تأسيس ميتافيزيقا الاخلاق

“شيئان يملئان وجدانى بالرهبة والأعجاب كلما تأملت فيهما: السماء الملأى بالنجوم فوقي والقانون الاخلاقي بداخلي. فهما ليسا شيئان مستتران فى غياهب الظلمات ابحث عنهما او اظنهما خارج مجال مداركى. بل انى اراهم امامى! وحقيقة وجودهم مرتبطة فى وعيي ارتباطا مباشرا بحقيقة وجودي!” بهذه الكلمات الجميلة لخص كانت موقفه من القانون الاخلاقى. وفيما يلى سنحاول ان نتعرف على هذا القانون عن طريق مراجعة احد اهم اعمال كانت وهو كتاب “تأسيس ميتافيزيقا الاخلاق”.

هل هناك صفة يمكننا ان نعتبرها خيرا مطلقا وانها نبيلة فى حد ذاتها؟ الشجاعة ؟ الذكاء؟ هل هاتان الصفتان السابقتان صفات خيرة فى حد ذاتها؟ الاجابة هى لا. كانت يطرح هذه الاسئلة ويقدم اجابات عليها.  صحيح ان الشجاعة والذكاء هى صفات حميدة لكن ليس فى حد ذاتها.انظروا مثلا الى مجرم شجاع! فهنا الشجاعة فى الاجرام لا تمثل اى قيمة ايجابية بل تزيد الطين بلة. وكذلك الحال بالنسبة للذكاء . فالذكاء اللذى يتمتع به شرير لا يجعله افضل بل اسوأ! وهنا نعود الى السؤال الاساس مرة اخرى: هل هناك صفة ما يمكننا ان نعتبرها خيرا فى حد ذاتها؟ اعنى بذلك انها خير مطلق وليست خيرا مشروطا كما فى حالتي الذكاء و الشجاعة.  اجابة كانت هى نعم. فكانت يقول ان الاعمال بالنيات!. والمعيار الاخلاقى بالنسبة لاى عمل تحدده فقط نية صاحب العمل. اما نتيجة العمل او شخصية الفاعل فلا يلعبان اى دور فى ذلك. وبالتالى فالصفة اللتى هى خير مطلق فى حد ذاتها هى النية الحسنة. فالنية الحسنة هى خير دائما بغض النظر عن اى تفاصيل او ملابسات اخرى! ويضيف كانت ان نتيجة عمل معين لا تفيدنا فى الحكم على مدى اخلاقيته لأن نتيجة اى عمل تعتمد ايضا على ظروف خارجية قد تكون مواتية او معاكسة. ولكن حتى لو كلل سعينا بالفشل وحتى لو تحالفت  ضدنا كل القوى الخارجية لا فساد ماننتوى عمله. وحتى لو لم يشأ القدر وكانت  محصلة مجهوداتنا صفر فتبقى النية الحسنة جوهرة لامعة.

ويقول كانت اذا اردنا ان نقيم مدي اخلاقية عمل فينبغى علينا ان نعرف الدافع خلف هذه العمل و لا نكتفى بالحكم من الخارج فقط . فهناك مبدأ ما يلتزمه الانسان خلف اى تصرف. وعلى الرغم من ان ذلك المبدأ قد يكون غير واضح حتى بالنسبة للفاعل نفسه الا انه هو الفيصل فى الحكم على اخلاقية العمل. واطلق كانت كلمة maxim على المبادئ اللتى تقبع خلف تصرفات الانسان. على سبيل المثال اذا افترضنا شخصين يقولان الحقيقة. لكن مبدأ الشخص الاول قول الحقيقة دائما بينما شعار الشخص الثانى ان يقول الحقيقة دائما باستثناء اذا كان متأكدا ان احدا لن يستطيع ان يفضح كذبه. فقط المبدأ الاول هو الاخلاقى اما المبدأ الثانى غير اخلاقى كما سنرى بعد قليل.

ولكن كانت قال شيئا مفاجئا وهو ان اخلاقية الفعل لا علاقة لها بالبناء العاطفى و النفسى للفاعل ولكنها تنبع فقط من شعوره بالواجب الاخلاقى. مثلا اذا افترضنا تاجرا امينا فى تعامله مع زبائنه فيكون تصرفه اخلاقى فقط اذا كانت امانته ناتجة من شعوره بالواجب الاخلاقى. اما اذا كان التاجر ذكيا فيقدر انه يجب ان يكون امينا حتى لا يخسر زبائنه ويكسب ثقتهم. فى هذه الحالة فان تصرف التاجر لا يمكن وصفه بالاخلاقى فهو مبنى على حسابات المكسب والخسارة. بل ويقول كانت شيئا عجيبا فبعض الناس مجبولين  على العطف فهم يشعرون بالام الفقير و المحتاج ويتفاعلون معهم ويساعدوهم. لكن كانت  يقول ان هؤلاء لا نستطيع ان نصف تصرفهم بأنه اخلاقى. فكون الانسان عطوف او قاسى القلب فهذا قدر الانسان ولا دخل له بذلك. لكن تكون تصرفات الانسان اخلاقية  حينما تكون نابعة من التزامه بالقانون الاخلاقى. وهو قانون موضوعى  ثابت بالنسبة لكل الناس بغض النظر عن تعليمهم أوثقافتهم أو درجة تحضرهم او اصلهم ومعتقداتهم.! فأي انسان عاقل يصل تماما الى نفس النتيجة اللتى يتوصل اليها انسان  عاقل اخر عندما يعمل هذا القانون الاخلاقى.

