الطريق الى الصورة النهائية للنظرية النسبية العامة لا يمر عبر هندسة اقليدس

سقراط وافلاطون و ارسطو اسماء عملاقة ظهرت في التاريخ البشري وساهمت في ازدهار الفلسفة و العلوم بشكل هائل. وكان سقراط استاذ افلاطون كما كان افلاطون استاذ ارسطو ولكن مع ذلك فقد كان لكل منهم اتجاهه الخاص اللذي خالف فيه استاذه. فسقراط كان مجادلا ومحاورا بارعا ولكنه لم يترك كتابا مكتوبا يحوي اراؤه. وكل ماوصلنا عنه كان عن طريق تلميذه افلاطون اللذي مجد شخص سقراط وجعله بطلا لكل قصصه وحواراته. اما افلاطون وهو اللذي كان يدعو الى مملكة الافكار ويقدس دور العقل ويعتبر ان العلم مكانه المخ وليس المختبر. فعند افلاطون اذا اكتملت الفكرة واختمرت في عقل انسان رشيد اصبحت حقيقة مؤكدة ولا يضيرها مخالفة تجربة عملية لها.فالتجارب والواقع ليست اشياء مثالية.اما المنطق و العقل ومنتجاتهما فهي اشياء في قمة المثالية و كاملة ومكتملة. اما ارسطو فقد تبنى فلسفة مغايرة تماما. فهو كان يرى ان العلم هو ماأكدته التجربة. أما الاجتهادات الذهنية اللتى لايدعمها الواقع و التجرية فهي جهد مهدور لاطائل من ورائه.

وتأثر العلماء المسلمون بأراء ارسطو و افلاطون ولاسيما ارسطو اشد التأثر. وتمت ترجمة كل اعمال ارسطو الى العربية عن طريق ابن رشد واللذي عن طريقه وصلت كل افكار ارسطو المعربة الى الغرب ليبدأ نهضته العلمية في عصر النهضة.

وما يعنينا اليوم هي اراء افلاطون اللتى كانت تري ان العلم هو ثمرة الافكار المجردة. وانجح مثال يدعم هذا الرأي هي الهندسة الاقليدية ذلك الانجاز البشري الهائل اللذى لابد ان يشعر الانسان امامه بالاعجاب و التقدير. فالهندسة الاقليدية مبرهنة بشكل رياضى قاطع و لاتحتمل انصاف الحلول. وان اثبتنا خطئا صغيرا في هذه النظرية فقد اسقطنا الهندسة الاقليدية كلها. وتنتهى البراهين في الهندسة الاقليدية الى مسلمات بديهية مقطوع بصحتها ولكن لايمكن اثباتها. انما يتم الاعتقاد بذلك لان هذه المسلمات بديهية للغاية ولا توجد نقاط ابسط منها يمكن ان نردها اليها. وتقوم على هذه المسلمات النظريات المعقدة و النتائج الهندسية البديعة.

وبعد اكثر من الفي سنة من حياة اقليدس في الاسكندرية ظهر الالماني اينشتاين على الساحة العلمية وهو كان شديد الاعجاب بالهندسة الاقليدية. ويلاحظ ان بناء النظرية النسبية يشبه الى حد كبير بناء الهندسة الاقليدية. فاينتشاتين فرض مبادئ اساسية. ومن هذه المبادئ استنبط اينشتاين قوانينه بشكل رياضي. وكان اينشتاين يعشق التجارب الذهنية وكان يستخدمها بديلا عن التجارب المعملية تماما كما كان ينادي افلاطون. لكن المفاجأة تكمن في ان اينشتاين هو اول من دعى الي ابعاد الهندسة الاقليدية عن ميادين الفيزياء لان قوانينها لا تصف كوننا بشكل صحيح.

صحيح ان بناء النظرية النسبية يتشابه مع بناء الهندسة الاقليدية الا ان النظرية النسبية قائمة على المبادئ والهندسة الاقليدية قائمة على المسلمات. ولكن ماهو الفارق بين المسلمات و المبادئ؟ المسلمات هي بديهيات يقر الانسان بصحتها دون القدرة على برهانها او ردها الى مسلمات اخرى اقل منها. اما المبادئ فهي ايضا اشياء يقر الانسان بصحتها دون برهانها ولكن ليس بناء على بداهتها ولكن بسبب ان التجربة والواقع يشهدون لها بشكل لاريب فيه. فمن مبادئ النسبية وصل اينشتاين الى نتائج شيقة تخالف البديهيات اللتى كنا نعتقدها. اى ان يننشتاين انطلق من الواقع والتجربة كما ارسطو ولكن طريقه كان عبر التجارب الذهنية كما كان طريق افلاطون ليصل الى نتيجة سقراط: انا اعرف اني لا اعرف. فالحواس خادعة و ما تصوره لنا حواسنا قد يكون مغلوطا.

