تبدو كرتنا الأرضية من الفضاء كلؤلؤة زرقاء. وهذه الزرقة هى العلامة التجارية الخاصة بكوكبنا وسط الكون. فمن الأرض لا يبرز بشر او حجر ولكنها محيطاتنا وبحارنا ومسطحاتنا المائية اللتى ترسم صورة الارض في كونها. وهذه الملاحظة ليست شكلية او سطحية ولكنها فى غاية الاهمية ولها دلالات عميقة.وهذا ما سنحاول ان نتناوله اليوم. وغنى عن الذكر أن توافر الماء فى صورة سائلة هو شرط من شروط قيام حياة على كوكب ما. فالمياة تكافئ الحياة. ولذا اذا وقفنا امام ساحل بحر او على ضفاف نهر فعلينا ان ان نسأل أنفسنا: كيف يتسنى لنا أن نرى كل كميات الماء هذه الأن؟
علمنا فى مرة ماضية ان الفيزيائيين يقولون أن الماء اللذى نراه حولنا كان موجودا ضمن سحابة غازية تكونت منها الارض والمجموعة الشمسية بأسرها. وفى خلال عملية تكوين الأرض غاصت العناصر الثقيلة كالحديد الى باطن الارض وبقيت المركبات الخفيقة كالماء فى قشرتها. ثم تفجرت البراكين وينابيع الماء الحارة عبر مئات الملايين من السنوات لتحرر الماء من قشرة الارض فى صورة بخار ماء اللذى تكثف لاحقا لينتج مسطحات مائية هائلة. ولمزيد من التفاصيل راجع موضوع “الماء اللذى أتى من الفضاء“. لكن كل هذه التفاصيل ليست هى اجابة السؤال اللذى طرحناه أنفا ! فبفرض ان نشأة المسطحات المائية تمت فعلا وفقا للشرح السابق فلابد وأن تكون جاراتنا من الكواكب تمت فيها هذه العملية نفسها. و لابد وبنفس المنطق ان يحتوى المريخ وكوكب الزهرة المعروف بأنه توأم الارض على مسطحات مائية. بل لابد ان يحتوى القمر نفسه وهو اقرب الاجرام السماوية الينا على مسطحات مائية. ولكننا نعلم ان هذه الاجرام خالية من البحار تماما. وكوكب الزهرة يحتوى غلافه الجوى على بخار الماء فقط حيث ان درجة سطحه تفوق ال 400 درجة مئوية! اما القمر فيحتوى على كميات من الماء فى صورة متجمدة. وبالنسبة للمريخ توجد دلائل على انه احتوى على ماء سائل فى الماضى ولكن الحال ليس كذلك اليوم. فدعونا نسأل سؤالا هاما جدا: ما هو السر اللذى بسببه احتفظت الارض بمائها الى اليوم بينما فقدت جاراتنا مائها؟ ولماذا لم تفقد الارض مائها كالأجرام الاخرى؟ ولماذا مازلنا نرى الماء حولنا اليوم؟
فى البداية وقبل ان نجيب على هذ السؤال دعونا نستعرض بعض الحقائق الهامة: تقدر كمية الماء فى عالمنا بمليار مليار طن او واحد وعلى يمينه 18 صفر. وهذه هى نفس الكمية اللتى حسبها العلماء لكمية الماء اللتى كانت موجودة فى القشرة الارضية قبل 4.5 مليار سنة وعند بداية تفجر البراكين و الينابيع المائية الحارة السابق الحديث عنهما. اى ان الارض عبر تاريخها الممتد لم تفقد شيئا من مائها تقريبا! ولكن هناك عمليتان طبيعيتان يجب ان نتعرف عليهما. العملية الاولى وهي تحلل بخار الماء احيانا فى غلافنا الجوى الى عنصريه الاساسيين: الهيدروجين والاكسجين. ونظرا لان الهيدروجين هو اخف عنصر موجود فى الطبيعة فذرة الهيدروجين تتكون من بروتون والكترون واحد فقط فيستطيع الهيدروجين ان يهرب من الغلاف الجوى الى الفضاء الخارجى لان كتلة الارض لا تسمح لها بالاحتفاظ بهذا العنصر الخفيف. ولهذا السبب لا يحتوى غلافنا الجوى الا على نسبة ضئيلة جدا من غاز الهيدروجين على الرغم من انه هو اكثر عنصر موجود فى مجموعتنا الشمسية بل فى الكون كله. ويقدر العلماء نسبة الماء اللتى فقدتها الكرة الارضية بهذه الصورة طوال تاريخها ب 0.2%. وهو رقم ضئيل جدا. ولكن حتى هذه النسبة الضئيلة يتم تعويضها من عملية اخرى. وهى عملية تحدث بسبب العمليات التكتونية اللتى تحدث للصفائح الأرضية. فباستمرار تحدث عملية تجديد للصفائح الأرضية وتحدث اضافات جديدة للمادة الارضية ومن بينها الماء. ويعوض الماء المولود الماء المفقود تقريبا!
