نصل اليوم الى محطة جديدة فى رحلتنا مع قصة الصفر. وقصة الصفر هي موضوع له جوانب متعددة: تاريخية وفلسفية وفنية ورياضية … الى اخره. وقد تعرفنا فى المرات الماضية على بعض امثلة لهذه الجوانب. و اليوم سنتعرف على جانب جديد من قصة الصفر وهو الجانب العلمى او الفيزيائى على وجه التحديد.
لم يكن للصفر تأثير كبير فى بداية الامر على تطور الفيزياء. وهذا الامر يعتبر منطقىا اذا راعينا ان هدف الفيزياء هو وصف الواقع القائم وشرح الكيفية اللتى تتم بها احداثه. اما الرياضيات فليس مجالها الواقع القائم ولكن مجالها هو التأملات اللتى يستطيع العقل البشري ان يتصورها ويعقلها بشكل منطقى. واكتشاف الصفر لم يكن مرتبطا بالواقع وحتى انه تم اكتشافه متأخرا عن باقى الاعداد الطبيعية بالاف السنوات. فالانسان لا يهتم مثلا بعد ابقار غير موجودة و لايذهب للسوق ليشترى صفرا من الاسماك. وكان الهنود هم اول من اكتشف الصفر بعد ان تعاملوا مع الرياضيات بصورة مجردة وعزلوا الرياضيات عن الواقع على عكس ما كان يفعل الاغريق. لكن مع تطور الفيزياء وارتباطها بشكل قوى بالمعادلات الرياضية اصبح الصفر ظاهرة شاذة في الفيزياء. واذا سبقنا الاحداث في موضوع اليوم فيمكننا ان نقول ان الصفر غير منسجم مع فيزياء اليوم و اذا ظهر فان وجوده يصنع مشاكل خطيرة. وسنتعرض اليوم لظاهرة فيزيائية هامة وهى ظاهرة الحرارة.
يتعلم التلاميذ فى المدارس ان الاجسام تتمدد بالحرارة وتنكمش بالبرودة.وهذا هو مفتاح موضوع اليوم. وتمكن الفيزيائون فى نهاية القرن الثامن عشرمن ايجاد علاقة رياضية تربط حجم الغازات بدرجة حراتها وذلك عند ثبات الضغط. وقام الفرنسى جاى لوساك Joseph Louis Gay-Lussac باعطاء هذا القانون شكله النهائي فى بداية القرن التاسع عشر. ويقول هذا القانون انه عند ثبات الضغط الخارجي فان حجم الغاز يتناسب طرديا او خطيا مع درجة حرارته. وانه كلما زادت درجة حرارة الغاز بمقدار ثابت كلما ازداد حجمه ايضا بمقدار ثابت و العكس صحيح.
وهنا قد يظهر سؤال لماذا اختص القانون بالغازات فقط. والاجابة تتلخص فى ان للحالة الغازية خاصية هامة تتميز بها عما سواها من الحالات. حيث تتمتع جزيئات المادة فى الصورة الغازية بحرية حركة لا تتمتع بها فى الصورتين السائلة و الصلبة. وهذا يجعل دراسة تأثير مؤثر خارجى كالحرارة او الضغط اكثر سهولة. بينما فى الصورتين السائلة والصلبة تكون حركة جزيئات المادة مكبلة بتأثير جاراتها من الجزيئات عليها مما يزيد الدراسة صعوبة. وقد قام لوساك بنفخ بالونة من غاز بحيث اخذت حجما معينا. ثم قام بتسخين البالونة فازداد حجمها . و الغريب فى تجربة لوساك انها لا تعتمد على نوع الغاز المستخدم. فسواء اذا ملأ البالونة بغاز الاكسوجين او الهيدروجين او النتروجين فان البالونة تسلك نفس المسلك تماما. ويزداد حجم البالونة بنفس المقدار عند رفع درجة حرارتها 10 درجات مئوية مثلا. وهذا طبعا بشرط اجراء التجربة عند نفس الضغط الجوي وبنفس الحجم الابتدائي.
