربة. ومثال لهذا النوع  من المعرفة العبارة التالية: كل الاطباء يرتدون نظارات طبية. فهذه ليست معلومة اولية. فارتداء النظارة الطبية ليس هو تعريف الطبيب و لا ان النظارة جزء من الطبيب. ولكنها معلومة مستقاة من الخبرة. و لاختبار صحة هذه العبارة لابد من المراقبة و المشاهدة. مثال اخر الوز ابيض  اللون. وهذه المعلومة مصدرها الخبرة ولكنها تعتمد على الصدفة ايضا ولا يمكن ان تصل الثقة فى صحتها الى درجة اليقين. فمثلا قد اشاهد مليون وزة بيضاء ولكن مع ذلك فليس هناك يقين ان الوزة  المليون وواحد ستكون بيضاء ايضا. ولو كنت اعيش فى استراليا فسأري وزا اسود اللون! اذن هذا النوع من المعرفة يعتمد على الصدفة وليس برهانا يقينيا.  ثم يأتى القسم الثالت من المعرفة وقد انفرد به كانت وقال ان هناك معرفة تركيبية مستغنية عن التجربة! مثال على ذلك التعبير التالى
5+7 = 12

فهذه معلومة مركبة او تركيبية لان مفهوم العدد 12 ليست داخلا فى مفاهيم 5 او 7 .وبرهان هذه المعلومة لا يأتى من التجربة ولكن من العقل. اى انها معرفة خالصة. وهذا النوع من المعرفة هو الاهم بالنسبة لنا اليوم . ويجب على الميتافيزيقا ان تكون من هذا النوع لان مادتها كلها تقع خارج مجال المشاهدة والمراقبة. كما يجب لكى تكون للميتافيزيقا فائدة ولكى يكون من ورائها قيمة مضافة فيجب ان تحتوى على معلومات مركبة وليست مجرد تعريفات اولية تفسر  الماء بالماء.

وبالرغم من اسلوب كانت المعقد فى الكتابة فكان له عقل منظم جدا وانعكس ذلك فى تقسيمه لفصول الكتاب. فما اخذه كانت على الميتافزيقيين فى زمانه هو انهم اطلقوا العنان لخيالهم فى امور خارج نطاق المشاهدة وذلك بدون ان يقدوما اى براهين لصحة كلامهم او حتى بدون ان يقدموا اى منهجية على الاطلاق. وذلك كمن يقفز من طائرة محلقة ثم  يفتح مظلة المطر معتقدا ان ذلك كافيا وسوف يعصمه من الهلاك! ولذلك فقد قسم كانت كتابه الى قسمين: القسم الاول هو الاكبر والاشهر حلل فيه كانت كل المعطيات الموجودة  ثم كان القسم الثانى اللذى اعطى فيه وصفة  لميتافيزيقا جديدة خالية من امراض الميتافيزيقا الموجودة فى زمانه. و قدم كانت اول كتاب حقيقى فى الميتافيزيقا فى التاريخ من وجهة نظره. وحيث ان القسم الاول من كتابه هو الاكبر فدعونا نرى بناءه بشئ من التفصيل.

ملخص ما سبق ان عمودي المعرفة هما: الادراك الحسى و التفكير. ولكانت عبارة شهيرة تقول : الافكار بدون محتويات خاوية وحواسنا بدون مفاهيم عمياء!! . فاذا قلت لك كلمة kniga فانك فى الغالب لن تفهم شيئا: فهذا المصطلح خاوى ولا يعنى شيئا بالنسبة لك. اما اذا قلت لك ان هذه الكلمة تعنى كتابا بالروسية فستقفز فى ذهنك فورا صورة واضحة عن المعنى. اما كيف ان الحواس تحتاج الى العقل؟ فلو تخيلنا ان انسانا اتى من المستقبل ومعه الة غريبة من زمانه وعرضها امامى فلن افهم ما اشاهده. لان كنهها ومفهومها ليس عندي. لذلك كان من الطبيعى ان يقسم كانت القسم الاول من كتابه الى قسمين حول: الادراك الحسى المتسامى و التفكير او المنطق  المتسامى! ومعنى كلمة متسامى اننى انطلق من شئ معين واحاول ان اصل الى اسباب وجوده و اساسه اللذى يقوم عليه. ويمكننا تشبيه ذلك بما فعله اينشتاين  حيث وجد  ان سرعة الضوء فى الفراغ ثابتة لاتتغير. فلم يجادل فى ذلك. بل استنبط النتائج المترتبة على ذلك ووضع النظرية النسبية الخاصة. ولم يحاول اينشتاين ان يبحث فى سبب ثبوت سرعة الضوء فى الفراغ. اما فى الميتافيزيقا فنحن سنفعل العكس. فانطلاقا من واقع معين سنحاول ان نتسامى فوقه ونرى ما هى اسباب وجوده بهذا الشكل و على هذه الهيئة! وفى نهاية الفصل الخاص بالادراك الحسى المتسامى عرض كانت تصوه لاسباب صحة الرياضيات.