وهناك شئ هام أود ان أؤكد عليه وهو عندما نقول ان كمية الماء لم تتغير عبر تاريخ الارض لايعنى ذلك ان البحار و المحيطات عبر تاريخها لم تتغير. فالبحر المتوسط او المحيط الهندى لم يكونا طوال التاريخ بهذا الشكل. فالبحار هى ظواهر جيولوجية حديثة. لكن المقصود هو مياة البحار وليست البحار نفسها. بل ان المقصود هو المياة السطحية الموزعة بين المحيطات و القطبين فى صورة سائلة او مجمدة. وفى العصور الجليدية كانت نسبة الجليد اعلى منها اليوم وكان ذلك على حساب المياة فى البحار والمحيطات وكان منسوب البحار منخفضا عنه اليوم. و كانت اجزاء من محيط اليوم جزءا من اليابسة فى العصر الجليدي وغطتها المياة الأن. وفى قاع البحر عند الامريكتين توجد اثار انسانية وحيوانية تشهد بهذه الحقيقة.
و الآن نعود لسؤالنا الهام لماذا لم تفقد الأرض مياهها بينما فقدته جيراننا من الاجرام السماوية. بالنسبة للقمر فاجابة هذا السؤال سهلة. فالقمر كتلته ضئيلة وهذا يجعله لا يتمكن من الاحتفاظ باى غلاف جوى. فماؤه السائل كله تبخر الى الفضاء الخارجى. ويمكننا تشبيه القمر بحارس خائب تمكن مسجونوه كلهم من مغافلته و الهرب منه . فالقمر ليست لديه القدرة على الأحتفاظ بمساجينه. والقدرة هنا تعبر عنها الكتلة! وهذه معلومة هامة وسنعود اليها لاحقا. اما بالنسبة لبقية الكواكب الاخرى فالمضوع اكثر اثارة.
اول من تنبه الى هذا السؤال كان الأمريكى مايكل هارت Michael Hart فى عام 1979 حيث تنبه الى ان الكرة الارضية عبر تاريخها تعرضت لحوادث مصيرية كان كل منها كفيلا بالقضاء على اى حياة تظهر لاحقا فيها. الحدث الاول هو ان قوة الشمس ازدادت عبر حياتها بنسبة 25%. وهذه الزيادة الكبيرة فى قوة الشمس كانت كفيلة بأن تبخر جميع المياة الموجودة فى البحار والمحيطات فلا يبقى عندنا اى ماء فى صورة سائلة! اما الحدث الثانى فهو انه عبر مليارى سنة تقريبا تكونت طحالب فى البحر وظلت هذه الطحالب طوال هذه السنين فى انتاج غاز الاكسجين اللذى تصاعد الى طبقات الغلاف الجوى وعمل على تحليل غازات النشادر و الميثان اللتى كانت سائدة و كانت تسبب ظاهرة الاحتباس الحرارى. فغاز الاكسجين فى الغلاف جوى يبرد سطح الأرض وتأثيره كمادة الفريون بالنسبة للثلاجة. وهاتان العمليتان المتضادتان: زيادة قوة الشمس و انبعاث غاز الاكسجين حدثتا فى نفس الوقت مما ترتب عليه بقاء الماء سائلا. وقرر هارت ان يدرس هل أن هذه العملية ممكنة الحدوث فى الكواكب الاخرى أيضا ام لا؟. ولكن ما وجده هارت كان مذهلا.
وجد هارت لو ان الأرض كانت قد تكونت 1% خارج مدارها الحالى لتجمدت كل المياة الموجودة فيها طالما كان غلافها الجوى يحتوى على غاز الاكسجين!. بينما لو كانت كرتنا الارضية تكونت 5% مزاحة الى الداخل لكانت قوة الشمس كافية لتبخير كل الماء الموجود فيها وتحولت لكوكب يشبه الزهرة! واطلق هارت على هذا الحزام الضيق القابل للحياة مصطلح CHZ او continuously habitable zone او النطاق الصالح للسكنى باستمرار. وكانت هذه نتيجة مفاجأة وتوضح ان الحياة ممكنة فى حزام ضيق فقط بداخل المجموعة الشمسية وأنها غير ممكنة على كوكب المريخ او الزهرة. بل الامر اكثر من ذلك. فبنفس الاسلوب يمكننا دراسة دور كتلة الشمس و الأرض على وجود هذا النطاق.
