نظرية الاوتار الفائقة وتجنب الصفر

قبل 25 قرنا تقريبا واجه الاغريق مشكلة عويصة. وكانت هذه المشكلة مفارقة زينون. وهى مفارقة تتعلق بالصفر والمالانهاية. وكانت محاولة جماعة الذريين من اهم المحاولات لحل هذه المفارقة. ويتلخص جوهر هذه المحاولة فى السؤال التالي: اذا تخيلنا ان لدينا خيطا ومقص. ثم قمنا باستخدام المقص بقص الخيط الى نصفين. ثم اخذنا احد النصفين وقمنا بقصه بدوره باستخدام المقص ايضا الى نصفين. فهل نستطيع ان نكرر هذه العملية الى مالا نهاية؟ كانت اجابة الذريين على هذا السؤال لا. فبامكاننا تكرار عمليات القص حتى نصل الى الذرة بحد اقصى. وهي اقل طول ممكن فى الكون. وهى غير قابلة للتنصيف. وكلمة ذرة بالاغريقية هي atomos وترجمة هذه الكلمة حرفيا تعني الغير قابل للتقسيم. اى ان حل الذريين لمفارقة زينون كان عن طريق ابعاد الصفر من الوجود. وفى عصرنا الحديث نصل الى موقف مشابه.

تقوم الفيزياء الحديثة على عمودين: النظرية النسبية ونظرية الكم. ولكن المشكلة ان هاتين النظريتين متناحرتان ومتنافرتان من الاساس. فالنظرية النسبية تقوم على عالم الزمكان المتصل واللذى لا انفصال فيه. بينما عالم الكم يرفض العالم المتصل ويرى الكون على انه قفزات كمية لا اتصال فيه. وهذا الموقف يشبه الخلاف اللذى نشأ بين الرياضيين فى القرن التاسع عشر بل ولايزال قائما حتى الان. فالبعض يرى عالم الرياضيات كانه عالم الهندسة المتصل بينما البعض الاخر يرفض هذه الرؤية ويرى عالم الرياضيات الحقيقى هو عالم الجبر بارقامه المنفصلة. وليس هذا الخلاف الوحيد فنتائج النظرية النسبية حتمية ومحددة. بينما نتائج نظرية الكم قائمة على حساب الاحتمالات. ولذلك كان البرت اينشتاين يعترض على نظرية الكم مع انه كان احد ابائها الاول ويقول قولته المشهورة: ان  الله لايرمى حجر الزهر. وكان رد نيلس بور عليه وهو احد اقطاب العلماء فى المعسكر المخالف له: كف يا البرت عن تحديد ماللذى يفعله الله او لا !!

لكن استطاع علماء الفيزياء بشكل برجماتى من تذليل النظريتين لتحقيق اهدافهم. فالنظرية النسبية تفسر قوة الجاذبية بينما نظرية الكم تفسر الثلاث قوى الباقية: القوة الكهرومغناطيسية والقوة النووية الضعيفة والقوة النووية القوية. او بتعبير اخر فان النظرية النسبية تعنى بعالم الاجسام الكبيرة ذات الكتل المعتبرة والمسافات البعيدة واللتى قد تصل الى ملايين السنوات الضوئية او ما يعرف Macrocosm اما نظرية الكم فهى تهتم بعالم الذرة وما دونها او ما يعرف ب microcosm . ولكن مع ذلك فان هناك حالات حرجة تقع على خط التماس بين العالمين السابقين. فمثلا الثقب الاسود هو من حيث كتلته الهائلة ينتمى بلاشك الى عالم النظرية النسبية ولكن من حيث حجمه اللذى يبلغ الصفر فانه ينتمى الى عالم نظرية الكم. ولذلك تعجز كل نظرية على حدة من التعامل مع الثقب الاسود. بل لا بد من تضافر  جهود النظريتين معا لحل هذا الموضوع. ونجد انه فى حالة اخرى وهى لحظة بداية الانفجار العظيم فان كلا النظريتين تفشلان فى سبر اغوار هذه اللحظة. ولذلك فان هناك رغبة عند الفيزيائيين منذ امد ليس بقصير باكتشاف نظرية جديدة توحد بين النظريتين السابقتين وتزيل التناقض بينهما وتفسر ما هو مفسر الان بالفعل وتزيد عليه حل الالغاز الباقية حتى اليوم. ويطلق على هذه النظرية اسم فيه بعض من الفكاهة وهو نظرية كل شئ.

