أفخاخ رياضية فى منظومة القضاء

لا نقصد هنا ان تكون هناك قضية محل نزاع ذات طابع هندسي -مثلا- فنستعين بلجنة من الخبراء فى ذلك المجال يكون لتقييمهم الأثر الأكبرفي نتيجة الحكم. أو ان يكون طابع القضية اقتصادي او مالى أو شئ أخر يشترط معرفة بالرياضيات. لا. نحن هنا نقصد شيئا مختلفا: وهو أن هناك مفهاهيم رياضية صرفة تجرى دماؤها فى صميم الحكم القضائي نفسه – حتى وان لم يدر الكثيرون ذلك!-

في القضايا الجنائية مثلا يجب على القاضى ان يحسم احتمالات كون المتهم مذنبا او بريئا. فاذا قطع  يقينه الشك بان احتمال كون المتهم مذنبا ضئيل جدا فعليه أن يحكم ببرائته. واذا كان العكس فعليه أن يدينه.  ولكن كما ترون فان لفظة “أحتمالات” قد وردت فى السياق. و”الاحتمالات” هي مفهوم احصائي رياضي يشكل قلب موضوع حساب الأحتمالات. لكن من ناحية أخرى فأن هذا المفهوم نعرفه ايضا لغويا ونستعمله فى حياتنا بشكل فطري وبديهي. وهنا يأتى الفخ المذكور في العنوان فنحن نفهم هذا المفهوم بديهيا وفطريا بشكل يعاكس ما تحدده الرياضيات. والمشكلة اننا لا نشعر بذلك. فبديهتنا وفطرتنا ليستا مهيئتين للتعامل مع مفهوم الأحتمالات!

قد تبدو الجملة السابقة مفاجئة وغير متوقعة. فلماذا نحن غير مستعدين فطريا للتعامل مع مفهوم الأحتمالات؟ وهل هناك أدلة على هذه المقولة؟ دعونا نبدأ باجابة السؤال الثانى. فأدلة ذلك عديدة. فقد أثبتت أبحات علم النفس فى الأربعين سنة الأخيرة ان البشر لا يستوعبون المفاهيم الأحصائية بشكل صحيح. والسطور القادمة ستعطينا لمحة عن تلك الأشكالية. اما لماذا نحن غير مستعدين لاستيعاب مفهوم الأحتمالات فذلك بسبب ان لنا ميلا فطريا لفهم ما يجرى حولنا من زاوية سببية. صحيح أنه لا توجد عادة  مشكلة فى ذلك. فنحن فى معظم الأحوال نكون مصيبين وندرك السبب بصورة صحيحة. لكننا فى أحوال اخرى ليست قليلة نكون متسرعين جدا فى تسمية الأسباب. فنحن نشعر بالقلق اذا لم نحدد لكل حادثة سببا. حتى ولو كان تبريرا رديئا. وقال ايمانويل كانت فى كتابه نقد العقل الخالص ان الأنسان لا يستطيع ان يدرك الحقيقة حوله الا من خلال أنماط معينة. فهى كالنظارات اللتى لا نستطيع ان نرى الاشياء الا من خلالها. فاذا كانت النظارة حمراء فسنرى كل ماحولنا أحمرا. ومن ضمن النظارات اللتى نرتديها هى نظارة السببية. ولذلك نحن نري الأسباب بشكل أكثر مما هى موجودة فى الحقيقة عليه.

لكن فى حساب الأحتمالات يجرى الأمر بصورة مختلفة. فنحن لا يهمنا كثيرا تحديد السبب وراء حدوث شئ ما. وما يهمنا اكثر هى الأشياء اللتى لم تحدث ولكنها كان من الممكن ان تحدث. فنحن فطريا لانرى الأشياء الغير موجودة وينصب تركيزنا على الأمور الحاضرة فقط.

وما يزيد الطين بلة أن هناك نوعان من حساب الاحتمالات: النوع الأول هو النمطي  ويخص أحداث سوف تقع في المستقبل. مثلا ان أرمى نرد فاعلم ان الأرقام  محتملة الظهور هى واحد الى ستة. وتكون نتيجة كل أحتمال هى السدس. لكن فى حالتنا اليوم فنحن نبحث عن أحتمال شئ قد وقع فى الماضي. وهذا الموضوع يسمى حساب الاحتمالات المشروط. وهذا النوع من حساب الاحتمالات يبدو اكثر تناقضية مع بديهتنا. ونتيجة حساب الاحتمالات المشروط تتوقف على مدي علمنا أو بالأحري مدي جهلنا بتفاصيل الموضوع. فمثلا فى بداية القضية تكون احتمالية كون متهم مذنبا لدي القاضى 50% مثلا. لكن بتوالى المعلومات وتوافر الأدلة  قد ترتفع تلك القيمة الى أعلى من 95% مثلا أوقد تنخخفض الى مادون ال 1%. اما بالنسبة  للمتهم فهو يعلم  طوال الوقت بنسبة 100% ان كان هو القاتل أم لا!!

