اليابان في الحرب العالمية الثانية

باليابان نختتم سلسلتنا حول الدول المشاركة فى الحرب العالمية الثانية. وبالرغم من شهرة أسم اليابان فربما يكون الكثير من تفاصيل تاريخها مجهول بالنسبة لنا وربما تكون معرفتنا باوروبا والغرب أدق وأعمق. ولا شك ان لهذا منطقيته. فمن الناحية الجغرافية اوروبا هي الأقرب لنا. فما يفصل اسبانيا عن المغرب هي كيلومترات بسيطة. وتركيا وليدة الدولة العثمانية وماتبقى منها تقع فى اوروبا كما أنها تقع فى اسيا. ومن الناحية التاريخية فلنا تاريخ مفعم مع اوروبا سواء سلما أو حربا. فسلما لنا معاملات تجارية معها منذ زمن الفينيقيين قديما مرورا بعهد المدن الدول في ايطاليا فى العصور الوسطي وصولا الي زمننا الحديث اليوم. وحربا نذكر الغزو الرومانى والحروب الصليبية ثم الأستعمار الغربي. بينما ليس لليابان نصيب من كل هذا. فلا هى قريبة منا جغرافيا ولا يوجد لنا تداخل تاريخى عميق معها. مع ذلك فهناك الكثير ما يربطنا بها. وكما يقول المثل يبقى الشرق شرقا والغرب غرب.

وانطلاقا من فرضية ان قصة اليابان مجهولة بشكل كبير لنا فدعونا نتعرف عليها من الداخل والخارج. أعني ماكان يدور بداخل عقول اليابانيين وما أحاط باليابان من ظروف طبيعية ومقدرات مادية فى زمن الحرب العالمية الثانية.

اما عن افكار اليابانيين ومعتقداتهم فمعظم اليابانيين يدينون بالديانة البوذية اما الديانة الرسمية للدولة فهى الشنتو. وهى ديانة كما يقول الخبراء يصعب تمييزها عن البوذية. فكثير من المفاهيم مختلطة ومشتركة هنا وهناك. لكن اهم ما يميز الشنتو عن البوذية هى انها ديانة يابانية خالصة كما انها تتميز بعبادة الأسلاف. ولذلك كان من المنطقى اختيارها من قبل القيادة السياسية لتكون الديانة الرسمية للدولة.  فعبادة الأسلاف كانت مقدمة مناسبة لتأليه العائلة الأمبراطورية ثم  تأليه الأمبراطور نفسه بعد ذلك. ويمكننا ان نقول ان هناك ثلاث مسلمات شكلوا عقيدة الشعب اليابانى فى زمن الحرب العالمية الثانية

أول هذه المسلمات هى تأليه الأمبراطور. وعلينا ان نلاحظ ان تأليه الأمبراطور فى اليابان اليوم له معنى مجازي فقط. اما فى زمن الحرب العالمية الثانية فقد كان هذا المعنى حقيقيا. وكانت اشرف حياة وأعظم ميتة يلقاها شخص يابانى هو ان يموت شهيدا فى سبيل الأمبراطور. وكانت العقيدة المعلنة للجيش اليابانى هى تأهيل المقاتلين للموت فى سبيل الأمبراطور. وكان أول طلب يطلب من المنضم الى الجيش هو ان يقوم بتحرير وصيته. وكان اليابانيون يقولون للأوربيين لايمكنكم ان تنتصروا علينا فنحن نحب الموت كما تحبون الحياة.

أما المسلمة الثانية فهى ان الأمة اليابانية هى خير أمة. فهي كذلك فى الحاضر وكذلك كانت فى الماضى وكذلك سوف تبقى فى المستقبل.

اما المسلمة الثالثة فهى ان الجندي اليابانى هو افضل جندي على وجه الأرض. وان اليابان لايمكن ان تنهزم او يتم احتلالها عسكريا أبدا.

اما من ناحية المقدرات المادية لليابان فكانت قليلة جدا. فليس لليابان من مصادر الثروة الطبيعية الا القليل فى حين ان جميع جيرانها أغنياء من هذه الناحية. واذا تخطينا الثروة المادية الى القوة الناعمة فلن نجد لها ايضا اي اثر. فلم تكن اليابان دولة علمية لها علماء او مفكرون او فلاسفة بارزون فى ذلك الوقت. كما انها لم تكن دولة صناعية بالمعنى الحقيقى للكلمة.  فقد كانت اقرب الى الدول الزراعية. صحيح انه كانت هناك محاولات لأصلاح اليابان لكنها لم تتم الى نهايتها ولذلك لم تكن اليابان فى زمن الحرب العالمية الثانية دولة متطورة. دعونا الأن نرى تاريخ اليابان قبيل الحرب العالمية الثانية.