أما قسم مبادئ التفكير او المنطق المتسامى وهو الجزء الاكبر من  الكتاب ويمثل قلبه ويشغل اكثر من 400 صفحة فيه فقد قسمه بدوره الى قسمين: مبادئ الفهم المتسامى وفى نهاية هذا القسم سيوضح كانت لماذا الفيزياء صحيحة. والقسم الاخير هو مبادئ الحكمة المتسامية وفى هذا الجزء يجيب كانت على السؤال الرئيس : هل الميتافزيقا علم؟

والشكل التالى يوضح هيكل الكتاب

 

كتاب نقد العقل الخالص

اولا بالنسبة للادراك الحسى المتسامى: نعلم مما سبق ان اي معرفة يلزمها ادراك حسى و لا يمكن ان تتم  الا به. لكن من ناحية اخرى علينا الاننسى هدفنا. وهو الميتافيزيقا. بمعنى اننا نريد ان نصل الى امور غيبية بثقة يقينية كما فى الرياضيات. ولكن حيث ان الميتافيزيقا تقع كلها خارج مجال المشاهدة والحواس فاننا سنكون هنا مهتمون بالادراك الحسى الخالص فقط. لكن هذا التعبير  غريب حقا! فما  هو ذلك الادراك الحسى الخالي من تأثير الحواس ذاتها؟!  انه كما فى قصيدة نزار قبانى كلمات ليست كالكلمات!  فاننا هنا نبحث  عن صور من الادراكات الحاسية الخاصة! ادراكات ليست كالادراكات!  فنحن نبحث عن ادراكات a periori عمومية و حتمية. انا ارى السماء. انت تسمع نغما رائقا. كانت يتذوق طعما لاذعا. هو يلمس سطحا خشنا. هى تشم رائحة جميلة! ماهو الشئ المشترك  بين كل هذه المدركات الحسية السابقة؟ الاجابة: انها كلها تقع فى اطار من الزمان و المكان.  ونحن لا يمكننا ان نلاحظ اي شئ بدون الزمان والمكان. فبامكاننا تخيل مكان فارغ لا يحتوى على اي شئ.ولكننا لا يمكننا تصور شيئ و لامكان! فالزمان والمكان هم قوالب للادراك خالصة و عمومية وضرورية  و مطلقة . ولكن كانت استطرد صحيح انها موجودة بداخلنا كلنا بنفس الهيئة لكنها غير موجودة فى العالم الحقيقى الخارجى وفى الاشياء نفسها اللتى ندركها.! فالزمان والمكان هما النظارة اللتى نرتديها لكى نرى بها الاشياء. وبدونها لا نرى شئ. لكن فى نفس الوقت فان هذه النظارة تغير من صورة الواقع. تماما كمن يرتدي نظارة زرقاء فيرى كل ما حوله ازرق. وهذه النظارة ليست النظارة الوحيدة اللتى نرتديها للحصول على المعرفة  لكنها احد النظارات المختلفة كما سنرى بعد ذلك.  و قال كانت كما افلاطون بأن هناك عالمان مختلفان وهما عالم الاشياء الحقيقية او الاشياء فى حد ذاتها واطلق على هذا العالم اسم  Noumena وهناك عالم الظواهر اللذي يبدو لنا  او ال Phenomena . وعالم الظواهر هو صورة مشوهة من عالم الاشياء فى حد ذاتها. ولكن خالف كانت افلاطون فى امكانية وصولنا الى عالم الاشياء الحقيقية Noumena . حيث قال افلاطون ان ذلك ممكن بالعقل و التأمل النظري فقط. اما كانت فقال ان ذلك غير ممكن ابدا لا بالعقل او بغيره!

