نصل اليوم الى المحطة الاخيرة في رحلتنا مع قصة الصفر. وهى رحلة قد استمرت ما يزيد عن العام. وقصة الصفر هى موضوع ذو شجون فلها جوانب مختلفة: تاريخية و فلسفية ودينية وفنية ورياضية وفيزيائية. ولعل اجدر خاتمة تصلح لان تكون نهاية لهذه السلسلة هي مقالة عن النهاية ذاتها!: نهاية الفيزياء. نهاية الزمن. نهاية الزمكان. او ببساطة نهاية كوننا.
اول نظرية فيزيائية قالت بان كوننا لايمكن ان يكون ثابت بل هو متغير كانت النظرية النسبية العامة. ولقد ايقن اينشتاين صاحب النظرية هذا الامر ولكنه لم يرق له. فادخل اينشتاين ثابتا على معادلاته اسماه الثابت الكونى. وكان هدفه من وراء هذا الثابت ان يجعل الكون ثابتا غير متغير. لكن اينشتاين اقر بعد ذلك بخطأه ووصفه بانه كان اكبر استحمارا او حماقة ارتكبها فى حياته. ودعونا نحاول تقريب ماتوصلت اليه النظرية النسبية العامة من نتائج حول هذا الموضوع بالمثال التالى.
لو القينا حجرا الى اعلى فان هناك 3 احتمالات لما سوف يحدث بعد ذلك. الاحتمال الاول ان يرتفع الحجر الى اعلى نقطة ثم يهوي الى الارض بفعل الجاذبية الارضية. و الاحتمال الثانى هو اننا اذا قذفنا الحجر بسرعة اعلى من 11 كيلومتر فى الثانية فان الحجر سيتغلب على الجاذبية الارضية بشكل نهائى وسيغادر الغلاف الجوي بغير رجعة. وهذه السرعة تسمى سرعة الهروب وهى السرعة اللتى تستخدمها وكالة ناسا عندما ترسل رحلات استكشافية للفضاء الخارجى. اما الاحتمال الثالث فهو ان نقذف الحجر بسرعة حرجة بين الحالتين السابقتين وهى سرعة لا تجعل الحجر يسقط على الارض مرة اخرى ولكنها لاتمكنه من مغادرة غلافها الجوي فييقى كقمر صناعى معلق حول الارض.
وبالمثل فى كوننا. فالقوة الطاغية فيه هى قوة الجاذبية الموجودة فى ارجائه واللتى تعمل على جذب اطرافه نحو مركزه. ولكن وفى نفس الوقت فان كوننا يتمدد كما تقول نظرية الانفجار العظيم. و بالتالى من وجهة نظر النظرية النسبية العامة فان هناك 3 احتمالات لكوننا: الاول الا تسمح سرعة تمدده له بالهروب من تأثير الجاذبية فيتمدد الكون الى اقصى نقطة ثم يبدأ فى الانكماش مرة اخرى بفعل جاذبيته حتى يعود الى نقطة البداية! والاحتمال الثانى ان تكون سرعة تمدده الحالية عالية جدا فتفوق تأثير جاذبيته فيستمر الكون فى التمدد الى مالانهاية. والاحتمال الثالث ان تكون سرعة تمدد الكون تساوي تماما تلك السرعة الحرجة فلن يعود الكون الى نقطة البداية ولكن تزداد المسافات بين المجرات ببطء حتى تصل الى قيمة ثابتة.!