فى التاريخ البشرى تم ارتكاب كثير من الجرائم تارة باسم الدين وتارة اخرى بأسم الوطنية. وفي حالة اليابان كانتا الحالتان متجمعتين معا. فكان اليابانيون يرون لأنفسهم دون سواهم افضلية مطلقة وانهم يستحقون كل شئ وغيرهم لا يستحق اى شيئ. لذا قامت اليابان باستعمار كوريا منذ فترة بعيدة منذ عام 1910. ولم يتم تحرير كوريا من قبضة اليابان الا بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية. اما في زمن الحرب العالمية الأولى فلم ترع اليابان الا مصالحها. صحيح أنها  لم تكن طرفا مباشرا فى تلك الحرب. لكنها بمجرد ان لاحظت المحنة الألمانية فى تلك الحرب حتى قامت باحتلال جزرا كانت المانيا قد أستأجرتها من الصين تماما كما أستأجرت المملكة المتحدة هونج كونح. ولم تقدم اليابان اى سبب  قانوني لاحتلال تلك الجزر عوضا عن رفع شعارات مثل اسيا للأسيويين. ذلك الشعار اللذى استخدمته اليابان فى الحرب العالمية الثانية بعد ذلك كثيرا.

وعندما انتهت الحرب العالمية الأولي كانت اليابان من اكبر المستفيدين من تلك الحرب. لكن سرعان ما عصفت بها ازمة عالمية جديدة وهى الأزمة الأقتصادية العالمية فى ثلاثينيات القرن الماضى. واثار هذه الازمة فى حياتنا المعاصرة هامة جدا وان كان ذلك غير معلوم للكثيرين منا للأسف. وكانت اليابان من أكثر الدول تأثرا بتلك الأزمة وبحثت القيادة السياسية اليابانية عن حل لمعضلتها الاقتصادية المستعصية فوجدت ان الحل يكون عن طريق الغزو وان تتحول اليابان الى دولة عسكرية.  وبذلك أختلط في اليابان كوكتيل خطير من عوامل الفشل. فأصبحت اليابان دولة داعشية عنصرية عسكرية. فكانت شعب يتمسك بايديولوجيا جامدة ويرفض ان يرى حقائق زمنه.  ومجتمع يرى العيب في سواه ويرفض ان يرى عيوب نفسه. ودولة تقدم العسكريون فيها الصفوف وتراجع فيها السياسيون وترفض ان تعطي المسئولية الى الكفاءات فيها. وسيطر العسكريون على كل مفاصل الحياة في اليابان. حتى التربية والتعليم ووسائل الأعلام اصبحت كلها فى قبضة الجيش. واصبح الأيمان بالقوة والغصب هو الدين اليابانى الجديد واصبح الجدير بالمجد كل من كان جبارا حتى ولو كان شقيا. وان تكون جارا لليابان فى ذلك الوقت كان فى حقيقة الأمر نكبة وبلاء يبتلي به المرء.

كانت البداية مع شعب سيئ الحظ وهو الشعب المنغولي وهم احفاد جنكيز خان. لكن تدهور بهم الحال واصبحوا دولة متخلفة وجيشا ضعيفا ومطمعا لكل الأطراف. والشعب المنغولى موزع اليوم بين ثلاث دول هم روسيا ومنغوليا والصين. والأراضى المنغولية مليئة بالثروات الطبيعية فغزتها اليابان فى حرب مدانة دوليا وقامت باحتلالها. ورفضا للأعتراضات الدولية ضدها قامت اليابان بالانسحاب من عصبة الأمم المتحدة تلك المؤسسة السابقة لهيئة الأمم المتحدة الحالية وكان ذلك فى عام 1931

ثم سرعان ما أتت الضحية الثانية وهي الصين. فقد كانت الصين بفضل حالة العزلة اللتى فرضتها على نفسها قد تخلفت جدا. فاستغل اليابانيون حادث حدودي هم افتعلوه وبدون انتظار أي تحقيق قاموا باجتاح الصين فى حرب شهيرة تعرف بحرب معبر ماركوبولو وقام الجنود اليابانيون بارتكاب مذابح مروعة بحق المدنيين الصينيين وسالت الدماء انهارا وتم قتل حوالى 250 الف مدنى فى ايام قليلة واثارت هذه المجازر قلق العالم لدرجة ان هتلر نفسه ابدي انزعاجه من هذا الهوس الغير مبرر باهدار الدماء وعرض وساطته لحل الأزمة وكان ذلك فى عام 1937

