يعد اكتشاف حساب التفاضل انجاز بشرى هائل. وكان لهذا الانجاز تداعياته الضخمة ولن تستطيع كلمات بسيطة هنا ان تفى هذا الانجاز حقه. فقد حل اولا اكتشاف حساب التفاضل معضلات رياضية فى غاية التعقيد كانت تعذب الرياضيين فى الماضي. ومن ضمن هذه القضايا كان حساب الميل للمنحنيات عند النقاط المختلفة. كما ان كتشاف حساب التكامل قد صاحب سريعا اكتشاف حساب التفاضل. فهو العملية العكسية له. وبحساب التكامل يمكننا ان نحسب المساحة المحصورة بين منحنى وبين محور x او بين منحنيين مختلفين. وكانت هذه مشكلة تؤرق الرياضيين القدماء و حاولوا تقديم حلول لها بصورة تقريبية كما فعل ارشميدس وكبلر. لكن حساب المساحة عن طريق التكامل لايحسب المساحات بصورة تقريبية بل بدقة يمكن وصفها بالمرعبة. وهذا نذر يسير فقط من الانجازات الرياضية اللتى حققها حساب التفاضل.
لكن كل هذه الانجازات لاتعد شيئا بالقياس الى نتيجة عجيبة جدا ظهرت بعد اكتشاف حساب التفاضل. وهذه النتيجة هي ان اكتشاف التفاضل فتح الباب على مصراعيه لاكتشاف قوانين الفيزياء والطبيعة. فاكثر من 90% من قوانين الفيزياء اللتى نعرفها اليوم نشأت نتيجة لحساب التفاضل. ولسبب مجهول فان الطبيعة تفضل شكل المعادلات التفاضلية للبوح عن اسرارها. فقد كان عدد القوانين المعروفة قبل اكتشاف حساب التفاضل قليل جدا. ومثال لتلك القوانين القليلة نذكر قانون الروافع اللذي كان يستخدم فى اعمال البناء او قانون الطفو لارشميدس. ولكن بعد اكتشاف التفاضل توالت القوانين الهامة اللتى تغطى كل جوانب الطبيعة. كما ان القوانين التفاضلية تتميز بخاصية اخرى. فالقوانين التفاضلية هى قوانين عامة لكن معظم القوانين اللتى تحمل صورة غير تفاضلية هى مجرد قوانين تقريبية وليست قوانين عامة. مثال على ذلك قانون هوك للاستطالة فهو يمثل فقط تقريبا لسلوك بعض المواد تحت ظروف تحميل معينة.
والمعادلات التفاضلية تختلف عن المعادلات العادية فى شئ اساسى وعجيب. فهي تشبه الة لبناء الالات. فكثير منا يعرف مثلا الات لصناعة الكراسى او الاكواب و الابواب او اي شئ اخر . و قد يحلم البعض ببناء الة تبنى الات اخرى . بمعنى ان اطلب من هذه الالة ان تبنى لى الة لصناعة الكراسى ثم بالالة المصنوعة اصنع الكراسى اللتى اريدها. او اطلب من نفس الالة ان تبنى لى الة لصناعة الاكواب فتصنع لى الة استخدمها فى صناعة الاكواب. وهكذا الحال فى المعادلات التفاضلية. فالمعادلات العادية يكون حلها قيمة او مجموعة قيم للمجهول المطلوب البحث عن حل له. اما حل المعادلات التفاضلية فهو ليس مجرد قيمة او حتى مجموعة قيم حتى لوكان عددها لانهائي ولكن حل اى معادلة تفاضلية هو دالة جديدة كاملة.
وكانت اول القوانين اللتى تم اكتشافها على صورة معادلات تفاضلية هي قوانين نيوتن للحركة . حيث قال نيوتن ان القوة تتناسب مع معدل التغير فى كمية الحركة او بمعنى اخر القوة تتناسب مع تفاضل كمية الحركة او تفاضل الزخم. وهذه القوانين تفسر كل الظواهر الحركية على سطح الارض من سقوط التفاحة من فوق الشجرة حتى دوران القمر حول الارض. بل انها تتخطى حدود الارض و تفسر دوران الكواكب حول الشمس وتفسر كل قوانين كبلر على نحو ساحر وغير مسبوق. وقام الفلكى الانجليزي المشهور السير ادموند هالى وهو كان صديق شخصى حميم لنيوتن باستغلال قوانين نيوتن فى حساب دورة المذنب هالى وتوقع بدقة عالية موعد اقترابه من الارض مرة اخرى. فهو يمكن رؤيته من الارض مرة كل 75 سنة تقريبا.