ونظرية الاوتار الفائقة هى مرشحة لشغل دور هذه  النظرية الموحدة او نظرية كل شئ. ولا تظهر فى نظرية الاوتار الفائقة تلك المشاكل اللتى واجهت نظريتي النسبية والكم. ذلك لان نظرية الاوتار الفائقة تتجنب مصادر المشاكل فى النظريتين السابقتين وتتبع مبدأ الوقاية خير من العلاج. فبداية المشاكل فى الفيزياء تأتى دائما من المالانهاية. فتلك هى الكمية اللتى لا تستطيع معظم نظريات الفيزياء ان تجد لها تفسيرا او تأويلا مناسبا. اما ماعدا ذلك من القيم فان الفيزياء تتعامل معها بسهولة. سواء كانت هذه القيم اعداد سالبة او مركبة فلا توجد اي مشكلة. وبوابة المالانهاية هى دائما الصفر. فاذا لم يكن هناك صفر فلن نحصل على مالانهاية. ولذلك  تلغى نظرية الاوتار الفائقة عمليا الصفر وتقول ان هناك طول معين وهو طول بلانك وهو اقصر طول ممكن فى الفيزياء. و لا معنى لوجود اي طول اصغر منه. وهذا الطول صغير جدا جدا ولكنه اكبر من الصفر. فهو يساوي تقريبا 1.6×10^-33 سم. كما ان هناك زمن بلانك وهو زمن ضئيل جدا ولكنه اكبر من الصفر و لامعنى لفترة زمنية اقل من زمن بلانك. ويساوي زمن بلانك 5.4×10^-44 ثانية. كما ان هناك كتلة بلانك. الى اخره.!!

ولتوضيح ذلك بشكل ادق دعونا نرى مثالا من ميدان نظرية الكم يتعلق بتحديد كتلة الالكترون و شحنته. فنظرية الكم هى انجح نظرية فيزيائية ظهرت فى التاريخ حتى الان. ونتائجها تتميز بالدقة الرهيبة. لكن العلماء واجهوا مشكلة معقدة عندما حاولوا حساب كتلة الالكترون او شحنته وفقا لمعطيات نظرية الكم. وكتلة الالكتروة وشحنته معروفتان من اكثر من قرن تقريبا من التجارب المعملية. وسوف يكون شيئا رائعا لو تطابقت النتائج اللتى تحسبها النظرية مع النتائج العملية اللتى نعرفها. لكن نتيجة الحسابات النظرية كانت محبطة. فنظرية الكم تقول ان الفراغ ملئ بالجسيمات الافتراضية  اللتى تولد وتختفى باستمرار. وتقول ايضا ان الالكترون الحقيقي يبقى مختبئا خلف تلك الجسيمات الافتراضية اللتى تتولد فوق سطحه.  فلو تخيلنا ان لدينا مجسا او ابرة دقيقة نلمس به الالكترون فسوف يرصد اولا تلك الجسيمات الافتراضية. ويجب علينا ان  ندفع هذا المجس للداخل باستمرار حتى نصل الى قلب اللالكترون. وعلى طول طريقنا حتى قلب الالكترون فاننا سوف نصادف جسيمات افتراضية لها شحنة وكتلة تزيف من قيم الالكترون الحقيقية وتعطيه قيما اكبر من حقيقته. لكن ما هى كتلة الالكترون وشحنته اللتى نحسبها عبر هذه الطريقة؟ وجد العلماء اننا عندما نغرس هذه الابرة فى جسم الالكترون حتى مسافة معينة نحصل على قيمة ممتازة جدا وتساوى القيمة اللتى نحصل عليها من القياس العملي. لكنن كلما تتوغل الابرة الافتراضية بداخل الالكترون فان الكتلة والشحنة تزيدان حتى تصل كتلة الالكترون وشحنته الى مالانهاية!!