كما سبق وذكرنا فقد افادت الحرب العالمية الأولي اليابان كثيرا فمن ننائج تلك الحرب ان عدوها اللدود دولة روسيا القيصرية قد انتهت تماما وخلفتها دولة الأتحاد السوفيتى اللتي سقطت فى مستنقع حرب اهلية استمرت لسنوات قبل ان يتم حسم الأمر لصالح البلشفيين. وفى خلال تلك الفترة كانت يد اليابان حرة تصنع ماتشاء. وظنت اليابان ان الفرصة ملائمة لمحاربة الأتحاد السوفيتى وونزع انتصار منه لكن اليابان تعرضت لهزيمة ثقيلة من قبل قوات الاتحاد السوفيتى. وبعد عشرة اشهر من مهاجمة الأتحاد السوفيتى عاود اليابانيون الكرة مرة أخرى. لكنهم مرة ثانية لقوا هزيمة ثقيلة تعلموا بعدها ان عليهم ان يتريثوا والا يتسرعوا اذا فكروا مرة اخرى وحاولوا مهاجمة الأتحاد السوفيتى. لكن هذه الهزيمة دفعت اليابان للتقرب من المانيا وايطاليا . فكانت هذه نواة تشكيل تحالف دول المحور بعد ذلك.  لكن هذه السياسة اليابانية العنيفة جعلت الغربيين يشعروا بالقلق منها ففرضوا عليها العديد من العقوبات الأقتصادية.

وعندما بدأت الحرب العالمية الثانية كانت اليابان متورطة حتى ذقنها بالفعل فى حروب اسيوية خاصة ضد الصين. وشعر اليابانيون عموما بالسعادة للأنتصارات اللتى حققتها المانيا وطالب الكثيرون بحذو حذوها وانتهاز الموقف وعدم تضييع الفرصة. ووقعت اليابان مع ايطاليا والمانيا معاهدة حلف دول المحور. كما انها وقعت مع الأتحاد السوفتيى معاهدة عدم  اعتداء. وأصبح اليابانيون فى حيرة بشأن الخطوة القادمة. هل تتصرف اليابان حسب رغبة البحرية بالتوسع باتجاه الجنوب ام تلبى رغبة الجيش وتتوسع باتجاه الأتحاد السوفيتى وفى كلتا الحالتين كانت الدول المعنية تعانى من هزائم قاسية ومتوالية من المانيا.

خريطة اسيا السياسية

ثم تعقد الموقف اكثر بعدما سمحت حكومة فيشى الفرنسية الواقعة تحت تأثير المانيا النازية للقوات اليابانية باستخدام مستعمراتها الأسيوية كقواعد عسكرية. فشكل هذا  خطورة على المستعمرات الأمريكية فى الفلبيين. مما دفع الولايات المتحدة الأمريكية لفرض حظر على تصدير البترول الي اليابان. ولم يكن امام اليابان وقت طويل للتصرف فلم يكن امامها الا شهور قليلة وينضب مخزونها الأستراتيجى من البترول. فقررت القيادة السياسية والعسكرية الاتجاه جنوبا والأستيلاء على مواقع البترول خصوصا فى اندونيسيا المستعمرة الهولندية وماليزيا المستعمرة الأنجليزية والفلبين المستعمرة الأمريكية. لكن المشكلة انه كنت هناك قواعد عسكرية انجليزية فى سنغافورة وقواعد عسكرية امريكية في بيرل هاربور في هاواي. ولم يكن من الممكن لليابان الأستيلاء على البترول ثم نقله الى سواحلها بدون ان تعترضها السفن الحربية الغربية الموجودة هناك.  فقررت اليابان ان تقوم بعملية عسكرية موسعة تشبه اذرع الأخطبوط تضرب فيها العديد من الأهداف فى نفس الوقت.  وبالفعل فى 7 ديسمير عام 1941  وجهت البحرية اليابانية ضرباتها الى مناطق متنوعة منها الى الأسطول الامريكى فى بيرل هاربور ودمرته تقريبا باستثناء حاملات الطائرات اللتى كانت فى ذلك الوقت ليست فى مرساها ولكن فى عرض البحر وبذلك نجت من التدمير. وكانت نتيجة تلك الضربة هى دخول الولايات المتحدة الأمريكية الحرب العالمية الثانية بصورة مباشرة كما رأينا المرة الماضية.

