“يولد الناس أحرارا. لكنهم يعيشون طوال حياتهم فى كل مكان مكبلين بالأصفاد”! بهذه الكلمات النارية دون جان جاك روسو اشهر اعماله العقد الأجتماعي. فقد يكون الناس ملوكا ولكنهم يعيشون كالعبيد بلا حرية حقيقية! فالحرية هى أثمن ما يمتلكه الأنسان.وكون الأنسان انسانا مشروط بأن يكون حرا. فان ضاعت حريته انتهت انسانيته فى ذات اللحظة. لكن ماهى الحرية؟
هناك الحرية البدائية الطبيعية. وهى ان افعل ما يحلو لى مادمت اشتهيه و قادرا عليه. فبامكانى أن انهش لحوم الاخرين طالما أن بأسى شديد عليهم. وأستطيع ان استبيحهم طالما أن باعى أطول منهم. ولعلي استحل اي غنيمة متنطحة او رديئة طالما سنحت الفرصة. لكن فى المقابل فان لحظات تأوج القمة قليلة. وللأخرين ان ينهشوا لحمى ويستبيحوا ما أملك ان استطاعوا. وعلى ان احيا يقظا و أن أنام يقظا. وفى حياة كهذه تربو مرارة انعدام الأمن و الامان على لذة ثمرتها الحرام. اذن هذه الحالة لايمكن ان تكون وضعا مثاليا نسعى للوصول اليه او المحافظة عليه.
اذن توفير الامن و الأمان وتأمين الممتلكات هي من أسس الحياة الكريمة. وهي امور لا تتوفر فى ظل الحرية البدائية السابق ذكرها ولكنها تتوافر فقط وسط مجتمع صحي سليم. لكن الحياة وسط مجتمع قويم لابد وان يصاحبها تقديم بعض التنازلات والتضحية بشئ من الحرية الشخصية. وهنا تكمن المشكلة. فالتفريط فى شئ من الحرية الشخصية يعنى التفريط فى شئ من انسانيتنا. فكيف لنا ان نحل هذه المعضلة؟ وهل توجد وسيلة تمكننا من العيش وسط مجتمع قويم وبدون ان نفرط فى اى قدر من حريتنا؟ الاجابة هى نعم. وهى ما يحاول كتاب العقد الاجتماعى ان يقدم اجابة له. فهو يحاول أن يقدم الوصفة السحرية لتأسيس مجتمع سليم.
بداية فان الحرية الطبيعية البدائية ليست الحرية الحقيقية. بل ان هناك حرية اخرى: وهى الحرية الحكيمة المسئولة. فاذا توفرت لى هذه الحرية الحكيمة فاننى لن أشتهى الا ماهو حكيما فى الاساس. وفى هذه الحالة لا أفرط نهائيا فى شئ من حريتى لان رغباتى ستتفق دوما مع رغبات المجتمع. ولن يتم قهر ارادتى فى يوم من الأيام.
بداية دعونا نرى صورا متنوعة لمجتمعات مختلفة تتفاوت من حيث درجة الاستبداد وسوف تساعدنا هذه الصور فى تقريب فلسفة العقد الاجتماعى موضوع اليوم. دعونا نتعرف اولا على 3 مجتمعات: المجتمع الأول هو المجتمع الأسرى. وفى هذه الحالة ينشأ الافراد معتمدين بشكل كامل على ذويهم حتى يكبروا ويشبوا عن الطوق. ولكن حتى بعد هذه المرحلة يقبل الشباب طواعية ان يبقوا خاضعين لسلطان الأسرة ويبقوا منضويين تحت رايتها. ثم هناك المجتمع الثانى وهو مجتمع الاقوياء وفيه من يملك القوة يملك الحق. ومن لا يملك القوة عليه ان يرضى بما يبقى له. والمجتمع الثالث هو مجتمع الاستعباد حيث يستقوى الاقوياء فيه على الضعفاء بشكل غير محدود وبحيث لا يتركون لهم اى شئ. بل حتى أنهم يسلبون الضعفاء ذواتهم ذاتها ويسترقونهم ويتخذونهم عبيدا لنزواتهم.
وهنا نصل الى العقد الاجتماعي. فكل الصور السابقة لا تسمح بتاسيس مجتمع متقدم. فلا يمكن لاى بشر ان يستعبد بشرا اخرين ابدا. فكل الناس متساوون فى الحقوق و الكرامة: لا فرق بين انسان و اخر رجل و امراءة. والمجتمع السليم على اختلاف مراتب الناس فيه هو كالجسم البشرى. كل اعضاؤه هامة وكل الاعضاء تعمل من اجل الجسم وكل الجسم ينتفض لمقاومة اى اعتداء قد يحدث ضد اى عضو فيه. فهناك عقد اجتماعى يربط كل افراد المجتمع ببعضهم حتى لوكان هذا العقد غير موقع او حتى مكتوب من الاساس. وبنود هذا العقد تلزم الافراد فى اى مجتمع ببذل اقصى ما يستطيعون لخدمة مجتمعهم لانهم بذلك فى حقيقة الأمر يخدمون انفسهم. كما انها تلزم المجتمع بحماية افراده وصيانة حياتهم وصحتهم وصون الملكية الخاصة و العامة. وفى هذا المجتمع يستفيد الغنى و الفقير القوى و الضعيف العزيز ومجهول الأصل.