وقبل ان نتعرف على هذا القانون الاخلاقى ينبغى علينا ان نرى لماذا اطلق عليه كانت اسم قانون. فهو كان يهدف الى شئ يشبه قانون فيزيائى او رياضى ولكن بالنسبة للاخلاق! فهو قانون موضوعى  لايخضع للاهواء او للتأويل. فالصينى والبرازيلى يفهمون القانون بنفس الطريقة ونتائج القانون تكون بالنسبة لهم واحدة. واطلق كانت على قانونه اسم “الامر المطلق” او Categorical imperative وهذه هى ايضا صورة القانون اللغوية. فهناك امر مشروط. مثلا : ذاكر لكى تنجح. فهذا امر ولكنه له غاية وهدف وهى النجاح. اما الامر المطلق فهو امر  لا يوجد فى منطوقه غاية او تبرير له. و القانون الاخلاقى اللذي هو عماد  الميتافيزيقا الاخلاقية معناه تقريبا: عامل الناس بما تحب ان يعاملوك به. لكن هذه الصياغة تقريبية وليست هى فعلا ما قاله كانت. فكانت عبر عن قانونه الاخلاقى بخمس صياغات مختلفة. ولكنها كلها تعبر عن نفس المحتوى. وفيما يلى سنتعرف على صياغتين لهذا القانون.

الصياغة الاولى: تصرف فقط وفقا للمبادئ اللتى يمكنك ان تريدها ان تصير قانونا عاما! وينبغى ان نلاحظ ان مفهوم الارادة يختلف عن التمنى. فالارادة عند كانت حكيمة عقلانية وليست مربتطة بالعواطف والشهوات. مثلا دعونا نرى المبدأ التالى: اعط وعدا كاذبا لتنقذ نفسك من موقف محرج! هل هذا مبدأ اخلاقى ام غير اخلاقى؟ دعونا نطبق الصياغة السابقة هلى يمكننا ان نريد بصورة موضوعية ان نبيح لكل انسان ان يعطى وعد كاذبا اذا كان ذلك ينقذه من موقف محرج؟ الاجابة هى لا. لان فى هذه الحالة ستفقد فلسفة الوعد اجمالا معناها. وسيخسر كل البشر وستفقد  الانسانية كلها هذه القيمة. فمن سوف يصدق الان اى وعد يتلقاه ولن يظن انها حيلة للتملص من مأزق معين؟ وهنا يقول كانت ان اى انسان عاقل لابد ان تكون اجابته على السؤال السابق متطابقة بغض النظر عن انتماءه وجنسه!!

الصياغة الثانية: تصرف دائما مراعيا ان تجعل الانسانية ممثلة فى شخصك وشخوص الاخرين غاية وليست وسيلة تستغلها! فكل انسان فى الحياة له قصة وله اهداف يسعى لتحقيقها . وواجب كل انسان فى الحياة هى الوصول الى غاياته. فاذا استغليت انا اى انسان لتحقيق اهدافى وبطريقة تؤخره عن تحقيق اهدافه فهذه شهادة منى باننى لا اعترف بانسانيته. فمثلا اذا اقترضت مبلغا من المال من انسان وانا عازم على الا ارد له ماله لاحقا. فهذا تصرف غير اخلاقى لاننى لا ارى سوى غاياتى و انا بهذا اكون معاد للانسانية لانى اعيق احد عناصرها عن تحقيق اهدافه

واذا قارنا فلسفة كانت الاخلاقية باعمال بارسطو او جون ستيوارت ميل لوجدنا اختلافات هامة.  فعند ميل تقاس قيمة العمل الاخلاقى بنتائجه و العمل ذو النتائج الاهم يكون اكثر اخلاقية من العمل ذو  النتائج الاقل اهمية. اما بالنسبة لكانت وكما رأينا فان نتيجة العمل لا تلعب اى دور. كما ان فلسفة كانت لاتفرق بين عمل اكثر اخلاقية و عمل اقل اخلاقية. فالعمل اما اخلاقى او غير اخلاقى.  وتختلف فلسفة كانت عن فلسفة ارسطو حيث تهدف فلسفة ارسطو الى جعل الخصال الحميدة طبعا لدي الانسان. اما كانت فيرفض اى دور  للطباع ويرى ان الاخلاق تنبع فقط من الحكمة وليس من الطبع او التطبع.
وبعض النقاد يوجهون نقد الى فلسفة كانت الاخلاقية بانها خالية ولا تعطى وصفا محددا للكيفية العملية اللتى من المفترض ان يتصرف بها الناس. ولكنها تقدم فقط مجرد صياغة مجردة. ولكن كانت كان يرى فى هذا اشادة بعمله. فهو لم يأت ليخترع الاخلاق كأنها لم تكن موجودة من قبله وان البشرية فى تاريخها لم تعرف الاخلاق حتى ياتى فيلسوف ما مهما كان اسمه ليبين للناس الاخلاق! وكان كانت يرى وظيفة فلسفته فقط فى اجلاء الحقيقة الخاصة بالاخلاق و الدفاع عنها امام السفسطائية

وهناك نقد اخر يوجه الى فلسفة  كانت الاخلاقية بانها خالية من المشاعر. حيث كما رأينا كان كانت يرى ان الاخلاق تنبع من العقل فقط. ولذلك كان الشاعر الالمانى شيلر والكاتب الالمانى هنريش هاينه من اقسى مهاجميه.

One thought on “تأسيس ميتافيزيقا الاخلاق

Leave a Reply