و الان يظهر لنا سؤالان: السؤال الاول ماذا تقول المشاهدات الفلكية عن توافق حال كوننا مع احد هذه الصور الثلاثة؟ والسؤال الثانى فماذا تقول النظريات الفيزيائية الاخرى بخلاف النظرية النسبية العامة؟
بالنسبة للسؤال الاول. وبمراعاة ان النتيجة تعتمد على شيئين: وهما السرعة اللتي يتمدد بها الكون و كثافة الكون فى المتوسط. لاننا كما نعلم انه كلما زادت الكثافة فلا بد وان تصاحبها زيادة فى سرعة الهروب. فمثلا سرعة الهروب من مجال الشمس اكبر بكثير منها فى مجال الارض. وسرعة الهروب من مجال القمر اقل منها فى حالة مجال الارض. لكن نتيجة القياسات كانت عجيبة. فاولا بالنسبة لتحديد لكثافة الكون. وهذه مبدئيا عملية صعبة وغير دقيقة تماما. وجد العلماء ان كتلة الارض والنجوم وكل المجرات الموجودة فى الكون والسحب الغازية الموجودة بين المجرات غير كافية للتناسب مع عملية الفرملة او تباطؤ الكون اللذى اثبتته القياسات. بل هى تشكل بالكاد 10% من المادة اللازمة لذلك. وقال العلماء بان هناك مادة مجهولة اسمها المادة السوداء. لا نستطيع ان نراها بواسطة التليسكوبات لانها غير مضيئة. ولكنها تشكل غالبية المادة الموجودة فى كوننا. واما بالنسبة لسرعة تمدد الكون. فهى عملية يمكن قياسها بدقة اعلى. ويستغل العلماء ظاهرة دوبلر فى ذلك. وهى نفس الظاهرة اللتى استغلها هبل فى استنتاج ان المجرات تتباعد عن بعضها. ولكن هنا لا يرصد الفلكيون النجوم النابضة cepheids اللتى استغلها هبل ولكنهم يستغلون نوع اخر من النجوم ذي ضوء اقوي وهي نجوم السوبرنوفا او نجوم المستعر الاعظم. وهى نجوم لها ضوء يشع عبر نصف الكون. ويمكن بقياس انزياح الطيف عندها ان نحدد سرعة الكون في الماضى. فنجم يبعد عنا بمائة مليون سنة ضوئية ما نراه الان لا يعبر عن حالته الان. ولكنه يعبر عن حالته قبل مليون سنة !! وهنا وجد العلماء امرين غريبين اولهما ان الكون يتمدد بسرعة حرجة جدا. فلو ان سرعة تمدد الكون كانت بعد ثانية واحدة من الانفجار العظيم اقل حتى بواحد على المليار لانكمش الكون بعد ولادته ولم نكن لنصل الى هذه المرحلة اليوم. و الامر الثانى ان الكون الان يبدو وكانه يتحرك بسرعة اعلى من اللتى تتفق مع الحسابات ويبدو كما لو ان هناك قوة خفية تسبب تمدد الكون. وهى قوة تشبه قوة الجاذبية تماما ولكنها قوة تعمل فى الاتجاه المعاكس. ويطلق العلماء على هذه الظاهرة اسم الطاقة السوداء. ويجب ان نلاحظ انها تختلف تماما عن المادة السوداء السابق ذكرها. ويبدو ان اينشتاين عندما ادخل الثابت الكونى فى معادلاته لم يكن مخطئا تماما. فهذه الطاقة السوداء تتصرف تماما وفقا للثابت الكونى اللذى افترضه اينشتاين ثم تراجع عنه.صحيح انه لم يقصد هذا تماما ولكن تبدو ان فكرة الثابت الكونى صحيحة. ويبدو ان اينشتاين حتى عندما سقط فى هذه النقطة فقد سقط واقفا!!
لكن ماذا تقول النظريات الاخرى؟ بالطبع توجد بجانب النظرية النسبية العامة نظرية الكم وهى العمود الثانى للفيزياء الحديثة. وهناك حاجة ملحة لان تتوافق النظريتان معا او حتى استحداث نظرية فيزيائية جديدة توحد بين هاتين النظريتين. وافضل النظريات المرشحة للعب هذا الدور هو نظرية الاوتار الفائقة. فما هى السيناريوهات المختلفة لتطور الكون حسب رأى الفيزيائيين من المدارس المختلفة؟ هناك 7 سيناريوهات بديعة تبدو وانها اقتبست من عالم الف ليلة وليلة او كليلة ودمنة. وهى كلها سيناريوهات يحمل اسمها كلمة العظيم على وزن اسم نظرية الانفجار العظيم اللتى ترسم صورة بداية الكون.
السيناريو الاول هو الانسحاق العظيم او big crunch. وهذا السيناريو كان هو السيناريو المفضل فى الماضى ولم يعد كذلك اليوم. وفى هذا السيناريو فان سرعة تمدد الكون بطيئة لن تسمح له بان يفلت من قبضة الجاذبية وسينكمش الكون مرة اخرى بعد ان يصل الى اوسع مدي له. وفى النهاية سينكمش كل الكون فى نقطة واحدة كما ينهار نجم ويتحول الى ثقب اسود. وهذه النقطة حجمها صفر وتشبه تماما نقطة بداية الانفجار العظيم. وفى هذه النقطة تكون درجة الحرارة هائلة لا يمكن تخيلها وتكون الكثافة لانهائية. ونصل الى حالة singularity او تفرد. وفى هذا السيناريو ينتهى الزمن تماما. فالزمن وفق هذا السيناريو له بداية ونهاية.