وحساب الاحتمالات المشروطة يعالجه قانون هام اسمه قانون بايز Bayes. لكننى سأحاول ان اتجنبه اليوم. وسأحاول أن أوضح ما أريد بالتفكير الحر فقط. لكني فى المرة القادمة ان شاء الله ساتناول طرح نفس امثلة اليوم لكن فى ضوء تطبيق قانون بايز بعد أن أكون وطأت له. وسنرى اننا سوف نصل الى نفس النتيجة.

نقطة اخرى احب التنوية اليها وهى اننى عندما اتحدث عن منظومة القضاء فهى اننى اتحدث عنها بمعناها الشامل: من اتهام ودفاع واسقاط الحكم. بل اننا يمكننا ان نعمم النتائج اللتى سوف نحصل عليها اليوم على حياتنا عموما ونسقطها على طريقتنا فى اسقاط الأحكام واحساسنا بالمعلومات الأحصائية.

قد يكون الكلام السابق فلسفيا وغامضا بعض الشئ. لكن الكلام التالى هو بالأرقام وهو بسيط فى حد ذاته لكنه مع ذلك  يحتاج الى تركيز اكبر. لذا فاننى ادعو القارئ لربط الاحزمة والاستعداد للتحليق فى ميدان حساب الاحتمالات المشروطة اللذى قد يخالف فى أحوال كثيرة بديهة القارئ.

دعونا نسخن بالنقاط البسيطة التالية. دعونا نتخيل ان هناك متهم فى جريمة ما. وتم العثور على اثار من حامضه النووي DNA فى مسرح الجريمة. وهذا الدليل يدينه طبعا بنسبة كبيرة.  فاحتمال أن تكون نتيجة تحليل الحامضى النووى خاطئة هى واحد فى المليون وأحتمال ان تكون نتيجة التحليل صحيحة هى 99.999999% فما هو أحتمال ادانته فعلا؟ او دعونا نتخيل ان هذه النتجة كانت لاثبات أبوة شخص ما لطفل ما. فما هو احتمال ان يكون ذلك الشخض فعلا اب لذلك الطفل؟

النسب تبدو هائلة فعلا.  ويبدو أنه لا توجد هناك اى فرصة حقيقية لأي فرضية أخرى. لكن دعونا نرى نفس الحقيقة بصياغة اخرى. بصياغة الدفاع: لو كان احتمال خطأ تحليل الحامض النووي هو واحد فى المليون. ولو افترضنا أن الجريمة حصلت فى بلد كمصر به مائة مليون انسان تقريبا. فان هذا يعنى ان هناك مائة شخص يحملون نفس العلامات البيولوجية. وموكلى هو مجرد واحد من هؤلاء اذن فاحتمال كونه مذنبا هو فقط واحد فى المائة. وهى قيمة ضئيلة جدا لا يمكن اثبات ذنب شخص من خلالها!!

اذن بالتعبير عن نفس الحقيقة بصياغتين صحيحتين مختلفتين تتولد لدينا انطباعات مختلفة. وتقديرنا البديهى للاحتمال قد أنعكس. فنحن بالفطرة لا نستسيغ البيانات الاحصائية واذا لم ننتبه اليها فقد يستغلها طرف ما لخدمة اهداف معينة لديه. ونفس القياس ينطبق أيضا على موضوع اختبار الأبوة . ونحن سنعود لاحقا لهذين المثالين مرة أخرى فى نهاية الموضوع.

أفخاخ رياضية فى الأدعاء

دعونا نتخيل المثال التالي: فى حملة مرورية على قائدي السيارات يتم  الكشف عما اذا كان السائقون يتعاطون مواد مخدرة ام لا. ومن أجل ذلك يتم استخدام جهاز للكشف عن المواد المخدرة فى الدم فى غاية الدقة. حيث تبلغ دقتة 99%. وفي اطار هذه الحملة تم توقيف سائق كانت نتيجة اختبار المواد المخدرة بالنسبة له أيجابية. فما هو احتمال ادانته؟ هل هي 99% ايضا؟ هل انت متأكد؟ النتيجة ليست سليمة تماما!