كانت البداية ناجحة جدا بالنسبة لليابانيين في الستة الأشهر الأولى. كان الأدميرال الياباني ياماموتو ضد الهجوم على الولايات المتحدة الأمركية من البداية. وقال ان اليابان سوف تحقق الأنتصار تلو الأنتصار لكنها لن تستطيع ان  تحافظ على تلك الأنتصارات سوى لعام واحد على الحد الأقصى. لكن يبدو ان ياماموتو كان متفائلا فاليابان لم تستطع ان تحافظ على انتصارها سوى لستة أشهر فقط.

الانتصارات اليابانية

اذن البداية كانت بالنسبة لليابانيين اكثر من رائعة. لقد حققوا كل اهدافهم تماما. بل وتوسعوا في حروبهم فى الصين وأحتلوا جزيرة هونج كونج ودولة بورما. ووصلوا لحدود الهند وفكروا بزحزحة بريطانيا من هناك. كما وصلت فتوحاتهم العسكرية حتى استراليا وفكروا فى ضمها. لكنهم تلقوا اول هزيمة عسكرية هناك من الجيش الأسترالى المدعوم من الولايات المتحدة الأمريكية. وربما لم يكن اليابانيون حزينين بهزيمتهم فى غينيا الجديدة عند استراليا. فلقد كانوا أنفسهم قلقين كيف يمكنهم الدفاع عن هذه المساحة الواسعة اللتى سيطروا عليها. فقد كانت اليابان تسيطر على مساحة هائلة تقدر بخمس العالم.

الأسرى الاوروبيين

ووقع تحت ايدي اليابانيين مئات الألاف من الأسرى البريطانيين والأمريكيين والأستراليين والأسيويين. وكانت معاملة اليابانيين لهؤلاء الأسرى اجرامية. لم يكن اليابانى يحترم المستسلم. فالاخلاق اليابانية ليس فيها فقط انها لا تعتبر الأستسلام خيارا مطروحا بل أنها تعتبر المستسلم انسان عديم الشرف عديم النخوة عديم الكرامة. وكان  اليابانيون يتعجبون كيف لهؤلاء الجنود الغربيين واللذين يبدوا الواحد منهم وكأنه عملاق  بجوار نظيره اليابانيين كيف يستسلم هؤلاء العمالقة دون قتال؟.  فكانت معاملة اليابانيين لأسراهم سيئة جدا. أستعملوهم كالعبيد. سخروهم في الأعمال الشاقة كتعبيد الطرق وانشاء السكك الحديدية وبناء الجسور. ولم يعطوهم سوى الضرورى  فقط من الطعام والماء كي يبقوا احياء.  فهزلت اجساد الأسرى وهلك الكثير منهم. وهناك حوادث قام فيها الضباط اليابانيون باقامة مسابقات رياضية في  التنافس على من هو اسرع فى قطع رؤوس الأسرى بسيف السامواري وكأن قطع الرؤوس صار احد اشكال الرياضة. كان هناك خلاف حضاري فى وجهات النظر بين اليابانيين والغربيين فى تقييم عملية  الأستسلام.  يقول احد الظباط اليابانيين كنا نصاب بموجة ضحك هيسترية   كلما تحدثنا الى احد الأسرى الغربيين ونسأله عمن سينتصرفي الحرب. كانوا كلهم يقولون بلا استثناء ان بلادهم سوف تنتصر فى النهاية. وكانت هذه المقولة اطرف نكتة نسمعها. لم نستطع ان نفهم ما هذا التناقض؟! كيف يقول مستسلم انه سوب ينتصر!. أما عند الغربيين فان القائد المستسلم ليس جبانا ولكن على العكس هو انسان شجاع يضع كبريائه تحت حذائه  فى سبيل ان يحمى ارواح جنوده. وان من الأسهل على القائد العسكرى ان يجبن عن مواجهة الحقيقة  فيدفع بجنوده للقتال حتى النهاية فيكون كمن انتحر. وفى حروب الاوروبيين الطويلة مع بعضهم انشأوا قواعد لاستسلام الخصم. فهم يحرصوا على تحية القائد المستسلم بالتحية العسكرية بالطريقة اللأئقة وعدم كسر كرامته والتعامل معه كزميل مهنة كان يقوم بواجبه تماما مثل اسريه.