السيناريو الثانى هو النحيب العظيم او big whimper . وان كنت افضل ترجمته بالتحلل او الفوران العظيم. وهذا السيناريو ممل مقارنة بالسيناريو السابق. ففيه يموت الكون ويمضى منتحبا فى هدوء. وهذا هو السيناريو اللذى يؤمن به معظم الفيزيائيين اليوم. وفى هذا السيناريو تكون سرعة تمدد الكون عالية فلا تسمح له بالانكماش مرة اخرى. اذن تستمر النجوم فى حياتها العادية ثم تموت بعد ذلك موتا طبيعيا وتتحول الى ثقوب سوداء. وتتحول الثقوب السوداء فى النهاية الى مقابر كونية لكل الكون. لكن ما اكتشفه الفيزيائى المرموق ستيفن هوكنج. ان الثقوب السوداء لا تبقى دوما. فهى ايضا تتحلل ببطء. كما يتحلل قرص دواء فوار عندما نضعه فى الماء. فالثقوب السوداء تتحول بعد مرور احقاب طويلة الى اشعاعات. وسيتحول كل الكون بكل مادته فى النهاية بعد ذوبان الثقوب السوداء الى فوتونات وبعض الالكترونات البسيطة. وفى هذا السيناريو لا ينتهى الزمن ولكنه يفقد معناه. حيث يفقد اتجاهه. ولن يصبح لمفهوم المدة الزمنية معنى لانعدام وجود ما يمكن ان نصنع منه ساعة صالحة. كل ما سيتبقى من الكون سيكون عبارة عن فوتونات وجسيمات اولية عديمة الكتلة. ولبناء ساعة ما فاننا نحتاج الى ذرة واحد بحد ادني.
السيناريو الثالث هو الارتداد العظيم او big bounce . وفى هذا السيناريو بعد ان ينكمش الكون كما فى سيناريو الانسحاق العظيم ستكون هذا بداية لانفجار عظيم جديد وتكون هذه دورة حياة جديدة. ومن المنتمين لهذه المدرسة الرياضى والفيزيائى اللانجليزى الشهير بنروز.
السيناريو الرابع هو التجمد العظيم او big freeze . وهذا السيناريو ينبع من نظرية الاوتار الفائقة: ويقول ان كوننا عبارة عن غشاء رقيق. ولكنه غشاء رباعى الابعاد فى كون ذى ابعاد اكثر. وفى الحالة العادية ينساب هذا الغشاء فى الكون المتعدد الابعاد بانسيابية. لكن قبل النهاية فان هذا الغشاء يتحرك بسرعة تقارب سرعة الضوء او تتكون فيه انحناءات ضخمة فى الابعاد الاعلى مما يجعل الحركة فيه مستحيلة.وسيتوقف الزمن تماما كما يتوقف الزمن بالنسبة لجسم يتحرك بسرعة الضوء. وهنا سينتهى الزمن تماما كما ينتهى الزمن فى قلب ثقب اسود. ومن نبوءات هذا السيناريو ان كون ينتهى وفق هذا السيناريو سوف يلاحظ ان المجرات البعيدة عنه تبتعد عنه بسرعة غير مفهومة و اعلى من السرعة المحسوبة رياضيا. و الغريب ان هذا هو مانلاحظه الان. ولذلك يفترض العلماء وجود الطاقة السوداء!.
السيناريو الخامس هو التمزق العظيم او big rip . وهذا السيناريو يعتمد على الطاقة السوداء ويفترض انها لن تبقى ثابتة فى المستقبل ولكنها ستزداد قوة. ولذلك فى المستقبل ستتباعد المجرات عن بعضها بسرعات عالية. وتصبح كما لو انها تنتمى الى اكوان مختلفة فلن يصل الضوء فيما بينها. بل ستتفتت المجرة الواحده عن نفسها. بل ستتفتت مجموعتنا الشمسية وينطلق كل كوكب فى اتجاه مختلف. بل ستتمزق الارض نفسها الى اجزاء متناثرة بل حتى الذرات نفسها لن تسلم من ازدياد نشاط الطاقة السوداء فستنقسم وتنفصل عن بعضها
السيناريو السادس الفرملة العظيمة او big brake . وهذا السيناريو يعتمد ايضا على الطاقة السوداء ولكنه عكس السيناريو السابق ففى المستقبل سيحدث العكس. ستعمل فجأة هذه الطاقة فى الاتجاه العكسى وتعمل على فرملة الكون فورا. تنشأ عجلة تسارع قيمتها سالب مالانهاية
السيناريو السابع هو الارتجاج العظيم او big lurch. وهو يشبه السيناريو السابق وهو ظهر معه فى نفس العام 2004 . ولكن هذا السيناريو لا يعتمد على الطاقة السوداء ويقول ان المادة من تلقاء نفسها ستصل الى هذه الحالة.
