يحرص الاوربيون دائما على ذكر ان حضارتهم المعاصرة تستمد عراقتها من حضارة الاغريق والرومان. لكن هنا يظهر سؤال ومن اين استمد الاغريق والرومان حضارتهم؟ فبالطبع لم تكن حضارتا الاغريق و الرومان هما اول الحضارات الانسانية و لا ان الاغريق والرومان قد صنعوا حضارتهم بالكامل. في البداية يجب ان نشير الى ان الرومان قد استمدوا حضارتهم بالكامل من الاغريق اللذين كانوا يسبقونهم زمنيا. ولذلك يمكننا ان نعيد صياغة سؤالنا على النحو التالي: من اين استمد الاغريق حضارتهم؟
كانت حضارتا المصريين القدماء والبابلييين سابقتين لحضارة الاغريق. فهل استلهم الاغريق حضارتهم من هاتين الحضارتين؟ الاجابة هي قطعا نعم. فلاشك ان الاغريق قد استلهموا حضارتهم من الحضارة المصرية القديمة. فالمصريون القدماء كانوا المعلمين المباشرين للأغريق. فعن طريقهم تعلم الاغريق الاعداد والهندسة ثم طوروا فيها وفاقوا فيها اساتذتهم فيما بعد. اما عن البابلييين فقد استفاد منهم الاغريق ولكن ليس بشكل مباشر. فقد انتقلت افكار البابليين الى الاغريق في اغلب الاحوال عن طريق وسيط ثالث كالفينيقيين اللذين سكنوا سواحل لبنان وسوريا وفلسطين. فالفينيقيون كانوا هم الممر اللذي انتقلت عن طريقه الحضارة من الشرق الى الغرب. فاوروبا تدين بجزء كبير من معرفتها الى الفينييقيين. ومن الطريف ان اسم اوروبا نفسه غير مشتق من اى لغة اوروبية بل هو كلمة فينيقية لاسم الهة من الهتهم القديمة.
اذن فخلاصة الامر ان الأغريق استخدموا النظام المصرى القديم للاعداد كما هو تماما. فقد تبنوه واستخدموه بل اضافوا اليه وطوروه تطويرات مهمة. ومن اهم التغييرات والتطويرات اللتى اجروها على النظام المصري انهم استغنوا عن التعبير عن الارقام بالصور واستخدموا عوضا عنها الحروف الهجائية. كما انهم ادخلوا رموزا مخصوصة لللارقام اللتى هي مضافعات الاعداد. فهم قد ادخلوا رموزا للاعداد من 2 الى 9 وكذلك رموزا للاعداد 20 و 30 الى 90 وكذلك للاعداد 200 و 300 الى 900. وكان من فوائد هذا انهم مثلا استطاعوا التعبير عن العدد 87 بدلالة رمزين فقط: رمز للعدد 7 ورمز للعدد 80 . بينما احتاج النظام المصري القديم الى 15 رمز.
اما عن الرومان فهم بدورهم قد استخدموا النظام الاغريقى ولكنهم لم يطوروه. بل على العكس فقد ارتدوا به الى الوراء فهم قد تخلوا عن بعض الرموز الجديدة اللتى ادخلها الاغريق لمضاعفات الاعداد واستخدموا نظاما اقرب للنظام المصري للاعداد.
واستخدم الرومان كما فعل الاغريق التقويم المصري الشمسي ولكنهم غيروا في اسماء الشهور واطوالها. وقد كان التقويم المصرى القديم في حقيقة الامر افضل واضبط من التقويم الرومانى. فكل الشهور المصرية كانت ثابتة الطول 30 يوما ثم اضافوا خمسة ايام في نهاية السنة لاقامة الاعياد الدينية المقدسة. اما الرومان فقد قام اباطرتهم باطلاق اسماءهم الشخصية على اسماء الشهور. وحرص كل امبراطور على تطويل شهره وتقصير شهور الاخرين. حتى وصلنا الى التقويم اللذي نستعمله اليوم. وان كان يوليوس قيصر قد اضاف تطويرا مهما للتقويم الشمسى حيث ادخل مفهوم السنة الكبيسة وجهل شهر فبراير يزداد يوما فيصبح 29 يوما مرة كل اربع سنوات.
ولم يذكر التاريخ للرومان انجازات علمية او رياضية هامة. قالرومان كانوا امة عسكرية وكانت اهم مظاهر حضارتهم تكمن في العسكرية والسياسة والادارة. ويلمز بعض الخبيثين الرومان فيقولون ان مساهمة الرومان الوحيدة في الرياضيات هي انهم قتلوا العملاق الرياضى ارشميدس.