وهذه نتيجة محبطة جدا وغريبة جدا. وتوصل الفيزيائى الامريكى فاينمان الى طريقة تمكنه من حساب كتلة الالكترون وشحنته و لا تعطى مالانهاية بحيث اننا نتوقف فى توغلنا بالمجس فى داخل الالكترون الى حد معين. وقد حصل فاينمان على جائزة نوبل لذلك الاكتشاف. لكن نظرية الاوتار الفائقة تحل هذه المشكلة بمنتهى السهولة. او بمعنى احرى فان هذه المشكلة لا تظهر فيها اساسا. فمشكلة نظرية الكم انها تعتبر ان الجسيمات الاولية كالالكترونات  لها كتلة ولكن حجمها صفر. فهى اشبه بنقاط. وهى هنا تشبه ثقب اسود  صغير. فالثقب الاسود له كتلة ولكن لا حجم له!! اما نظرية الاوتار الفائقة فتقول ان الالكترونات ليست نقاطا لا ابعاد لها. بل هى عبارة عن وتر ذي طول معين وهو طول بلانك. وهذه الاوتار تهتز وينتج عن اهتزازاها كل الظواهر الفيزيائية اللتى نعرفها. وكذلك فان باقى الجسيمات الاولية الاخري عبارة عن اوتار مهتزة ذات ابعاد صغيرة جدا. وبعض هذه الجسيمات تكون ذات بعد واحد وبعضها له اكثر من بعد. لكنها فى النهاية ليست نقاطا بلا ابعاد وليست اصفارا.

وبهذه الطريقة وبتجنب نظرية الاوتار الفائقة للصفر فان النظرية تخلو من كل تلك المشاكل اللتى تعانى منها نظريتا الكم والنسبية. وتستطيع النظرية ان توحد بين قوة الجاذبية وباقى القوي الثلاتة. و لاتحتوي النظرية على اى تنافر او تناقض بين اجزاءها.

لكن مع ذلك فان نظرية الاوتار الفائقة لها مشاكلها. اول هذه المشاكل ان نظرية الاوتار الفائقة تفترض ان عالمنا مكون من 10 ابعاد. وليست 4 كما تقول النظرية النسبية. بل ان احدى النظريات المنبثقة من  نظرية الاوتار الفائقة تقول ان عدد الابعاد هو 11. لكن ماذا عن هذه الابعاد الاضافية؟  وما معناها ؟ ولماذا لانشعر بها؟ و الا يعد هذا تناقضا مع الواقع القائم؟

اما عن هذه الابعاد الاضافية بخلاف الابعاد المكانية الثلاثة والبعد الزمنى فاننا  لا يمكننا ان نتخيلها . فهى ابعاد تفترضها النظرية الرياضية ولكنها لا تستطيع ان تعطى لها تصور حسى مباشر. وتقول النظرية اننا  لانشعر بهذه الابعاد الاضافية لانها  محصورة فى نطاق ضيق جدا. فمثلا سطح الورقة نقول عنه انه ثنائى الابعاد. مع انه فى الحقيقة ثلاثى الابعاد. فالورقة لها عمق وسمك ايضا. لكن نظرا لان سمك الورقة صغير جدا بالنسبة للبعدين الاخرين: الطول والعرض فاننا نقول عن الورقة انها ثنائية الابعاد. ولكى نتعرف على البعد الثالث للورقة فعلينا استخدام ميكروسكوب او عدسة مكبرة وهنا سوف نلاحظ هيكل الورقة الحقيقى الثلاثى الابعاد.

وهنا نصل الى المشكلة الثانية وهى مشكلة اكثر خطورة من المشكلة الاولى. فموضوع الابعاد الاضافية صحيح انه امر غير مريح ولكننا يمكننا تقبله على مضض. ولكن لكى نقبل اي نظرية فيزيائية فلابد وان تستوفى شروطا معينة. والفيزيائيون فى غاية الصرامة عند تقبلهم لنظريات جديدة. اول هذه الشروط ان تستطيع النظرية الجديدة ان تفسر كل النقاط اللتى تفسرها النظريات القائمة. وطبعا كما رأينا فان نظرية الاوتار الفائقة تستطيع ان تتخطى هذا المعيار بكل راحة فهى تعطى كل نتائج النسبية والكم وبنفس الدقة.