ثم اوضح كانت لماذا ان الرياضيات ممكنة وصحيحة. فالرياضيات كلها مبرهنة من بعضها. ولكن هناك مسلمات اولية لايمكن برهنتها ويتم فقط افتراض صحتها. وهنا يبرهن كانت صحة هذه المسلمات الاولية اللتى لا تستطيع الرياضيات نفسها ان تبرهنها بالميتافيزيقا. ففى حقيقة الامر ان المسلمات الرياضية الاولية صحيحة لاننها تتعلق بالزمان والمكان وهى اشياء خالصة استطيع ان اري صحتها بان اردها الى مرأة وعيي الداخلية. فالهندسة تدرس المكان الخالص. و عندما اريد ان أري لماذا ان الخط المستقيم هو اقصر مسافة بين نقطتين فعلى ان ارد ذلك الى داخل نفسى. و البرهان هو الصورة التلقائية الداخلية الخالصة اللتى تتولد بداخلى. وعندما نتحدث عن شكل هندسى كالمثلث مثلا فنحن لا نتحدث عى ذلك الشئ اللذى قد يخطه مساح على الارض ولكننا نتحدث عن صفات لشيئ خالص  وهوالمكان!

ثانيا التحليل المتسامى: بعد الحواس يبدأ العقل فى العمل. فعندما اشاهد شجرة تقوم حواسى بنقل صور معينة وبعدها يقوم عقلى بعمليات معينة يسقط بعدها حكم بان الشئ الموجود امامى هو شجرة. ثم يكون عقلى هذه الكلمة لغويا فى ضميرى حتى وان لم انطق بها.لكن كيف اسقط العقل حكمه؟ وكيف توصل الى مفهوم الشجرة؟  مرة اخرى ما نسعى اليه هو مفاهيم متسامية. مفاهيم ليست كالمفاهيم!. انها مفاهيم حول المفاهيم نفسها! او انها المفاهيم الاساسية اللتى منها تتكون كل احكامنا! وقال كانت كما ارسطو ان كل مفاهيمنا يمكن ردها الى 12 مفهوم اساسي categories. والترجمة العربية الرسمية هى مقولات ولكنى غير راض عن هذه الترجمة وسأتجنب استخدامها. ومن امثلة مبادئ المفاهيم الاساسية المتسامية : الاحادية و التعددية و الكلية و السببية الى اخره. مثلا عندما اشاهد الشمس ساطعة و شباك ساخن. فاقول ان الشباك ساخن لان الشمس ساطعة. وهنا نرى مثالا لاسقاط مفهوم او حكم السببية على ادراكين متوازيين! ثم يأتى اعقد جزء فى كتاب كانت المعروف بالبرهان المتسامى. و اللذى يوضح فيه الجسر اللذي يربط بين هذه المفاهيم الاساسية المتسامية categories وعالم الاشياء فى حد ذاتها. وفى هذا الجزء يوضح لماذا ان الفيزياء صحيحة. وطبعا المقصود بالفيزياء هنا هى النظريات العامة الكبيرة كنظرية نيوتن. حيث قلبها هو تصور نظرى بحت نتجت عنه نتائج هائلة. وليس المقصود هنا هي الاكتشافات المحدودة اللتى قد يكتشفها عالم  بالصدفة فى المعمل.!