لكن مالفت نظر الفيزيائيين فى القرن الثامن عشر هو عملية التبريد. فاذا بردنا الغاز فان حجمه سيقل . واذا واصلنا التبريد فان الانكماش سيتواصل. واذا مددنا خط العلاقة على امتداد طوله كما بالرسم سنجد اننا عندما نبرد غازا ما حتى درجة سالب 273.15 مئوية فان حجمه سيصبح صفرا!. واذا بردناه اكثر من ذلك سيصبح حجمه سالبا!!!. ولكن هذا الامر يحتاج منا الى وقفة.
فالامر الاول ادرك فيزيائيو القرن الثامن عشر باستحالة ان يصبح حجم الغاز سالبا. بل حتى من المستحيل ان يتلاشى حجم الغاز ويصبح صفرا. اذن ادرك الفيزيائيون استحالة وصول غاز الى هذه الدرجة من البرودة وقالوا انه قبل ان يصل الغاز الى هذه المرحلة فانه لابد وان يوقف عملية الانتحار هذه فيتخلى عن الحالة الغازية قهرا ويتحول الي صورة سائلة او حتى صلبة!!
والامر الثانى ان درجة الحرارة هذه او سالب 273.15 مئوية تمثل معنى فيزيائيا حقيقيا وانها تمثل الصفر الحقيقى او الصفر المطلق اللذى يتلاشى عنده حجم اي غاز. وادركوا ان اختيار الصفر المئوي العاديى كان اختيارا فاشلا. فهو كان مجرد اختيار عشوائى يجعل درجة حرارة تجمد الماء هى نقطة البداية ويجعلها نقطة الصفر. فعلى رغم من اهمية الماء في حياتنا الا ان اختيار نقطة تجمد الماء للتعبير عن نقطة الصفر لقياس الحرارة اختيار فيزيائى غير سليم. فلماذا مثلا لم نختر درجة تجمد عصير البرتقال؟ او درجة غليان الماء بدلا من درجة تجمده؟. كما ان درجة تجمد الماء ليست قيمة مطلقة فهى تعتمد على الضغط الجوي فالماء يتجمد عند قمم الجبال وحيث يقل الضغط عند درجة حرارة اعلى من الصفر. بينما الصفر المطلق يعبر عن ظاهرة عامة لكل الغازات بغض النظر عن اسمها وبغض النظر عن قيمة الضغط الخارجى. ولذلك فتم اعتماد نظام جديد لقياس درجات الحرارة نستخدم فيه درجة الحرارة المطلقة وهى تساوي درجة الحراة المئوية زائد 273.15 او
T = t + 273.15
اذن ادرك الفيزيائيون فى القرن الثامن عشر ان الغازات لا يمكن ان تصل الى درجة الصفر المطلق. لكن ماذا اذن بعد ان تتحول الى سوائل او اجسام صلبة هل يمكن ان تنزل درجة حرارتها دون الصفر المطلق؟ الاجابة وجدها فيزيائيو القرن التاسع عشر وهى كما تتوقعون لا.
فى القرن التاسع عشر ظهر تخصصان فيزيائيان هامان وهما الميكانيكا الاحصائية و الديناميكا الحرارية. وتوصلت الميكانيكا الاحصائية الى سر ظاهرة الحرارة. فالحرارة ليست الا طاقة الحركة لجزيئات المادة. فجزيئات المادة بغض النظر عن حالتها سائلة ام صلبة ام غازية لا تبقى ثاتبة ولكنها تتحرك دائما. وحتى فى الحالة الصلبة فان الجزيئات تهتز حول مواضع اتزانها. وكلما ازداد اهتزازاها عنفا كلما ازدادت طاقة حركتها وكلما ظهر لنا ذلك على صورة حرارة. وبناء على ذلك فالصفر المطلق ليس مرتبطا بالحجم ولكنه درجة الحرارة اللتى تكون عندها طاقة الحركة لجزيئات المادة صفرا. وبهذا فانه حتى فى الحالة الصلبة فلا يمكن ان تقل درجة الحرارة عن الصفر المطلق. بل حتى تنبأت فيزياء القرن التاسع عشر ان درجة الحرارة لا يمكن ان تصل حتى الى الصفر المطق.