ومع ان الستة أشهر الأولى كانت لصالح اليابانيين فقد حدث فيهما تغيران نوعيان هامان. اولاهما ان الولايات المتحدة استطاعت كسر الشفرة اليابانية وبذلك اصبحت تحركات اليابانيين مكشوفة امام الأمريكيين تماما. اما الحدث الثانى فانه فى عملية رمزية ارسلت الولايات المتحدة الامريكية 12 طائرة حربية قذفت بقنابلها فوق العاصمة طوكيو. ومع ان هذه العملية كانت رمزية جدا خاصة اذا علمنا ان الطلعات الجوية الأمريكية فوق طوكيو لاحقا كانت بمئات بل بالألف وأكثر من الطائرات فنستطيع ان ندرك ان هذه العملية لم تكن اكثر من وخزة دبوس. مع ذلك فقد كانت لها قيمة معنوية هائلة. فقد اهتزت فكرة  ان اليابان لايمكن مهاجمتها فى عقر دارها حيث صحى اليابانيون ذات يوم والقنابل تتساقط فوق رؤوسهم . صحيح ان اليابانيين تعاملوا مع هذه الحادثة بعنف. حتى ان الطيارين الأمريكيين اللذين تم اسرهم قد تم تنفيذ حكم الأعدام فيهم علنا. مع ذلك دفعت تلك الحادثة اليابانين للتسرع فى الرد ومحاولة البحث عن الأنتقام والتخلى عن الحذر بعد ان خدرتهم انتصاراتهم السريعة السابقة. ومع كسر الشفرة اليابانية توجه اليابانيون الى مصيبة كبرى.

في 4 يونيو من عام 1942 توجهت القوات اليابانية لقضائها المحتوم نحو معركة ميدواي. وهذه المعركة تذكرنى فى جوانب كثير منها بحرب تكاد تشاركها فى تاريخ اليوم وان أتت متأخرة عنها بخمسة وعشرين عاما. وهى حرب يونيو من عام 1967 والمعروفة فى الأدبيات العربية بالنكسة والمعروفة فى الأدبيات الغربية بحرب الأيام الستة. والتشابه هنا ليس من ناحية تاكتيكات الحرب نفسها فاسرائيل اتبعت فى تلك الحرب تاكتيكات الحرب الخاطفة لألمانيا النازية. ولكن التشابه يأتى من نواحي اخرى سنراها سربعا.

اذن اتجه الأسطول اليابانى نحو المعركة الأخيرة من وجهة نظره لحسم الحرب فى المحيط وللأنتقام من الهجوم بالطائرات على طوكيو. لكن القوات الأمريكية كانت تعلم بالخطة اليابانية فقد كانت كسرت شفرة اليابان وكانت تنتظر اليابانيين فى ميدواي فلقد نصبوا لهم الفخ ودخله اليابانيون بمحض ارادتهم. وعندما أصبحوا حيثما ارادهم الأمريكيون تماما ففتحوا عليهم النيران من كل جانب ودمروا الأسطول اليابانى بالكامل ولم تبق اي حاملة طائرات يابانية الا وقد تم اغراقهم او تدميرها او اعطابها أو اصابتها. ولم يكن الطيارون الأمريكيون يفكرون الا فى شيئ واحد: كيف سيتمكنون من العودة بعد ان ينفذ منهم الوقود وهم يطاردون فلول السفن اليابانين لتدميرها. وبالفعل اضطرت الكثير من الطائرات الأمريكية للهبوط في المحيط فقد كانت مجهزة للهبوط فى البر او البحر. وبقت منتظرة هناك حتى مر الأسطول الأمريكي وأنتشلها. وفى يوم واحد فقدت اليابان اسطولها الجوى بالكامل تقريبا. وبذا تم نزع انياب النمر وأظافره. ولم يبق للنمر اليابانى سوى قبضته ليدافع بها عن نفسه. لم يعد لليابان اية قدرات هجومية . فقط كان على الأمريكيين ان ياتوا اليهم لكي يطردوهم من الأراضى اللتى أستولوا عليها. وكان على اليابانيين ان يدافعوا عن انفسهم فقط.

الغريب هنا ان الجيش الياباني اعلن لشعبه انهم قد حققوا انتصارا تاريخيا وانهم دمروا الأسطول الأمريكي تماما. واقاموا الاحتفالات فى الشوارع بهذا الانتصار العظيم. كان الشعب اليابانى المسكين يحتفل فى الشوارع لمقتل ابنائه لكن الجماهير كانت لا تعلم ذلك. حتى ان قائد الجيش اليابانى نفسه كان قد تم قتله فى تلك المعركة. فقط اعلن الجيش ان القائد البطل تمت اصابته اثناء قيامه بمجهوده البطولي. ثم بعد فترة اقاموا لها جنازة مهيبة مع انه كان قد تم قتله تم في اليوم الاول للمعركة اللتى استمرت 4 ايام فقط. اما الصحفيون اليابانيون المصاحبون للجيش فقد تم احتجازهم بشكل غير رسمى وتم منعهم من  العودة الى اليابان او الافصاح بأى شئ عما دار فى تلك المعركة.