فى الحقيقة ان مايقوله كانت يحتاج الى شئ من التركيز. يقول كانت اننا فى حقيقة الامر بامكاننا اكتشاف قوانين الفيزيائية العامة ليس لان الكون فعلا هكذا. بل لان عقلنا هو اللذى يغرس هذه القوانين فى الطبيعة من البداية. وبالتالى فانه يجدها مرة ثانية عندما يبحث عنها!  فالعقل يغرس اولا ال  categories فى الطبيعة  ويتعرف عليها لاحقا عن طريق نمط متسامى معين. تماما مثلما يفعل النمل حين يخرج الجيل الاول  باحثا عن الغذاء وفى طريقه يفرز افرازات معينة على طوال الطريق. ثم يأتى الجيل الثانى من النمل ويتعرف عن طريق هذه الافرازات على مكان الغذاء. او فى حالة جهاز الكمبيوتر. فجهاز الكمببيوتر يستخدم اساسا للحساب. ولكننا كما نعلم نستطيع ان نستخدم جهاز الكمبيوتر فى استخدامات اخرى ربما لم تكن موجودة فى الزمن اللذى صنع فيه هذا الجهاز. فقد نستخدم الكمبيوتر كطابعة او مشغل لافلام DVD او للموسيقى او كاميرا فيديو او غير ذلك. ومن الممكن حتى استخدام جهاز الكمبيوتر كمكواة كهربائية! لكن كيف يتم ذلك وكيف يتعامل الكمبيوتر مع اجهزة ظهرت لاحقا ولم يكن يعلم بها وقت صناعته؟ الاجابة تتلخص فى النظرة المعكوسة للامر. فالكمبيوتر ليس هو اللذى يكيف نفسه مع الاجهزة الاخرى بل ان الاجهزة الاخرى هى اللتى تكيف نفسها مع الكمبيوتر. فكل جهاز خارجى يحتاج الى driver حتى يتأقلم مع الكمبيوتر الموجود. وقال كانت ان الخطأ اللذى وقع فيه الفلاسفة من قبله هو انهم اعتبروا ان الانسان يحاول ان يصل بفهمه الى حقيقة الاشياء حوله. ولكن العكس هو  الصحيح. فالاشياء بما هو مغروس فيها من cateogries هى اللتى تدور حول فهم الانسان وتحاول ان تقترب منه بقدر تهيئة عقل الانسان لذلك. وهذه كأنها ثورة  كوبريكانية جديدة.  فقد فاجأ كوبرنيكوس العالم و قال اننا نستطيع ان نفسر الظواهر الكونية حولنا بشكل افضل عندما نفترض اننا لسنا مركز الكون و ليست  النجوم هى اللتى تدور حولنا  بل نحن اللذين ندور حول النجوم! اذن الزمان والمكان والمفاهيم الاساسية الاولية او ال categories والنمط المتسامى هى كلها نظارات نضعها فوق بعضها لكى نصل الى المعرفة!

ثالثا الجدال المتسامى: بعد ان خطونا الخطوة الاولى مع كانت دعونا نستمر فى رحلتنا مع التسامى حتى نصل الى اعلى الافاق الممكنة. دعونا نبحث عن الشروط المطلوبة خلف وجود المفاهيم الاساسية المتسامية الاثنى عشر او ال categories وبعد ان نصل الى هذه الشروط دعونا نحدد شروط هذه الشروط حتى نصل  الى الشرط الاول المطلق الغير مشروط!  فى الحقيقة ان كل المفاهيم اللتى تظهر فى عقلنا تحمل رسالة واضحة اننا موجودون وان لنا ذوات واننا نفكر. تماما كما قال ديكارت من قبل . cogito ergo sum ولكن هنا على عكس ديكارت يرى كانت ان مجرد اثبات ذواتنا لا يكفى لانشاء ميتافيزيقا  يقينية كاملة منه. اذن بشكل مجرد فان المطلق اللذي نبحث عنه هو ذات الانسان او روح الانسان.او كما اطلق عليها كانت بصورة عامة: ألانسان. والمطلق اللذى يقع خارج ذواتنا ولكنه يؤثر فينا هو العالم واحيانا يسميه كانت الحرية. و اطلق كانت على الانسان والعالم مصطلح الافكار المتسامية ideas . اذن فلدينا فكرتان مطلقتان حتى الان هما الانسان والعالم ووخلف هاتين الفكرتين توجد الفكرة النهائية وهى الله. اذن مواضيع الميتافيزيقا عند كانت كما هى فى الميتافيزيقا الكلاسيكية تماما: الانسان العالم الله.