فى الحقيقة النتيجة لا ينبغى ان تكون بالضرورة 99%. لنرى كيف . دعونا نسأل انفسنا ما نسبة تعاطي السائقين للمخدرات في المتوسط. بالتأكيد انها ليست عالية جدا. فانا ايضا اقود سيارة ولا أتعاطى مواد مخدرة. بفرض ان نسبة متعاطين المخدرات بين جميع السائقين 1%. وبفرض ان هذه الحملة المرورية قد اوقفت عشرة ألاف قائد سيارة. فسنتوقع ان واحد فى المائة منهم أو 100 قائد سيارة سيكونون بالفعل تحت تأثير مواد مخدرة. والباقى أو 9900 شخص هم لا يتعاطون. ثم نأتى لجهاز كشف المواد المخدرة فى الدم. ان نسبة نجاحه ليست 100% لكن 99% فقط. اذن معنى ذلك ان من وسط المائة متعاطى سيثب التعاطى فى حق 99 شخصا منهم فقط. وهناك فرد سيفلت من الجهاز. ثم نأتى لل 9900 شخص الغير متعاطين. سيثبت الجهاز فى حق 1% منهم خطئا انهم يتعاطون المخدرات. اى فى حق 99 شخصا تماما. اذن مجموع الأشخاص اللذين سيقول الجهاز انهم متعاطين مواد مخدرة هو 198 شخص. منهم 99 لا يتعاطوا مواد مخدرة. وبالتالى فان احتمال ان يكون ذلك الشخص متعاطيى للمواد المخدرة فعلا هو 50% فقط!

أفخاخ حساب الأحتمالات فى الدفاع

كانت هناك قضية جنائية مشهورة يتذكرها من هم اكبر من 35 عاما وقعت احداثها فى الولايات المتحدة الامريكية وكان المتهم فيها لاعب كرة القدم الامريكية والممثل أو جي سيمسون. وقد اتهم بقتل زوجته السابقة وصديقها. وقد نالت تلك المحاكمة شهرة عالمية وكانت تبث وقائعها من داخل قاعة المحكمة بثا حيا الى جميع انحاء العالم.  وفى تفاصيل المرافعات تم اثبات ان سيمسون كان يعتدي على زوجته بالضرب بصورة متكررة. وهنا تقدم احد افراد فريق دفاعه وأراد تفنيد هذه القرينة فقال: صحيح ان سيمسون كان يضرب زوجته. لكن ليس هذا دليل على انه قتلها. فالاحصائيات الأمريكية تقول ان واحد فى الألف فقط من الرجال اللذين يضربون زوجاتهم يقتلونهن فى النهاية أيضا. وواحد فى الألف هو رقم ضئيل جدا.

بعد هذه الواقعة قام احصائى امريكى بكتابة رسالة الى أحد المجلات اوضح فيها ان المحامى قد قوى بهذا دليل ادانة موكله من حيث لم يحتسب. حيث قال التالي. لو انطلقنا فعلا من هذه الاحصائية وان واحد من الألف من الرجال اللذين يضربون زوجاتهن يقتلونهم ايضا. ولو افترضنا ان متوسط فترة الزواج هو 10 سنوات. فقد يقتل الزوج زوجته فى السنة الأولي او فى الثانية او العاشرة. فاحتمال ان يقتل رجل ضارب لزوجته لها هو واحد على عشرة الاف فى العام الواحد! لكن من ناحية اخري فان جرائم القتل فى امريكا شائعة حيث يتم قتل حوالى 25 الف شخص كل عام. وتعداد امريكا كان فى تلك الوقت هو 250 مليون. اى ان احتمال ان يتم قتل اى انسان رجل كان او امراة هو واحد الى 10 الاف. اذن بالنسبة لزوجة مقتولة وكان زوجها يعتدي عليها بالضرب فهناك احتمالان لا ثالث لهما: أما ان يكون زوجها هو القاتل أو شخص اخر. وكلا الاحتمالان متساويان ويساويان واحد الى عشرة الاف. اذن فاحتمال ان يكون سيمسون هو القاتل هو 50% وذلك بدءا وقبل التعرض لأي تفاصيل اخرى.