دعونا نقوم بالتجربة الذهنية التالية. دعونا نتخيل ان لدينا قطعة لحم وضعناها فى ثلاجة ثم نقوم بتبريدها حتى درجة الصفر المطلق. لكن حيث ان قطعة اللحم موجودة فوق ارضية الثلاجة اللتى تتكون من جزيئات ما. فستصطدم جزيئات الثلاجة بجزيئات قطعة اللحم مما يكسبها طاقة حركة و بالتالى حرارة! حتى لو افرغنا الثلاجة من الهواء وفرضنا ان بامكاننا تعليق قطعة اللحم فى الفراغ بداخل الثلاجة. فان قانون الثانى للديناميكا الحرارية يقول بان اى نظام فيزيائى ذو حركة دورية لابد وان يشع حرارة. اذن فالجزيئات الموجودة فى الثلاجة حيث انها تهتز وانها اعلى حرارة من قطعة اللحم فانه سيصدر منها اشعاع ينتقل فى الفراغ باتجاه قطعة اللحم مما يسبب فى ارتفاع درجة حرارتها. ومعنى هذا انه تكفى ان تكون فى اي مكان فى الكون النقطة درجة حرارته لا تساوي الصفر حتى يصدر منه اشعاعات ترفع درجة حرارة قطعة اللحم فى المثال السابق. اما قانون الديناميكا الحرارية الثالث فهو يقول بكل وضوح من المستحيل تبريد اى نظام الى درجة الصفر المطلق!!
اذن فقد قال الفيزيائيون فى القرن الثامن عشر باستحالة تبريد الغازات الى درجة الصفر المطلق بينما قال الفيزيائيون فى القرن التاسع عشر باستحالة ذلك على الاطلاق بالنسبة لكل صور المادة غازية او سائلة او صلبة. لكن ماذا قال الفيزيائيون فى القرن العشرين؟
فى القرن العشرين تأكدت حقيقة استحالة الوصول الى درجة الصفر المطلق بل ظهر دليل جديد على ذلك. ففى القرن العشرين ظهرت نظرية الكم. ومبدأ عدم الدقة لهايزنبرج هو احد اهم مبادئ هذه النظرية. ويفيد هذا المبدأ بما معناه بانه من المستحيل ان نحدد سرعة اى جسيم ومكانه فى نفس الوقت بصورة مؤكدة. و الوصول الى درجة الصفر المطلق يتعارض مع هذا المبدأ. لانه عند الوصول الى درجة الصفر المطلق فان جزيئات المادة تتوقف عن الحركة تماما. وبهذا تكون سرعتها محددة تماما وتساوي صفر. اما مكانها فمن الممكن تحديده بدقة شاملة حيث انها ثابتة فى مكانها لاتتحرك. لكن هذا يتعارض مع مبدأ عدم الدقة. اذن فالوصول الى درجة الصفر المطلق هو عملية غير ممكنة.
اما فى القرن الواحد والعشرين فان هذه الحقيقة ازدادت تأكدا واستطاع العلماء فى المختبرات الوصول الى درجات حرارة منخفضة جدا. ولكنها بالطبع لا تزال اعلى من الصفر المطلق. وعندما تصل درجة الحرارة بالقرب من الصفر المطلق فنرصد ظواهر عجيبة جدا. فعند درجة الحرارة هذه نحصل على موصلات فائقة التوصيل كما تظهر ظاهرة اينشتاين بوز. لكن هذا موضوع اخر لايتسع له المكان هنا.
الخلاصة انه فى ميدان الحرارة لامكان هناك للصفر!!.
موضوع بغاية الروعة …. ولكن جوهر الموضوع الذي يجب ان يفهمه جميع الباحثين … ماهي هذا الظواهر التي تحدث عن الوصول الى الصفر المطلق … وهنا وبهذا الموضوع اهمل هذا الجوهر الثمين … وسأعطي هنا نبذة مختصرة عن الموضوع …
الصفر المطلق؛ مكان قارص البرودة لا يمــكن
للعالم الذي نعرفه أن يتواجد فيه، تدفق كهربائي من دون مقاومة، فيه تتحدى السوائل
الجاذبية وتنخفض سرعة الضوء فيه إلى 38 ميل للساعة…
Pingback: مجموعة نون العلمية – الصفر المطلق ( البرودة المستحيلة )