الحقيقة اننا نعيش اليوم مايبدو انه مفارقة غريبة فالبديهيات اوصلت العلم الحديث مبالغ عظيمة. لكننا بعد ان وصلنا الى هذه المبالغ ندرك انه ممن الممكن ان تكون تلك البديهيات صاحبة الفضل في تلك النجاحات في حقيقة الامر خاطئة. ويمكن تخيل هذا الامر اننا نعيش في عالم محدود رغم اتساعه و البديهيات تبلغنا حتى حدود عالمنا لنري عالما جديدا يبزع امامنا. ولكن ليس بالضرورة ان تسري في هذا العالم الجديد بديهياتنا القديمة. فهذه البديهيات ليست مقدسات لا يمكن كسرها. او تشبيه اخر للبديهيات بانها كالأب الذي يرعى طفلا حتى يشب هذا الطفل عن الطوق ويدخل الطفل مرحلة الشباب وربما يدرك الشاب ان كل تقاليد وافكار الاب ليست صحيحة.

نعود الان الى موضوعنا الاساسى لماذا اضطر اينشتاين للتخلي عن الهندسة الاقليدية؟ نعلم ان اينشتاين قد ادرك انه بحاجة الى نظرية جديدة و ان ترقيع النظريات الموجودة حتى النظرية النسبية الخاصة لن يجدي بشئ. اذن كان عليه ان يصنع كل شئ من جديد ولكنه فكر مالذي يمكنه ان يأخذه معه من الحقائق القائمة لتوفير الجهد وعدم اختراع العجلة مرتين. كان اينشتاين متأثرا بفضاء مينكوفسكي وبفكرة ان الزمن بعد رابع. وكان متأثرا بقانون حساب المسافات بين نقتطين او حدثين في فضاء مينكوفسكي:

s^2 = x^2 + y^2 +z^2 – c^2t^2

وكان يريد قانونا مشابها في نظريته الجديدة . قانون على نفس النسق يمكن بواسطته حساب الابعاد في الزمكان بين الاحداث المختلفة. ولكن المشكله ان القانون اللذي استخدمه مينكوفسكي كان مبنيا على نظرية فيثاعورث. وقانون شبيه يعنى في حقيقة الامر قانون اخر. اى ان حساب المسافات بين نقطتين فى الزمكان الجديد لن يخضع لنظرية فيثاغورث. وكانت هذه مفاجاءة

نقطة اخري توضح ان هندسة اقليدس ليست الهندسة المناسبة لتوصيف الزمكان الاينشتاينى الجديد هي التجربة الذهنية الاتية : لو تخيلنا ان هناك قرصا دوارا يدور بسرعة عالية. ونعلم انه عند حافة القرص تصير السرعة اعلى مايمكن. لكن ازدياد السرعة يعنى نقص طول المحيط كما توضح تحويلات لورنتر. ولكن نصف قطر القرص لن يقل لانه في اتجاه عمودي على اتجاه الحركة. ونعلم من الهندسة الاقليدية ان محيط القرص يحسب عن طريق المعادلة التالية:

U= 2 x 3.14 x r
حيث U المحيط و r نصف القطر

ولكننا هنا نري ان المحيط اقصر من تلك العلاقة المحسوبة.اذن فهندسة اقليدس لاتسري على قرص دوار !. وبالطبع كانت ثقة اينشتاين في نفسه وفي نظريته عالية فلم يتردد في التخلى عن هندسة اقليدس وقرر ان يستعيض عنها بهندسة ريمان.وكان اختياره لهندسة ريمان اختيارا ناجحا واستطاع عن طريق هندسة ريمان ان يجد معادلاته المنشودة.

في النهاية احب ان اعلق بنقطتين: النقطة الاولى انه من المنطقى ان لا تنسجم الهندسة الاقليدية مع النظرية النسبية.فالهندسة الاقليدية تقوم على بديهيات عالمنا الكلاسيكي القديم. اما نظرية النسبية فقد قامت على مبادئ ظهرت في المرحلة اللتى شب فيها الطفل عن طوق ابيه.

النقطة الثانية اللتى احب ان اؤكد عليها هى اني ارجو الايفهم من كلامي ان هندسة اقليدس خاطئة. فهي بالطبع صحيحة لانها مبرهنة برهان رياضى سليم. ولكن ما قاله اينشتاين انها ليست انسب الهندسات لوصف كوننا الكبير اللذي نعيش فيه!!

Leave a Reply