افخاخ عند أسقاط الحكم

هناك مثال شهير صياغته كالتالي:  هناك شركتا تاكسي فى المدينة: الشركة الخضراء اللتى كل سياراتها خضراء وهى تشكل 15 % من سيارات المدينة والشركة الزقاء وسيارتها زرقاء وهى تشكل نسبة 85% من سيارات المدينة. وفى احدى الليالى وقعت حادثة تسبب فيها سائق تاكسى وفر هاربا. لكن احد الشهود استطاع رؤية ان السيارة الفارة خضراء اللون. وقررالقاضى فحص قدرة الشاهد على تمييز الألوان فى الليل. فكانت نسبة نجاحه تساوي 80%. فماهى احتمال ان تكون الشركة الخضراء هى المذنبة؟

80% ؟ كلا. وان كانت بديهيا هى النتيجة المرجحة. ويمكننا اثبات ذلك كما فعلنا فى فى موضوع كشف المواد المخدرة. واحسن طريقة لتوضيح ذلك هى عن طريق الأعداد. فلو افترضنا ان هناك الف سيارة تاكسى فى المدينة فستكون 150 سيارة منها خضراء و 850 زرقاء. ومن المائة والخمسين سيارة الخضراء سيستطيع الشاهد أن يرى 80% منهم فقط خضراء. اى ما يساوي 120 سيارة فقط. ومن ال 850 سيارة الزقاء سيرى 20% منهم او 170 سيارة خضراء خطئا. اذن فاحتمال ان تكون السيارة فعلا ملكا للشركة الخضراء هى ناتج قسمة 120 على 290 وذلك يعطي 41% فقط.

اذن نستخلص مما سبق اننا عند حساب الاحتمالات المشروطة وقبل التأثر بنتجية تحقق شرط مميز أن نسأل أنفسنا أولا ما هى الاحتمالات الحالية لحدوث حدث أو لا. فقبل اثبات تعاطي المنشطات لدي الرياضيين على ان اسأل نفسى اولا ما هى نسبة تعاطى المنشطات بين لاعبي كرة القدم او فى سباق الدراجات الهوائية. ولا شك انها عالية فى الرياضة الثانية وأقل منها فى الرياضة الأولي.

وفى مثال سيارات التاكسى وقبل شهادة الشاهد فان أحتمال ان تكون الشركة الخضراء هى المتهمة هو 15% فقط. بينما  الشركة الزرقاء متهمة بنسبة 85%. وتمثل الحقيقة السابقة مشكلة فى التقبل بالنسبة للعديدين. فنسبة السيارات فى المدينة ليست فى بديهة الكثيرين يمكن ان تكون سببا لحدوث أي حادثة. لكن ربما بعرض هذه المسألة بصياغة سببية اخرى فيتم قبولها. كأن نقول مثلا ان سائقى الشركة الزرقاء مشهورين بانهم اشرار ولا يتقنون القيادة!. ولذا نتوقع ان يكونوا هم مصدر المشاكل بصورة أكبر.

ونعود الى المثالين الاولين المتعلقين بالحامض النووي. فلا شك ان محامى الدفاع يقوم بعمل مغالطة متعمدة. فالرياضيات ليست الا صياغة متقنة والمحامى هنا يخلط الصياغات! فهو يستخدم “احتمال كون الأختبار خاطئا بفرض ان موكله بريئا”. بينما ما يهم القاضى هو شئ أخر وهو “احتمال كون المتهم مذنبا بفرض ان الأختبار اعطى نتيجة أيجابية”. وعلينا هنا ان نراعي كل التفاصيل والمعلومات المتاحة. فهناك اولا دائرة اتهام ضيقة تحيط حول المشتبه بهم. فليس كل سكان مصر هم مشتبه بهم فى هذه الجريمة. وباقى ال 99 فرد اللذين يتطابق حامضهم النووي مع الموجود فى مسرح الجريمة بفرض اننا وجدناهم أصلا فان احتمال ادانتهم قبل ذلك الدليل هو صفر تقريبا. بينما المشتبه به الأساسى فاحتمال  ادانته هو من البداية قيمة يعتد بها.

وبالنسبة لاختبار الأبوة فالامر اكثر احكاما. فالمراءة لا يمكن ان تكون قد حملت فى أى وقت ولكن قبل 9 أشهر من تاريخ الولادة. وهناك دائرة محدودة من الرجال اللذين اختلطت بهم ومن هذه الدائرة لايمكنها ان تخترع انسانا على هواها ليتفق حامضه النووي مع حامض الطفل.

لكن مفاجئات حساب الأحتمالات المشروطة يبقى مستمرا. مثلا يقول العاملون فى ميدان القانون ان الأعتراف سيد الأدلة. فاذا كانت هناك اتهامات تحوم حول شخص  ثم قام هذا الشخص بالأعتراف فان هذا يعتبر تأكيدا لا مثيل له. لكن حساب الأحتمالات المشروطة  يقول ان هذا ليس صحيحا بالضرورة. فربما بعد أعتراف انسان تصير احتمالات ارتكابه للجريمة اقل مما قبل!. ولكن هذا سوف نراه فى المرة القادمة ان شاء الله.

 

Leave a Reply