الماء اللذى أتى من الفضاء

من اجمل المشاهد الطبيعية اللتى شاهدتها فى حياتى وربما يكون اجملها على الاطلاق هو مشهد غروب الشمس فى مياه البحر عند شاطئ المنتزه فى مدينة الاسكندرية حيث تعانق مياه البحر على مدى البصر قرص الشمس النارى فى مشهد مهيب. وطبعا هذا المشهد ليس قاصرا على مدينة الاسكندرية وحدها ولكن يمكن ملاحظته فى اى مكان يتمتع بجو صحو ومياه بحر هادئة ومناخ لطيف. وبعد الانبهار بهذا المشهد ربما تتسلل الى عقلنا بعض الاسئلة اللتى قد يكون من بينها: من اين اتت كل كميات الماء الهائلة هذه حيث ان اكثر من 71% من سطح الارض عبارة عن مسطحات مائية؟ وكيف تشكلت البحار والمحيطات وهى ظواهر جيولوجية حديثة؟ وكيف تكونت هذه الشواطئ بسواحلها الرملية الممتدة؟

وعنوان موضوع اليوم هو اجابة سؤال: من اين اتى الماء؟ فالماء أتى من الفضاء وتشكل منه!! بل ان كرتنا الارضية أتت كلها من الفضاء وتشكلت منه! وهذه المعلومة لا ينبغى ان تفاجائنا لأننا اذا اخذنا مكانا خارج الكرة الارضية نراقبها منه فسنراها وكأنها سفينة فضائية تمخر عباب الكون و الفضاء!!

فى الحقيقة أن مياه البحر اللتى نراها امامنا ترتبط نشأتها بنشأة الأرض بل وبنشأة المجموعة الشمسية بأسرها. يقول الفيزيائيون ان اصل مجموعتنا الشمسية يعود الى سحابة غازية دوارة هائلة. وكانت هذه السحابة مكونة بصورة اساسية من غاز الهيدروجين. كما احتوت هذه السحابة على ذرات كل العناصر اللتى نراها حولنا: من حديد و نحاس و كربون و اكسجين و ذهب وفضة الى اخره. وقبل 5 مليارات سنة ابتدأت هذه السحابة تحت تأثير كتلتها وقوة الجاذبية بالانهيار باتجاه مركزها. فازدادت الكثافة وارتفع الضغط ودرجة الحرارة عند مركز السحابة. وأدت المؤثرات السابقة الى دمج ذرات الهيدروجين مع بعضها لنحصل على ذرات هيليوم فى تفاعل نووى يشابه القنبلة الهيدروجينية. ونتج عن ذلك التفاعل النووى ضوء وحرارة و طاقة هائلة أوقفت انهيار السحابة الغازية باتجاه مركزها وكانت هذه لحظة ميلاد شمسنا. فشمسنا هى عبارة عن قنبلة هيدروجينية بطيئة!

لكن كيف نشأت الكواكب؟ ولماذا لم تنجذب كل مادة السحابة الغازية نحو الشمس فحصلنا على شمس اكبر من شمسنا الحالية لكن بلا كواكب؟

planetesimals

للمفارقة فأن تفسير نشأة الكواكب اصعب بكثير من تفسير نشأة الشمس والنجوم. وسبب تكوين الكواكب بالأضافة الى الشمس ان بعض اجزاء هذه السحابة كانت تدور بسرعة كبيرة وهذا حماها من السقوط الى المركز حيث توجد الشمس. تماما كما ان سرعة دوران القمر تحميه من السقوط فوق الارض. ولذلك بقيت بعض اجزاء هذه السحابة على مدارات متباينة من  الشمس. وتماما عند هذه المدارات تكونت كواكب المجموعة الشمسية اللتى نعرفها. وتكونت الكواكب من المادة الفضائية الموجودة عند المدارات بطريقة مشابهة للطريقة اللتى تكونت بها الشمس. فعند موضع ما فى مدار الارض اقتربت ذرتان من بعضهما بشكل اكثر من اللازم فعملت قوة الجاذبية بينهما على التصاقهما وجعلتهما مركزا لجذب ذرات جديدة.  وهكذا استمر انجذاب الذرات حتى نشأ كوكب الارض اللذى نعيش عليه!