لكن تفسير الواقع القائم ليس الشرط الوحيد. بل ينبغى على اي نظرية علمية من عمل تنبؤات جديدة وحصرية يمكن اختبار صحتها. ومن هنا نحدد ان كانت هذه بالفعل نظرية محترمة ام انها مجرد غثاء. ونظرية الاوتار الفائقة تقدم فعلا تنبوءات وتقرر حقائق فيزيائية. لكن هذه التنبوءات والحقائق لا يمكننا اختبارها بتكنولوجيا عصرنا. فكما سبق وذكرنا فلكى نكتشف البعد الثالث لورقة كتاب فعلينا استخدام عدسة مكبرة او ميكروسكوب. والميكروسكوبات المكبرة فى الفيزياء الحديثة هى المعجلات الرهيبة . وهى عبارة  عن انفاق بالغة الطول بعشرات الكيلومترات. وفى هذه الانفاق يتم تعجيل الجسيمات الذرية بسرعات عالية وجعلها تتصادم مع بعضها. او ماشابه ذلك. ومن خلال هذه الطاقة الرهيبة نستطيع ان نتعرف على العالم الصغير المختبئ خلف هيكل الذرة. ولكن لكى نختبر ما تقرره نظرية الاوتار الفائقة من حقائق جديدة فان الطاقة اللتى نحتاجها لا يستطيع ان يوفرها نفق طوله 100 كيلو متر او حتى نفق طوله مليون كيلو متر, بل ان اهون النتائج تحتاج منا الى معجل طول نفقه 10 الاف مليار كيلو متر!! ولو تخيلنا ان الجسيمات المعجلة تجرى بسرعة الضوء. فان  جسيم واحد سوف يحتاج الف سنة حتى يعبر هذا النفق!!

ومن هنا فان بعض العلماء يرفض نظرية الاوتار الفائقة كلية. ويعتبرها نظرية فلسفية وليست نظرية فيزيائية. وهنا نعود الى بداية الموضوع والى فلسفة الذريين. وما اشبه اليوم بالامس!!

 

4 thoughts on “نظرية الاوتار الفائقة وتجنب الصفر

  1. ” فبداية المشاكل فى الفيزياء تأتى دائما من المالانهاية. فتلك هى الكمية اللتى لا تستطيع معظم نظريات الفيزياء ان تجد لها تفسيرا او تأويلا مناسبا.”
    هذه الجملة وردت في هذا المقال الجميل وأن المالانهاية تظهر في نظريات رهيبة في دقتها ووصفها للواقع.
    يقول الله تعالى في كتابه العزيز ( سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق ).
    ومن أسمائه وصفاته تعالى (الأول ) فلا شيء قبله و ( الآخر ) فلا شيء بعده و هو الأكبر فلا أكبر منه وهكذا بقية أسمائه وصفاته وكلها تدل على أنها صفات لا نهائية.
    وبما أن هذه النظريات الرهيبة في دقتها ووصفها للواقع نقبل كل نتائجها على أنها صحيحة وهي الأساس المبنية عليه علومنا الحديثة وهي تشير في نتائجها إلى وجود المالانهاية أليست في الواقع تشير إلى وجود الله تعالى بصفاته اللامتناهية وهو التفسير المنطقي لظهور المالانهاية في هذه النظريات ولكننا نقبل كل نتائج هذه النظريات ونعتبرها رهيبة في دقتها ووصفها للواقع ثم نرفض إشارتها إلى وجود الله تعالى وأن وجوده أمر حتمي فما يعتبر مشكلة المالانهاية في هذه النظريات لعدم فهم دلالاتها هي في الواقع يمكن تفسيرها ببساطة أنها تشير إلى حقيقة وجود الله بصفاته وكمالاته المطلقة واللانهائية.

Leave a Reply