الاعداد عند البابليين

لاشك ان اكتشاف الكتابة يعد اهم الانجازات البشرية على الاطلاق. فهذه الخطوة هى اللتى سمحت بتراكم المعرفة والمعلومات عبر الاجيال مما مهد للبشرية الخروج من بدائيتها الاولى الى الثورة العلمية والحضارية اللتى نعيشها الان. ويذكر لنا التاريخ ان الكتابة ظهرت اول ماظهرت على ارض العراق في الالفية الرابعة قبل الميلاد. حيث استخدم السومريون ما يعرف بالخط المسماري لتدوين كتاباتهم على الواح  من الطين المجفف. والسومريون هم شعب من اصول غير سامية سكنوا جنوب العراق بينما عاش في شمال العراق شعب اخر يعرف بألاكاديين.

وبعد فترة طويلة من الزمن ظهر البابليون في وسط العراق وهم شعب ينحدر من اصول سامية تمكنوا من بسط سلطانهم  فوق ارض العراق. وانشأوا حضارة فاقت حضارة السوماريين . وقد كان لهذه الحضارة تأثير ضخم في العالم القديم. بل ان بعض ملامح هذه الحضارة مازالت تؤثر في حياتنا الى الان.

ويعد حمورابي سادس الملوك البابليين من ابرز الملوك اللذين حكموا بابل. وقد  وامر حمورابى بكتابة اول قانون وضعى عرفته البشرية لينظم الحياة والعلاقات بين طوائف المجتمع المختلفة في ذلك الوقت .كما ان في عهده تطورت وسائل الري والحرث بشكل كبير.

وبرع البابليون في الفلك بشكل ضخم ووضعوا جداول لرصد وتتبع  الاجرام السماوية. كما انهم اهتموا ايضا بالتنجيم وربطوا حركة النجوم باحداث المستقبل. ومن اجل اجراء كل هذه الاشياء قام البابليون بتطوير نظام للاعداد خاص بهم. ولكن كان هذا النظام يتسم بشئ من الغرابة.

وترجع غرابة هذا النظام اولا الى انه لم يكن نظاما خماسيا او عشريا بل انه لم يكن حتى نظاما عشرينيا. بل كان نظاما ستينيا. والامر الاكثر غرابة ان البابليين استخدموا رمزين فقط للتعبير عن هذا النظام: رمز يشبه الوتد الرأسي وهو يمثل العدد 1 ورمز على شكل الزاوية القائمة يمثل العدد 10. ولكن النقطة الاكثر غرابة من كل ما سبق ان الرمز الواحد كان من الممكن ان يعبر عن اكثر من قيمة في نفس الوقت. فمثلا رمز الوتد الرأسى قد يعنى 1 او قد يعنى 60 او قد يعنى 3600 او اي قيمة اخرى هي نتيجة حساب اس صحيح موجب  للاساس 60 !!

النظام البابلي للاعداد

ولكن من ناحية اخري فلقد كان لهذا النظام مميزات اخرى جعلته من اهم نظم الاعداد المعروفة في عصره. وتحديدا اثبتت امكانية تعبير الرمز الواحد عن اكثر من قيمة انها نعمة اكثر منها نقمة و جعلت هذا النظام عمليا للغاية. و بالمناسبة فان نظام اعدادنا الحالى يتمتع بنفس هذه الخاصية. فمثلا العدد 111 يحتوي ثلاث مرات على العدد واحد. ولكن قيمة الرقم الاول اقصى اليمين تساوي واحد فعلا لانه مكتوب في خانة الاحاد. اما الرقم واحد في المنتصف فقيمته 10 لانه مكتوب في خانة العشرات. والواحد اقصى اليسار قيمته 100 لانه مكتوب في خانة المئات.

ولذلك عندما كتب البابليون العدد 61 احتاجوا الى رمزين فقط. وهما وتدان بجوار بعضهما. فتكون قيمة الوتد الاول 1 وقيمة الوتد الثانى 60 وتصبح قيمة الرقم النهائية 61. واذا قارنا هذا النظام بالنظام المصري القديم للاعداد لوجدنا ان النظام المصري يحتاج الى 7 ارقام  لكتابة العدد 61  : ستة رموز للحدوة المقلوبة رمز العشرة ورمز الشرطة الرأسية رمز الواحد. ولكن على الجانب المقابل لايجب ان ننسى ان النظام البابلى للاعداد كان سيئا جدا لكتابة الاعداد اقل من 60 . فلكتابة العدد 59 مثلا احتاج الى 14 رمز:9 مرات للوتد رمز الواحد وخمس مرات للزاوية القائمة رمز العشرة.

الصفر البابلي

ولكن مع ذلك فان هناك مشكلة  خطيرة ظهرت للبابليين وهي كيفية كتابة العدد 60 تحديدا؟ فكما قلنا ان الوتد قد يعنى1 او 60 او 3600 او ارقام لانهائية اخري. فكيف يمكن للبابليين ان يميزوا بين هذه الحالات المختلفة؟ وهنا طرأ للبابليين فكرة فريدة من نوعها فقد ادخلوا رمزا جديدا هو عبارة عن وتدين مائلين. وهذا الرمز لا يحمل قيمة في حد ذاته ولكنه يشغل خانة  فقط. بمعنى اننا اذا وضعناه على يمين رمز الوتد مرة واحدة اصبحت قيمة رمز الوتد 60 واذا وضعناه مرتين اصبحت قيمة رمز الوتد 3600 . اما اذا لم نضعه على الاطلاق تبقى قيمة الوتد واحد كماهي!!