لكن فى الثلاثين سنة الاخيرة توصل الفيزيائيون الى تفاصيل اضافية فى غاية الاثارة لنشأة الارض. فلقد اوضحت الدراسات ان الارض لم تتكون من مركز واحد. ولكن من مراكز مختلفة. ففى البداية نشأت عند مدار الارض كويكبات متعددة planetesimals وليس كوكب ارضى كبير. وكانت كتلة الكويكب تكافئ فى المتوسط 1/500 من كتلة الارض الحالية. ثم التحمت لاحقا هذه الكويكبات لينشأ كوكب الارض فقد كانت كل هذه الكويكبات تدور على نفس المدار حول الشمس فكانت احيانا تصطدم مع بعضها اصطداما غير مرن كما تصطدم كرتان من العجين  مقذوفتان بسرعة عالية مع بعضهما فتتحدان احيانا. وهذه العملية كان لها نتائج مبهرة فدعونا نتعرف عليها بشئ من التفصيل.

فى البداية عندما كانت الكويكبات تصطدم مع بعضها كان التصادم مروعا وكانت درجة الحرارة عالية جدا. فحين التحمت هذه الكويكبات مع بعضها  كانت فى صورة لدنة شبه منصهرة  وهذا جعل الذرات الثقيلة تنزلق الى مركز  الارض وهذا يفسر لنا لماذا للارض قلب حديدى الان. ثم فى مرحلة متقدمة نسبيا عندما نمت كتلة الارض  كان اصطدام الكويكبات بها كارتطام النيازك فكان يحدث انفجار مدوى وتتطاير اجزاء من الارض الى الفضاء مرة اخرى. وطبعا الذرات الخفيقة كالسيليكون والجزيئات الخفيفة كالماء هى المرشح الاول لان تتطاير مرة اخرى الى مدار الارض. ثم فى مرحلة لاحقة حين كبرت كتلة الارض ووصلت تقريبا الى كتلتها الحالية بدأت فى كنس هذه الأغبرة و المواد الخفيفة من مدارها وتنظيفه. ويشبه البروفيسور الاميريكى جيمس تريفل هذه العملية بسيارة تلقف بزجاجها الامامى حشرات الصيف فى وقت الغروب!! وانه لامر رائع ويدعو للتدبر ان نتذكر عندما نرى كل قطرة ماء او اى حبة رمل حيث يدخل السيليكون بشكل اساسى فى تركيبها انها كانت موجودة عبر تاريخ حياتها ولاكثر من مرة فى الفضاء الخارجى!

لكن هذه ليست نهاية القصة. فلو كانت هذه هى قصة نشأة المسطحات المائية لكانت نهاية حزينة. ففى هذه الاثناء ابتدأت التفاعلات النووية بداخل الشمس و بدأت حياتها كنجم سماوى. ولم تكن بداية التفاعلات النووية عملية سلسة سهلة. بل يمكن تشبيه ذلك بسيارة ذات بطارية ضعيفة لا تقوى على تدوير الموتور من اول مرة! وفى كل مرة كانت تقوم الشمس فيها بعملية تدوير فاشلة للموتور كانت تصنع عاصفة شمسية تنفخ من خلالها الغبار و الذرات الخفيفة العالقة فى المجموعة الشمسية. ولهذا السبب فان مجموعتنا الشمسية اليوم رائقة وخالية من الاغبرة  والسحب الغازية بشكل كبير. فلو كان للارض فى ذلك الوقت غلاف جوى نافع كما هو الحال اليوم لضاع وتبدد الى الابد ولنفخته احد العواصف الشمسية الى اعماق الكون!   ولكن من اين أتى الغلاف الجوى الحالى والمسطحات المائية الهائلة اللتى نراها اليوم؟ الاجابة اللتى ربما تكون مفاجاءة انها اتت من قلب الارض!!

ففى هذه المرحلة المبكرة من عمر الارض كانت الارض سطحا ساخنا ويعج بالزلازل والبراكين. وكانت البركاين تقذف بحممها اللتى تتكون فى معظمها من بخار ماء الى السماء. ولذلك بعدما كفت الشمس عن ارسال زعابيبها استمر قلب الارض فى صناعة غلاف جوى محمل ببخار الماء بالاضافة الى غازات اخرى كالميثان وثانى اكسيد الكربون.

ثم بعد فترة برد سطح الارض الى مادون 100 درجة مئوية. بل وربما كانت درجة حرارة سطح الارض دائما ومنذ البداية دون 100 درجة مئوية فتكثف بخار الماء و صار سائلا فكانت هذه المسطحات المائية اللتى نشاهدها امامنا.

اذن فعندما تعانق الشمس البحر عند المغيب كل يوم فعلينا ان نتذكر قصتهما و كيف انهما كانا متحدين منذ البداية!

3 thoughts on “الماء اللذى أتى من الفضاء

  1. Pingback: بحارنا شهادة تميزنا فى كوننا | روائع العلوم

  2. Pingback: الجندي المجهول: “حبة الرمل” وهندسة السواحل | روائع العلوم

Leave a Reply