اذا كانت كتلة الشمس 83% من كتلتها الحالية فسيكون عرض هذا النطاق صفر. و لايمكن ان يوجد اى ماء فى صورة سائلة فى حالة احتواء الغلاف الجوى للكوكب على غاز الاكسجين. بينما اذا كانت كتلة الشمس اكبر ب 20% من كتلتها الحالية فسيكون هذا النطاق كبيرا جدا لكن ستوجد مشكلة خطيرة غير ذلك وهى ان عمر النجم فى هذه الحالة سيكون قصير جدا. فهناك علاقة عكسية بين عمر النجم و كتلته. فعندما تكون كتلة النجم اكبر ب 20% من كتلة الشمس يبلغ عمره مليار سنة فقط. بينما عمر شمسنا اليوم 4.5 مليار سنة تقريبا وهى مازالت فى منتصف عمرها. ونحن نعلم من تجربتنا الارضية ان الكرة الارضية احتاجت الى مليارات السنوات لتهيئة المسرح لظهور الانسان. فالانسان لم يظهر على سطح الارض الا فى عشرات ألوف السنوات الأخيرة فقط. اذن فالنجوم اللتى تسمح بقيام حياة هى من حجم الشمس فقط ويطلق عليها الفيزيائيون انها نجوم تنتمى للعائلة G .
والمثل بالنسبة لكتلة الارض فلو كانت كتلة الأرض اكبر ب 10% من كتلتها الحالية لانبعثت من النشاطات البركانية فى بداية تكوين الأرض كميات كبيرة من ثانى اكسيد الكربون كافية لصنع احتباس حرارى لا يمكن معالجته لاحقا بغض النظر عن أى تفاصيل اخرى. بينما لو كانت كتلة الارض اقل ب 6% لما تمكنت كتلتها من الاحتفاظ بطبقة الاوزون فى غلافها الجوى. وطبقة الاوزون هى فى غاية الاهمية وهى تحمينا من الاشعاعات الكونية الضارة. ولولا طبقة الاوزون لما كانت الحياة ممكنة فوق سطح الارض. وأقصى اشكال الحياة الممكن تخيلها فى هذه الحالة هى حياة الاسماك تحت سطح البحر!
كانت هذه الاكتشافات مزلزلة ففى خمسينات القرن الماضى كان الأعتقاد سائدا ان وجود حياة فى الكون على كواكب اخرى هو امر محتمل جدا فهناك مئات المليارات من المجرات اللتى تحتوى على مئات المليارات من النجوم. ولابد من وجود كواكب مشابهة لكوكبنا فى مكان ما. لكننا الان نعلم ان كوكبنا يمثل حالة فريدة. طبعا لا يستطيع انسان ان يزعم انه لاتوجد كواكب مشابهة فى الكون كله. ولكن من الصعب افتراض ان مجرتنا على الاقل تحتوى على كوكب اخر مشابه لنا.
لقد فجر كوبرنيكوس ثورة عندما بين ان الارض ليست هى مركز الكون ولكنها مجرد كوكب لا شأن له يدور حول الشمس. ثم عرفنا لاحقا ان الشمس نفسها موجودة على حافة مجرتها و لا تشغل فيها مكانا مركزيا. وان مجرتنا ليست بذات شأن وسط مئات مليارات اخرى. ثم فجر نيوتن ثورة جديدة حينما بين ان قوانين الفيزياء كونية فهى تنطبق على الارض كما انها تنطبق على ابعد نقطة فى الكون بنفس الطريقة . و ان الارض لا مكان مميز لها فى عالم الفيزياء. ولكننا الان نرى كيف انه على الرغم من ان القوانين واحدة الا أن الشروط الفريدة اللتى تتمتع بها الارض قادتنا الى نتائج فريدة و غير متوقعة.
اذن فى المرة القادمة عندما تقف على ساحل بحر او على ضفاف نهر عليك ان تتذكر انك ترى هذا المشهد لانك تقطن فى كوكب مميز ليس بالصغير او الكبير ولكنه ذو حجم مميز تماما. كما انك تنتمى لنجم مميز ليس بالصغير او بالكبير ولكنه ذا حجم مميز تماما. كما ان كوكبك المميز يبعد عن نجمك المميز مسافة مميزة تماما تسمح بقيام الحياة على هذا الكوكب وتسمح بظهور كائنات راقية تقف على الشاطئ وتسأل نفسها كيف يتسنى لنا ان نرى كل كميات الماء هذه الأن؟؟!!