الفارق بين الولايات المتحدة الأمريكية واليابان فى تلك الحرب هو ان الولايات المتحدة كانت دولة علمية وصناعية ولكنها لم تكن دولة عسكرية. فعندما ارادت ان تصبح دولة عسكرية حققت ذلك بكل سهولة ويسر. بينما كانت اليابان دولة عسكرية فعندما ارادت ان تتحول الى دولة علمية وصناعية لم تستطع. كانت الولايات المتحدة تستطيع ان تعوض خسائرها بسهولة ويسر. تفقد طائرة فتصنع عوضا عنها عشرة. بينما لم تكن الصناعة اليابانية كفوؤة بحيث تستطيع ان تعوض خسائرها. وليس هذا فقط. بل ان ذكاء العقول الأمريكية فى ذلك الوقت وقدرتها التطويرية والابداعية جعلت ان كل طائرة جديدة ليس كالطائرات القديمة. بل ان كل طائرة جديدة بعشرة طائرات قديمة. فالفارق رهيب بين الطائرات اللتى امتلكتها الولايات المتحدة فى نهاية الحرب العالمية الثانية وتلك اللتى كانت تمتلكها فى بدايتها.

اذن ابتدأ الزحف الامريكي نحو اليابان لتبدأ الحروب البرمائية لأخراج القوات اليابانية من المناطق اللتى كانت قد احتلتها. وكانت القوات الأمريكية عبارة عن اسطولين حربين مستقلين ومنفصلين ولهما قيادتان مستقلتان. بل وربما متنازعتان ايضا. الأشهرمنهما هو الجنرال ماكارثر واللذي كانت مهمته اعادة استعمار الفلبين بينما كانت مهمة القيادة الأخرى اعادة تحرير الجزيرالمتناثرة في المحيط حتى مهاجمة اليابان نفسها

من هذه اللحظة اصبح نمط الحرب الاسيوية روتينيا مككرا. يمكننا التلخيص وان كان مخلا بعض الشيئ أن خريطة اليابان الدفاعية يمكن تصورها كالتالى. كانت اليابان فى المركز يحيط بها طوقان دفاعيان يجب اختراقهما أولا حتى الوصول الى اليابان. وسأضرب هنا مثالا فقط بالأنزال البحري الأول.

كانت البداية مع جزيرة صغيرة تبعد الاف الكيلومترات عن  اليابان وتبلغ مساحة هذه الجزيرة 2.5 كيلومتر مربع ويقوم بحمايتها ثلاثة الاف جندي يابانى. بينما كان تعداد القوة الأمريكية المهاجمة 5 الاف. مع التفوق الجوى والتكنولوجى الأمريكي الرهيب قام الطيران الامريكى بقصف الجزيرة لمدة ثلاثة ايام متواصلة بالقنابل الحارقة حتى شاطت الصخور نفسها. وبعدما تم تدمير الجزيرة بالكامل ابتدأ الجنود الأمريكيون بالأنزال البحرى. وقال لهم قادتهم ان هذه سوف تكون اسهل عملية انزال بحرى فى التاريخ. لكن بمجرد اقتراب القوات الأمريكية من الجزيرة حتى أبتدأ القصف ينهال عليهم. فقد بقي الجنود اليابانيون مختبأين فى مخابئهم فى الجبال وتحت الأرض لمدة ثلاث ايام وبمجرد اقتراب القوات الأمريكية اللتى تفوقهم فى العدد والعدة والسلاح حتى ابتدأ قتال مع جنود لايعرفون الأستسسلام. فى النهاية كانت حصيلة المعركة كالتالى. قتل الثلاث الاف الجندي ياباني جميعهم تقريبا. حيث لم ينج منهم الا سبعة عشر بينما قتل من الأمريكيين الف وتمت اصابة الفين. تحولت الجزيرة الصغيرة الى مقبرة كبيرة تحتوى على اربعة الاف جثة. كانت رائحة الموت تنبعث من كل مكان. حتى يقول احد شهود العيان حتى مياه المحيط تغير طعمها واصبح مسكرا بطعم الجثث الملقاة فيه ولكنه سكر بغيض المذاق. وكانت الخسائر الأمريكية من هذه المعركة هائلة جدا. ففتح الكونجرس تحقيقا . فلم يكن احد يتوقع مع كل هذ التفوق البشري والمادي والتكنولوجى أن تنتج هذه الخسائر الهائلة. كان الجندي اليابانى يقاتل حتى الموت وان أستسلم فذلك يكون لسبب واحد فقط هو ان يفجر نفسه فى أسريه. وصدرت تعليمات شبه رسمية للجنود الأمريكيين بعدم الحاجة لأخذ اسرى فى تلك الحرب . فاولا كانت هناك النظرة العنصرية. فاليابانيين كانوا مجرد جنس اصفر عديم القيمة. كما انهم من ابتدأوا بالعدوان على الولايات المتحدة الأمريكية . ثم ان معاملتهم للأسرى الامريكيين كانت غير انسانية ومذلة. بالاضافة الى انهم كانوا يتظاهرون بالاستسلام ليقوموا بألانتحار وقتل المزيد من الجنود الأمريكيين . فكانت نتيجة الحرب فى المحيط عموما هى انها حرب بلا أسرى على عكس الحرب فى القارة الأوروبية.