و العقد الاجتماعى يضع نصب عينيه دائما المنفعة العامة ويتوخى الارادة الجمعية. حيث تفضى الارادة الجمعية بالضرورة الى المنفعة العامة. ويجب ان نراعى ان الارادة الجمعية ليست مجمل ارادات الافراد. فمثلا قد يتحد افراد المجتمع فى رغبتهم في تخفيض الضرائب المفروضة عليهم. فلو كانت للضرائب العالية فائدة هامة للمجتمع وكانت رغبة الافراد فى تخفيض الضرائب ليست الا نظرة انتهازية ضيقة الأفق فلن يصبح تخفيض الضرائب هى الارادة الجمعية حتى وان اتحد فى ذلك كل الافراد. فالارادة الجمعية لابد وان تؤدى الى المنفعة العامة.
وفى هذه الحالة يجب تحرير الافراد من نزواتهم الضيقة وتخليصهم من حريتهم الفطرية البدائية وتنبيههم الى ان مصالحهم الحقيقية تتناغم مع المجتمع اللذين هم لبنة منه وفيه. فان اصاب مجتمعهم خير سيصيب الافراد ايضا خير وان اصاب الافراد خير سيصيب المجتمع خير.
وفى ظل العقد الاجتماعى كل شئ يصبح عملة ذات وجهين. وكل انسان فاعل ومفعول به فى نفس اللحظة. فهدف العقد الاجتماعى هو تحويل الافراد الى مواطنين. فالانسان عندما يكون سلبيا ومفعولا به يكون فردا وعندما يكون ايجابيا وفاعلا يكون مواطن. وكذلك المجتمع عندما يكون سلبيا فهو الدولة وعندما يكون فاعلا فهو صاحب الأمر. وهذه هى الصياغة السحرية للقضاء على الاستبداد. فعندما يصبح الشعب نفسه هو الدولة وهو نفسه صاحب السيادة و الأمر فلا يمكن للأنسان ان يستبد بنفسه او يقهرها.
اذن يؤكد روسو ان صاحب الامر والحاكم الحقيقى هو الشعب نفسه لافرق فيه بين شريف او وضيع. ولكى يعمل هذا المجتمع بشكل صحيح لابد من ان توجد قوانين سارية على الجميع. وواضع هذه القوانين لا يصدرها لصالح افراد او ضد افراد ولكنها يصدرها طلبا للمنفعة العامة. كما ان هذه القوانين يجب ان تراعى خصوصية كل شعب. فليس من البديهى ان القوانين اليابانية سوف تصلح فى مصر مثلا. كما اوضح روسوا ان هناك وظيفة هامة داخل اى مجتمع وهى وظيفة المشرع. وهذا المشرع هو رئة اى مجتمع فهو اللذى يضع قوانينه ولذلك يجب الاعتناء ايما اعتناء باختيار المشرع و تأهيله ومراعاة ان يضع الصالح العام و الصالح العام فقط نصب عينيه فى اى اجتهاد له. كما اوضح روسو انه بجانب صاحب الامر و المشرع لابد وان توجد حكومة وهى تشكل السلطة التنفيذية اللتى تعاون صاحب الامر فى ادارة الأمور.
ثم افرد روسو فى كتابه تبيانا لاشكال الحكومات المختلفة وقال ان اسوأ اشكال الحكومات هى الملكية اللتى يعين فيها الملوك المقربون منهم فى الوظائف العامة وتكون الحظوة لاصحاب الولاء و أوضح روسو ان افضل الحكومات هى اللتى تتكون من نخب منتخبة من قبل الشعب لفترة معينة.
وقد كان لكتاب العقد الاجتماعى لجان جاك روسو تأثير هائل فى زمانه بل وحتى فى زماننا اليوم. وعلى الرغم من ان جان جاك روسو ليس هو اول من كتب عن العقود الاجتماعية الا ان افكار روسو تالقت فى زمن الثورة الفرنسية وتبناها جزار الثورة روبسبير. وصادفت كتابات روسو معارضة شديدة خصوصا ممن يقولون ان الملك هو هبة الهية وأنها ارادة الله يهبها الى من يشاء من الملوك. بينما كان روسو يقول ان صاحب الأمر هو الشعب. وقد كان روسو يوقع اعماله باسمه الحقيقى فى حين كانت سمة ذلك الوقت ان يعبر الناس عن ارائهم تحت اسماء مستعارة لكى يأمنوا الايذاء. ولذلك لاقى روسو اضطهادا شديدا.
وقد جرمت كتابات روسو وحرمت فور صدورها فى سويسرا وهولندا وفرنسا وعاش روسو حياته هاربا لاجئا فى البلاد. فقد ولد فى القسم الفرنسى من سويسرا ثم هرب الى هولندا وفر فى حياته اكثر من مرة. ومات فى فرنسا.
اما الانتقادات الموجهة الى الكتاب فهى عديدة منها ان الكتاب يبدو فى ظاهره أنه قصيدة لصالح الحرية ولكنه فى حقيقة الامر يبطن لاستبداد المجتمع و الدولة. وهناك عبارات فى الكتاب تثير القلق على شاكلة ان هناك نوع من الناس يرفضون ان يكونوا أحرار وواجبنا ان نجبر هؤلاء الناس على ان يكونوا احرارا!
وهناك نقد اخر موجه للكتاب وهو انه كان غير واضح وغير محدد بشأن كيفية تحديد المنفعة العامة بالرغم من انه قد جعلها قبلته اللتى يسعى اليها. فقد يكون ما نظنه منفعة عامة ليس كذلك بل نزوات ونزعات انانية استبدادية بشكل أو باخر.
تحياتي لك و شكراً جزيلاً على المدونة
لدي طلب و هو وضع تصنيفات للمواضيع حتى يتسنى لي قراءة المواضيع التي أريدها
تصنيفات مثل تصنيفات الأشهر و لكن للمجالات
مثلاً: فيزياء ، كيمياء ، أحياء … إلخ
شكرا على لأفتراح وساعمل على تنفيذه
Pingback: اطروحتان حول الدولة لجون لوك | روائع العلوم