وهنا نعود مرة اخرى الى عنوان موضوعنا فهالى هو الرياضى الكافر المقصود والقائل هو القس الكاثوليكى والرياضى الايرلندي جورج باركلى اما المقولة فهى كانت جزء من عنوان طويل لكتاب الفه باركلى. والعنوان الاصلى الكامل للكاتب باللغة الانجليزية هو:
THE ANALYST;
OR, A DISCOURSE Addressed to anInfidel MATHEMATICIAN.
WHEREIN It is examined whether the Object, Principles, and Inferences of the modern Analysis are more distinctly conceived, or more evidently deduced, than Religious Mysteries and Points of Faith.
اما عن سبب هذا الكتاب فقد كان بيركلى ذو قلم لاذع وقد كتب كتبا مشهورة يهاجم فيها ساخرا من كانوا يصفون انفسهم بانهم المفكرين الاحرار وكان يقصد بكتاباته العلمانين المادييين والملحدين او كل من كان يشككك فى الايمان المسيحى بشكل عام ويقول انه مفكر منطقى لا يصدق الا الحقائق الدامغة. وحدث ذات مرة ان انتقد ادموند هالى اراء بركلى بشكل سلبي فقرر بركلى ان يكتب كتابا يوجهه للرياضى الملحد. وهدف الكتاب ان يوضح ان اليقين فى الرياضيات ليس اقوي من اليقين فى المسائل الدينية.وارد بركلى ان يدحض ادعاءات الماديين بان الدين عبارة عن مجموعة خرافات وقال بل ان الخرافات والاشياء الغامضة الغير واضحة الموجودة فى الرياضيات اكثر من الموجودة فى الدين ومع ذلك يؤمن الرياضيون بافكارهم ويعتدون بها ويحسبونها جبال راسخة لا تتزحزح. واستغل بركلى فى هجومه حساب التفاضل بصفة خاصة حيث كان برهان نيوتن و لايبنز للتفاضل مهلهلا وملئ بالثغرات . واستغل بركلى تحديدا موضوع القسمة على الصفر وكيف ان الرياضيين فى حساب التفاضل يفعلون اشياء تندي لها الجبين ولكنهم مع ذلك لا يخجلون من انفسهم ولكنها يسخرون من الايمان ومن الدين ويقولون انه ملئ بالخرافات! و استغرب بركلى فى اكثر من موضع فى كتابه كيف ان الرياضيين من يؤمنون بالتفاضل يسمحون بوجود التغير من الدرجة الاولى او ما نطلق عليه اليوم dx ولكنهم يقولون ان مشتقات هذا المتغير من الدرجة الثانية او الثالثة او اعلى من ذلك بمعنى اننا اذا ربعناه او كعبناه الى اخره فانه يتلاشى ويختفى!
فى البداية يجب ان نلاحظ ان لغة نيوتن الاصلية اللتى وصف بها التفاضل تختلف عن لغتنا الرياضية اليوم فما نطلق عليه اليوم المتغير او variable اطلق عليه نيوتن اسم السائل او المنساب fluent واطلق نيوتن على سرعة تغير x اسم التدفق او الجريان او fluxion . وهو ما اطلقنا عليه فى المدونة الماضية v2 . يقول باركلى فى احد المواضع الاكثر اقتباسا في كتابه : ماهذا التدفق؟ انه سرعة لزيادة متلاشية متناهية فى الصغر ؟ وماهذه الزيادة المتلاشية (dx) ؟ انها ليست كمية منتهية! كما انها ليست المالانهاية الصغرى ! او حتى انها ليست لاشئ! افلا يجوز لنا ان نطلق عليها انها عفاريت او اشباح لارقام ميتة؟!!
كما يقول باركلى فى موضع اخر ان كل من يستسيغ وجود تدفق من الدرجة الثانية او الثالثة او كل من بقول بوجود شئ يمكن ان نسميه بتغير التغير وهكذا حتى مالا نهاية لا ينبغى ان يكون حساسا فى المواضيع الالهية. ولا يجوز له ان يقول ان قضايا الدين مليئة بالالغاز و الا فانه يسمح بان تكون الالغاز جزء من الرياضيات و لايسمح بوجودها فى الدين!!