واستمرت الحرب فى المحيط على هذه الوتيرة القاسية حتى تم طرد الجيش اليابانى من الجزر الموجودة في الطوق الثانى الأبعد. اما حروب الطوق الأدنى فلم يختلف الامر من حيث الكيف لكن الكم فقط قد تغير. فكانت جزر الطوق الأدنى تبعد فقط عشرات ومئات الكيلومترات عن الأراضى اليابانية. فان سقطت تلك اللجزر فستصبح جميع الأراضي اليابانية مستباحة من قبل الطيران الأمريكي وتكون اليابان قد خسرت الحرب عمليا. فكان عدد القوات المدافعة اكبر وكذلك زادت عدد القوات المهاجمة. ولم تعد ايام القصف والحرق والتدمير السابقة للهجوم ثلاثة ايام ولكن ثلاثة شهور . يقول احد الضباط الأمريكيين ولو أن هناك جهنم فلقد كانت هناك علي جزيرة اوكيناوا ولقد رأيتها. التغيير الوحيد اللذي طرأ هنا.ان القيادة اليابانية فكرت فى طريقة جديدة للأستفادة من طيرانها المتخلف واللذي لا قبل له بالطيران الأمريكي. فقررت ملأ الطيارات بالمتفجرات ثم الطلب من الطيارين التحول الى قنابل بشرية والأصطدام بالسفن الأمريكية. وفى كل مرة كان يتم طلب دفعة من الطيارين الأنتحاريين كانت هناك صفوف من الطيارين تسعى لنيل شرف الشهادة من اجل الأمبراطور. لكن هذه الحيلة لم تغير من مسار الحرب شيئا كبيرا وسقطت جزر الطوق الأدنى في ايدي القوات الأمريكية. واصبحت كل الأراضى اليابانية تحت رحمة الطيران الأمريكى اللذي لا يرحم.

طوكيو مدمرة

بلا مبالغة تم تدمير طوكيو بالكامل وتمت تسويتها بالأرض ولم يبق فيها منزلا واحدا قائما خصوصا تلك المبنية بالأخشاب. اما المبانى الخرسانية والمعدنية القليلة جدا فقد بقى بعضها. وتم قتل مئات الاف من المدنيين فى طوكيو وحدها فى دولة لاتملك اى وسيلة للدفاع الجوي. مع ذلك كان اليابانيون يرفضون الأستسلام حتى حدثت ثلاثة تغييرات نوعية خطيرة في العام الأخير من الحرب عام 1945. اولها هو وفاة الرئيس الأمريكى روزفلت وخلفه نائبه ترومان. كان روزفلت ذا شخصية قوية جدا. وكان الجميع من روس والمان ويابانيين يتسائلون كيف سيكون ترومان. فمن الصعب ان يتكرر شخصان لهما نفس هذه الشخصية القوية. وكان ترومان يعلم بهذا الامر. فتعمد اظهار الصلابة. لم يكن روزفلت شخصية لطيفة لكن ترومان كان يتعمد ان يكون وقحا حتى يهابه الأخرون. وحدث تغير ثانى خطير فى مايو من عام 1945 باستسلام المانيا . وكانت المانيا فى حقيقة الامر هى الرقم الصعب في الحرب العالمية الثانية وبخروجها منها فقد انتهت الحرب فعليا. فلم يكن لليابانيين نصيب من بأس المانيا العسكرى والتصنيعي المعجز. اما الأتحاد السوفيتى بعد خروج المانيا من الحرب فلم يعد يحترم الغرب نهائيا. كان الاتحاد السوفيتى محتاجا للغرب طالما كان يقاتل المانيا. فحينما خرجت كان لسان حال ستالين يقول كما فعل خروشوف بعد ذلك ياغرب انتم وحذائى واحد. وابتدأ لعاب الاتحاد السوفيتى يسيل حيال عدوه القديم اليابان. اللذي كان قد ترجاه ان يتوسط له فى معاهدة سلام او استسلام مشرف مع الغرب. كانت القيادة اليابانية تسعى سرا لانها كانت تخاف من ردة فعل شعبها وراء التفاوض من اجل استسلام مشرف يحفظ ماء وجهها. لكن الولايات المتحدة كانت ترفض دائما وتقول لا يوجد استسلام مشرف يوجد فقط استسلام كامل وغير مشروط وبلا مفاوضات. المفاوضات تأتى بعد الأستسلام.