ولكن هل عرف الاغريق والرومان الصفر؟ نعلم ان المصريين القدماء لم يعرفوا الصفر ولكن عرف البابليون ما يشبه صفرنا الحالى. فهل عرف الاغريق الصفر؟ الاجابة هي نعم فهم عرفوا الصفر البابلى حيث ان الحساب البابلى كان مهما ومنتشرا جدا. ولكن بالرغم من انهم قد عرفوا الصفر الا انهم قد رفضوه. والغريب ايضا ان الاغريق استخدموا الحساب البابلي خصوصا في التنجيم والفلك ولكنهم بعد ان اجروا حساباتهم على الطريقة البابلية قاموا بترجمة الاعداد البابلية الى الاعداد الاغريقية حتى يختفى الصفر تماما. فقد كرهوا الصفر ورفضوه بشكل عجيب. لكن ماهي اسباب رفض الاغريق للصفر؟ في الحقيقة توجد اسباب رياضية واخرى فلسفية لهذا الرفض. فاذا تعرضنا للاسباب الرياضية نجد ان الصفر يتعارض مع تعريف ارشميدس للاعداد. فقد قال ارشميدس ما معناه ان اي عدد اذا جمعناه الى نفسه عدد هائل من المرات فسيصبح هذا العدد في النهاية اكبر من اي رقم معروف. ونحن نعبر عن هذا في امثالنا فنقول ان طريق الالف ميل يبدأ بخطوة. وان البحر العظيم يتكون من قطرة ماء فوق قطرة ماء. ولكن هذا المفهوم للاعداد لا ينطبق مع فكرة الصفر. فاذا اضفنا الصفر الى نفسه عدد هائل من المرات فلن نحصل سوى على صفر جديد. واذا اضفنا الصفر الى عدد اخر فان قيمة هذا العدد الاخر لن تزيد. واذا طرحنا الصفر من عدد ما فان قيمته لن تتغير. وهذه خواص غريبة لا تتوافر في اي عدد اخر.
هذا كان بالنسبة للجمع والطرح . ولكن كل الصفات الغريبة اللتى رأيناها حتى الان لا تقارن بالصفات المرتبطة بعمليات الضرب والقسمة. فنحن نعلم ان عملية الضرب هي في النهاية عملية جمع. فمثلا ضرب 2 في 3 هو اننا نجمع 2 زائد نفسها 3 مرات او اننا نجمع 3 زائد نفسها مرتين
2 . 3 = 2 +2 +2 = 3 +3
لكن ماذا عن الضرب في الصفر. فاننا اذا ضربنا الصفر في 3 فاننا نجمع الصفر زائد نفسه 3 مرات. وكما رأينا سابقا ستكون النتيحة هي الصفر مرة اخري
0.3 = 0 + 0 +0
وهذا يتكرر مع ضرب الصفر في اي عدد فتكون النتيجة هي دائما الصفر. ولكن هذا شئ غريب فلا يوجد اي عدد اخر يفرض قيمته على باقى الاعداد في حالة الضرب كما يفعل الصفر. ولكن ليس هذا كل شئ. فنحن نعلم ان الضرب هو عكس عملية القسمة والقسمة هي عكس عملية الضرب. فاذا ضربنا عدد في 3 ثم قسمنا النتيجة على 3 فسنحصل على العدد الاصلى مرة اخرى.
(2.3)/3 = 2
(4.5)/4 = 5
فاذا حاولنا ان نكرر هذا بالنسبة للصفر فينبغى ان تكون النتيجة كالتالى
(2.0)/0 = 0/0 = 2
(4.0)/0 = 0/0 =4
وهذا شئ غريب فمرة قسمة صفر على صفر تعطى النتيجة 2 ومرة اخرى اعطت النتيجة 4. وبالمثل يمكن ان نكرر المثالين السابقين مع اعداد اخرى فتكون نتيجة قسمة صفر على صفر هى اي نتيجة ممكنة. ويقول الرياضيون اليوم ان نتيجة قسمة صفر على صفر هي كمية غير معينة.
وبالمثل فان الضرب هو عكس القسمة فاذا بدأنا بالفسمة اولا ثم الضرب كما في:
(4/2).2 = 2.2 =4
(15/3).3 = 5.3 = 15
فاذا حاولنا ان نصنع ذلك مع الصفر نجد:
(1/0).0 = 1
ولكننا نعلم مما سبق ان ضرب الصفر مع اى عدد لابد وان يعطى صفر. اذن معنى هذا ان قسمة 1 على صفر تعطى عددا من نوع جديد لم نعرفه حتى الان!!
واذا حاولنا ان نري كيف كان يحسب الاغريق تحديدا سنكتشف ان الاغريق كانوا يحسبون بطريقة عجيبة. فالاغريق كان الحساب عندهم يساوى الهندسة. ولم تكن ادواتهم في الحساب الورقة والقلم بل المسطرة والبرجل. فهم كانوا يتخيلون الاعداد على انها خيط مرن او زمبرك. فاذا تخيلنا زمبركا طوله 30 سم. فضرب عدد في 2 يعنى عندهم استطالة هذا الزمبرك حتى يصبح ضعف طوله الاصلى. فيصبح طوله الجديد 60 سم. والقسمة على 2 تعنى ضغط هذا الزمبرك حتى يصبح نصف طوله. ولكن الضرب في صفر كان يعنى ان الزمبرك سوف يختفى تماما. وسوف تقع كل نقاط هذا الزمبرك فوق نقطة واحدة. اما القسمة على صفر فهى تعنى تفجير هذا الزمبرك ليصبح طوله المالانهاية. وكانت كل هذه الاشياء تمثل بالنسبة للاغريق ادعاءات سخيفة لايمكن قبولها.
ولكن لم تكن الاسباب الرياضية هى المسئولة وحدها عن رفض الاغريق للصفر. بل ان هذه الاسباب الرياضية كانت تمثل قمة جبل الثلج. فالاسباب الفلسفية كانت اعمق. كما ان عمالقة الاغريق العظام فيثاغورث وزينون وارسطو رفضوا الصفر. فالصفر كان بالنسبة لهم عدد مأفون. ومن بعد هؤلاء استمر الغرب ينظر الى الصفر فى العصور الوسطى على انه عدد نازق يمثل الكفر والهرطقة. ولكن هذه هي قصة طويلة اخرى.