وفى كل السيناريوهات السابعة نستطيع ان نلمح الصفر. فاما سينكمش الكون الى نقطة واحدة لا ابعاد لها وذلك تجسيد للصفر بشكل صريح. او انها تعتمد على الطاقة السوداء اللتى يقول العلماء ان مصدرها هو طاقة الصفر. او كما فى السيناريو الرابع المبنى على نظرية الاوتار الفائقة اللتى تتحاشى الصفر بشكل صريح وتقصيه من ميدان الفيزياء وتحل مكانه ثوابت صغيرة وهى ثوابت بلانك.!
Thanks much -I just commented ,although I still didn’t finish reading
Keep it up .
رائع جدا … بارك الله فيك و في جهدك … حقيقة سيقطف الجميع ثمار كتاباتك و طروحاتك الجميلة … فنحن بحاجة الى أن نبسط العلوم و نقدمها بلغتنا التي لطالما جفوناها! و اعتقد أن ما تقدمه يعد عملا رائدا و جليلا تستحق عليه الشكر الجزيل اخي العزيز.
رائع جدا
رجاء استمر
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
بداية، أشكرك على مجهودك الكبير جدًا، فأنا متابع لمدونتك منذ سنة تقريبًا.
أحب أن أوجه فكر سيادتك إلى أن ثمة بعض المشكلات عند علماء الفيزياء، وإن بدت صغيرة لكنها في حد ذاتها كفيلة إذا ما أدركوها تمام الإدراك لأن توجه أفكارهم نحو المسار الصحيح لفهم الطبيعة، مادةً وزمنًا، من هذه المشكلات: ما هو كنه الجاذبية المادية بالضبط؟ ما كنه القصور الذاتي؟ ما هو الزمن؟ ما هو كنه المادة؟ هل القوة المسئولة عند دوران جسم في دائرة طاردة مركزية أم جاذة مركزية.
قد تبدو هذه المواضيع تافة، لكني واثق أن علماء اليوم مخطئون تمام الخطأ في معرفة كنهها معرفة جيدة.
في نظري أن ثمة نظرية لحل هذه المسائل بنظرية واحدة بسيطة جدًا وفي غاية السهولة تجيب على كل هذه التساؤلات بالإضافة إلى التوحيد بين نتائج النظرية النسبية ونتائج ميكانيكا الكم دون الحاجة لا للنسبية ولا لميكانيكا الكم، بالإضافة إلى حل لغز الطاقة المظلمة
وتمدد الكون المتسارع على هذا النحو وبهذا الشكل!
أردت أن أنوه إلى خطأ كتابي متكرر عند سيادتكم:
الذي تكتبها خطأ اللذي
التي تكتبها خطأً اللتي
وذاكم في كل مواضيعكم، أرجو الانتباه له.
اشكر لك مرورك ومشاركتك الكريمة. و النقاط اللتى طرحتها هى بالفعل الاسئلة المطروحة على فيزياء اليوم. ماهى الكتلة؟ ماهى المادة؟. و هى ليست اسئلة تافهة ولكنها اساسية وصعبة. اما بالنسبة للنظرية الجديدة فهناك بالفعل حاجة ماسة لنظرية جديدة لكن المشكلة تكمن فى كيفية اختبار مدي صدق هذه النظرية. فالنظرية وحدها تفسر كل شئ لا تكفى اذا كان لا يوجد وسيلة لاختبار هذه النظرية. اما بالنسبة للخطأ الكتابى فاشكرك جدا لتنبيهي اليه. وسأحرص على تجنبه فى المستقبل
إذن، عزيزي مدحت…. أقول لك، إن النظرية الأخيرة التي ينتظرونها هي عندي!!
وهي تجمع جميع المتناقضات في سلة واحدة.
صيدلي/ أحمد عباس أحمد
انتظرني بعد الانتهاء من طباعة كتاب: التاريخ المفقود للمصريين واليهود
تفضل بزيارتي لمدونتي المتواضعة جدًا
http://noonpharm.blogspot.com/2012/07/blog-post.html
مبدع، موضوع أكثر من رائع