اما التغير الثالت فقد كان امرا تاريخيا غير مسبوق. فقد طلب وزير الدفاع الامريكى مقابلة الرئيس الامريكى الجديد ترومان. وقال له سيدي الرئيس اعلم ان وقتك محدود ومهمتك عسيرة. وانا قد طلبت مقابلتك فور توليك السلطة فى امر هام والأن اطلب مقابلتك فورا فى امر فى غاية الخطورة ولا يحتمل اي تأجيل. وكان هذا الامر ان امريكا نجحت في تصنيع القنبلة النووية. قال وزير الدفاع لرئيس الجمهورية سيدي هناك سر انت لا تعلمه. فهناك مشروع سرى امر به الرئيس السابق روزفلت وانت لم تعلم به مع كونك كنت نائبا له وهو تصنيع القنبلة النووية. وقال وزير الدفاع ان القنبلة النووية سلاح خطير جدا ليس في الحرب فقط ولكن فى السلم ايضا. لانك  عندما تفاوض خصومك وعندك قنبلة نووية فان  الأمر يختلف عنه حينما تكون لا تمتلكها. لكن سلاح رهيب لا احد يعلم عن وجوده شئ لا تأثير له. ويجب ان يعلم الان العالم كله ان امريكا تمتلك القنبلة النووية.

القنبلة النووية

وبالفعل على هامش قمة عليا طلب ترومان من ستالين المقابلة على انفراد فى امر هام واخبره بامر القنبلة النووية وكان متلهف لرؤية تغيير تعبيرات وجه ستالين. لكن ستالين خذله وقابل الامر بلا مبالاة فقط اومأ برأسه وقال شكرا للمعلومة. ولا احد يعلم سبب رد فعل ستالين. هل كان فعلا يعرف ذلك السر مسبقا ام انه لم يفهم الموضوع تماما. وهنا قرر ترومان استخدام القنبلة النووية على اليابان وبدون  توجيه اى انذار مسبق بشان ذلك الأمر. وبالفعل فى 6 أغسطس من عام 1945 تم  القاء القنبلة الاولى فوق مدينة هيروشيما وفى 9 أغسطس تم القاء القنبلة  الثانية فوق مدينة نجازاكي. ولم ير اليابانيون بدا عن الاستسلام وخصوصا ان الامريكيين فى بيانهم الاخير لم يطالبوا بتنحية الامبراطور اللذي كان خطا احمر لدي اليابانيين حتى لو تم القاء مائة قنبلة نووية فوفهم. ثم تلى الامبراطور بيانا اذاعيا طلب فيه من الشعب اليابانى الاستسلام. وكان ذلك بيانا  غريبا حقا. فقد طلب الامبراطور من الشعب  الياباني التضحية وقبول الاستسلام ليس حفاظا على حياة الشعب اليابانى ولكن للحفاظ على الجنس البشرى برمته. وانتهت اسطورة ان اليابان لا يمكن احتلالها باحتلالها احتلالا مهينا من قبل الامريكيين وكان الحاكم الامريكى هو الجنرال ماركارثر.

في  النهاية وبفضل مشروع مارشال وصلت اليابان الي الحالة اللتى عليها اليوم. واصبحت دولة صناعية وعلمية متطورة. كما انها انتهجت النظام الديموقراطي كنظام سياسي لها. والشئ الجدير بالنظراليه فى الحالة اليابانية هي انها مع قبولها بالنظام الديموقراطى فانها لم تتغربن وحافظت عل هويتها وشخصيتها. وربما تكون مثالا يجب النظر اليه كيف تطور الدول الشرقية من نفسها بدون ان تخسر هويتها وتنتحل شخصية مختلفة عنها.

 

 

Leave a Reply