كان نقد باركلى لحساب التفاضل لاذعا. وعندما وصف التغير dx بانه اشباح وعفاريت كان محقا في ذلك. فما هذا هو الرقم اللذى قيمته لا تساوي صفر ولكن اذا ضربناه فى نفسه اصبحت النتيجة صفرا؟! فبرهان نيوتن لحساب التفاضل كان مهلهلا . لكن نجاح طريقة نيوتن وتوصلها دائما الى النتيجة الصحيحة دفع الكثيرين الى تجاهل هذا التناقض فى الاساس الرياضى. واوغل الكثيرون فى طريقة نيوتن و تعمقوا فيها ليصلوا الى نتائج واكتشافات جديدة ويحلوا معضلات قائمة مزعجة. فقد كان الاغراء قويا.
وهناك نقد يوجه للفيزيائين عموما من قبل الفلاسفة بانهم انتهازيين و لا مبادئ و لا اخلاق علمية عندهم. فهم مكيافيلون ويتبعون دائما اين توجد المصلحة. بل انهم يتبعون مبادئ معينة عندما يدرسون قضايا معينة ويتبعون عكس نفس تلك المبادئ بعد نصف ساعة عندما يبحثون قضية اخرى ويكون افتراض العكس افيد لهم!! وفيزياء اليوم تقوم على عمودين اساسيين وهما نظرية الكم والنظرية النسبية وهما نظريتان متناقضتان بشكل هائل. ولكن عندما يدرس الفيزيائيون قضايا الجاذبية يصبحون نسبيين وعندما يدرسون قضايا اخرى يلبسون قناع نظرية الكم!! ويتهم الفلاسفة الفيزيائين انهم يهتمون بالنتيجة على حساب الوسيلة المستخدمة. ويصفون مبدأهم بسخرية any thing goes او اى شئ ينفع!. وقال ويليام براج الحائز على جائزة نوبل كنا ندرس ان الضوء يتصرف ايام الاثنين و الاربعاء والجمعة كانه جسيم مادي ويتصرف ايام الثلاثاء والخميس و السبت و كانه موجة!
فى نهاية الموضوع نستطيع ان نستطيع ان نلمس نقطتين. النقطة الاولى توضح التوتر العلمى الدينى اللذي كان قائما فى العصور الماضية فى اوروبا. وكيف ان العلماء لم يكن بامكانهم البوح بافكارهم بكل راحة دون القلق من ان سهام التكفير سوف تصوب باتجاههم وهذا يفسر لماذا كان نيوتن يتردد ويحجم قبل ان ينشر كل ابحاثه واكتشافاته. على عكس الوضع الان. النقطة الثانية تبرز اهمية موضوع لم نتعرض له اليوم بتاتا و هو حساب النهايات. فكثير من الناس لا يعطون حساب النهايات حقه ويتصورون انه قضية تافهة. وكثير من الطلاب يعتقدون ان حساب النهايات هو مجرد عملية صورية. وانه غير مهم لانه فى كثير من الاوقات عملية سهلة الاجراء. فمجرد التعويض المباشر قد يصل الى النتيجة مباشرة. لكن الشئ اللذي يعلمه الجميع ان حساب النهايات هو اللذي صحح الخلل القائم فى برهان حساب التفاضل. و صحح كثير من الخلل الموجود فى الرياضيات حتى تصل الى صورتها اللتى نعرفها عليها اليوم. فالرياضيات فى الماضى كانت تحتوى على متناقضات و اشياء خاطئة. ولكن اليوم تم تصحيح كل الاخطاء و استبعاد كل المتناقضات حتى اصبحت الرياضيا بناء سليما تماما يفخر به كل رياضى. ولعبت فلسفة حساب النهايات دورا مهما فى ذلك. لكن طبعا عذر الطلاب فى عدم تقدير حساب النهايات قائم وموجود. فهم لم يدرسوا المشاكل التاريخية والمعضلات والتناقضات الغير قابلة للحل اللتى كانت قائمة قبل اكتشاف حساب النهايات!!
بداية شكرا على المقال..
وأود أن أضيف أن التوتر الديني العلمي لم يكن مع العلوم ( الحقة ) فقط وإنما كان أيضا مع العلوم ( الإنسانية ) .وسأتحدث من مجال دراستي ( علم الإجتماع ) . نجد أن هدا العلم “لم يكن ليولد لولا نزع حجب القداسة والظلامية عن الإنسان..” حسب تعبير صاحب تسمية علم الإجتماع ‘ أغيست كونت ‘.. وهو هنا يشير إلى أول عملية تشريح لجثة الإنسان بإطاليا . فبعد هده العملية لم يعد الإنسان دلك الكائن الخارق الدي يمثل الإبداع الإلهي وبالتالي لايمكن العبث في مكوناته الداخلية .. ومن هنا تمكنت العلوم أن تتطور ليكون علم الإجتماع آخر عنقودها…
Pingback: ايمانويل كانت Immanuel Kant | روائع العلوم