لكن مااللذى يمكن ان نعلمه عن هذه الافكار الثلاثة؟ يقول كانت لاشئ الا الظنون. لان الافكار المتسامية على خلاف المفاهيم فى التحليل المتسامى لاتجد لها ادراكات حسية تقابلها. وعندما يحاول العقل ان يبحث عن المطلق فانه يدخل فى دوامة عنيفة وسيصل الى الشئ وعكسه. وادخل كانت تعبيرا جديدا و هو المتناقضات او Antinomy وهذه افكار ممكن اثباتها و اثبات عكسها فى نفس الوقت. وقال كانت انه من المستحيل ان يثبت الانسان بالعقل والمنطق وجود الله. كما انه من المستحيل ان يثبت الانسان بالعقل والمنطق عدم وجود الله! كما انه من المستحيل تحديد ان كان للكون بداية فى الزمان والمكان او ان الكون لانهائى و ابدي وازلى. كما انه من غير الممكن الجزم بان قانون السببية يحسم كل شئ فى الكون و لا يوجد ما يمكن ان نطلق عليه الارادة الحرة. او ان الارادة الحرة موجودة فى الكون وتعمل بجوار السببية!

اذن اثبت كانت ان الميتافيزيقا الظنية ممكنة فقط فى الرياضيات و الفيزياء لطبيعتهم الخاصة. فالرياضيات تتعلق بخواص الزمان والمكان و الفيزياء هى مفاهيم تقابلها اداركات حسية. اما فى الافكار المطلقة المتسامية او فى الالهيات فلا مجل هناك للميتافيزيقا التأملية!! ولكنه فتح باقة امل للارادة الحرة وقال صحيح ان الميتافيزيقا لا تستطيع ان تثبتها ولكنها لا تستطيع ان تنفيها ايضا. فلو كان كل انسان مجبر على كل شئ يفعله بسبب قانون السببية لما كان هناك اى معنى للاخلاق الفردية.

توصل كانت فى النهاية ان الميتافيزيقا اللتى يجب ان يشغل الفلاسفة بها انفسهم ليست الميتافيزيقا التأملية لان فرصهم فى النجاج هناك صفر. ولكن عليهم ان يشغلوا انفسهم بالميتافيزيقا العملية. بالميتافيزيقا الاخلاقية اللتى تهدف الى الوصول الى السعادة القصوى. وهذا ممكن عن طريق واحد فقط  هو الايمان بان هناك اله موجود و ان هناك حياة ثانية بعد الموت!! ولكن هذا نتوصل اليه ليس عن طريق العقل الخالص و الميتافيزيقا التأملية ولكن عن طريق العقل العملى و الميتافيزيقا العملية!! والغريب بعد كل هذا ان الكنيسة الكاثولكية وضعت كتاب نقد العقل الخالص فى قائمة الاعمال المحرمة عام 1827 ميلادية.

نقد كتاب نقد العقل الخالص :

1 اسلوب كانت معقد جدا . وهناك اجزاء كبيرة من الكتاب لا يفهم منها اى انسان طبيعى اى شئ

2 قال البعض ان كانت حطم صورة الميتافيزيقا التأملية تماما و استبدلها بالميتافيزيقا الاخلاقية او الميتافيزيقا العملية. ولكن كانت استخدم فى برهانه الميتافيزيقا التأملية دون ان ينتبه. فهو لم يقدم اى برهان على عالم الاشياء الحقييقة او ال Noumena

3 المفاهيم الاساسية الاثنى عشر او categories يرى البعض ان كانت تكلفها تكلفا. ويرى شوبنهاور ان هناك مفهوم اساسى واحد فقط وليس اثنى عشر وهو السببية

4 قال كانت ان الرياضيات تنتمى الى المعرفة مركبة المستغينة عن الخبرة. لكن كثيرون يعترضون على تصنيف الرياضيات على انها مركبة

5 تتعارض تصوراته مع الفيزياء الحديثة وبخاصة نسبية اينشتاين فهو يفرض ان الزمان والمكان اشياء مطلقة وهى خارج عالم الاشياء ولكنها تقطن فى نفوسنا فقط. بينما النظرية النسبة تقول ان الزمان والمكان نسبيين ويرتبطان بالاشياء الخارجية.