ونحن في نظامنا الحالى نستخدم نفس الاسلوب فصفر على يمين الواحد تجعل قيمة الواحد 10 وصفران على يمينه تجعلها مائة وهكذا. وبالمثل اذا وضع البابليون رمز الوتدين المائلين بين وتدين رأسيين تصبح القيمة الكلية 3601 . فهذا الرمز الجديد كان يمثل ميلاد الصفر اللذي نعرفه اليوم.

وكان لنظام الاعداد البابلى ميزة اخري  مكنته من التعبير عن الكسور بشكل اسهل من النظام المصري القديم. فاننا اذا وضعنا هذا الرمز اقصى اليسار اصبح يعبر عن كسر عشري. فمثلا لكتابة العدد ثلاث ارباع فقد كتبه المصريون القدماء هكذا:
1/2 + 1/4
اما البابليون فقد كتبوه هكذا 0.45 ويجب الاننسى ان نظامهم كان ستينيا. كما انه كان للاساس 60 ميزة اضافية بالمقارنة بالاساس 10 في حالة التعبير عن الكسور لان العدد عشرة لايقبل القسمة بدون باق سوي على العددين: 2 و 5 فقط .اما العدد 60 فيقبل القسمة بدون اى باق على الاعداد: 2 و3 و 4 و5 و 6 و 10 و 12 و 15 و 20 و30 .

كما ان هذا النظام كان عمليا جدا في حالة اجراء الحساب عن طريق استخدام العدادات  Abacus كتلك اللتى يلهو بها الاطفال فى عصرنا الحالى. ففكرة عمل النظام البابلى تشبه تماما فكرة عمل هذه العدادات. فالعداد القديم كان عبارة عن مجموعة من الاحجار مصفوفة في صفوف او اعمدة. ولكن قيمة تلك الصفوف او الاعمدة تختلف عن بعضها فالصف اوالعمود الاول يعبر عن خانة الاحاد واللذي يليه يعبر عن العشرات والتالى عن المئات وهكذا.  وعن طريق تحريك الاحجار بسرعة فوق هذه الصفوف تمكن البابليون من اجراء عمليات الجمع والطرح بسرعة البرق. والطريف ان اسم الالة الحاسبة اليوم هو calculator او اسم الحساب نفسه calculus مشتق من كلمة calcium او كالسيوم وهي تعنى حجرا باللغة اللاتينية. والشئ الطريف ايضا ان اليابانيين حتى الان مازالوا يستخدمون العدادات في المدارس لتعليم الاطفال الحساب كما انهم يقومون بعمل  العديد من المسابقات ذات الجوائز القيمة على مستوي الدولة لتحديد اسرع حاسب عن طريق هذه العدادات.

عداد روماني

ولكننا يجب ان نلاحظ شيئا هاما  وهو ان هذا الرمز اللذى ادخله البابليون لا يكافئ صفرنا الحالي تماما. فصفرنا المعاصر ليس فقط مجرد شغل خانة ولكنه عددا يحمل قيمة في حد ذاته ويمكننا رسمه على خط الاعداد على يسار الواحد. فهو يفصل بين الاعداد الموجبة والاعداد السالبة. ولكن الصفر البابلى لم يكن عددا في حد ذاته فهو لم يحمل قيمة ولم يكن بالامكان التعبير عنه على خط الاعداد.

ولم يستخدم البابليون هذا الصفر في العد . فاذا اراد البابلى القديم العد فانه يبدأ من العدد 1 وليس من الصفر. على العكس من ذلك شعب المايا اللذي عرف نظاما عشرينيا للاعداد. ولكنهم عرفوا الصفر وكان اول الاعداد عندهم واستخدموه في العد وترقيم الاشياء فكان اول يوم عندهم في الشهر هو اليوم صفر.

وفي الواقع فان النظام البابلى انتشر بسرعة فائقة. ومازال تأثير هذا النظام قائما في حياتنا الى اليوم. فمن هذا النظام نقسم الساعة الى 60 دقيقة والدقيقة الى60 ثانية. كما ان طريقة تقسيم الزوايا تنبع ايضا من هذا النظام. واذا نظرنا لللامر بحيادية سنجد ان طريقتنا فى التعامل مع العدد صفر في حياتنا اليومية تتطابق مع موقف البابليين. فنحن صحيح عرفنا الصفر كعدد ونعرف انه ليس مجرد شغل خانة ولكننا لم نتقبله تماما ونسئ استخدامه. وشعب المايا هو بلا شك احصف منا في هذه النقطة. فنحن نبدأ ترقيم الاشياء دائما من العدد واحد وليس من الصفر اللهم اللا بعض الرياضيين في كتبهم. فتجد ان الكتاب يبدأ بالفصل صفر وليس بالفصل واحد. كما ان معظم لغات البرمجة تبدأ العد من العدد صفر.

يقول الكاتب الامريكى شارل سايف اننا مازلنا في حياتنا المعاصرة غير مقتنعين ان الصفر عددا عاديا مثله مثل سائر الاعداد و يسبق العدد واحد في الترتيب على خط الاعداد. وخير دليل على ذلك انظروا اين يوجد الصفر فوق لوحة جهاز حاسبكم او فوق تليفونكم المحمول؟!!

Leave a Reply