الجمهورية هي احد اهم اعمال افلاطون الفلسفية والادبية. وهذا العمل يقع في عشرة كتيبات. وكما هو واضح من العنوان فان هذا العمل ينتمى الى ميدان الفلسفة السياسية. ولكنه ينتمى ايضا و بشكل اقوي الى ميدان فلسفة الاخلاق كما انه يحتوي على اهم الانجازات التاريخية في ميدان الميتافيزيقا حيث انه يحتوي على نظرية المعرفة لافلاطون. ولم تكن السياسة هي هدف افلاطون الرئيسي من وراء هذا العمل ولكنه اراد ان يوضح اهمية الاستقامة والعدالة على مستوى السلوك الفردي. فاختار افلاطون ان يوضح ذلك عن طريق الدولة. لان الدولة تعتبر تكبيرا ميكروسكوبيا للفرد. فاراد افلاطون ان يستخلص النتائج و العبر من دراسة الدولة واسقاط تلك النتائح والاحكام على الفرد.
كانت قصة حياة سقراط استاذ افلاطون و الصراعات اللتى خاضها مع السفسطائيين وهم فلاسفة اثينا العظماء في ذلك الوقت هي الدافع وراء كتابة افلاطون لهذا العمل. و في البداية علينا ان ننتبه الى ان اسم السفسطائيين كان يعنى سابقا الحكماء ولكنه قد تغير معناه اليوم واصبح سلبيا. فالسفسطائى اليوم هو الانسان اللذي يجادل من اجل الجدال مع ان اطروحاته فارغة او انه لايملك اطروحات اساسا. وكان سقراط انسانا محترما ذا مبادئ لا يتزحزح عنها. وكان ايضا متواضعا ينادي بالاستقامة والتزام جادة الحق مادام الى ذلك سبيل. والتف حوله شباب اثينا الاثرياء واعجبوا باطروحاته وبعلمه وبفصاحته وكان افلاطون احد هؤلاء الشباب اللذين التفوا حول سقراط. ولكن السفسطائيون غاروا من سقراط وكادوا له و اتهموه بانه يفسد شباب اثينا وانه ملحد يزدري الالهة ويسئ اليهم. وتم الحكم عليه بالاعدام وتم تنفيذ الحكم عن طريق تجرع كأس السم وكانت هي وسيلة الاعدام المتبعة لاعدام المواطنين الاثينيين في ذلك الوقت.
وكان السفسطائيون في ذلك الوقت يرون ان من الحصافة ان يكسر الانسان القانون بشرط الا يفتضح امره. فالقانون هو من صنع الاقوياء. والعدل هو ما يحكم به القوي ولاعزاء للضعفاء. والعدالة و الاستقامة قيم فارغة و الدليل على ذلك سقراط اللذي عاش مستقيما امينا ثم حكم عليه بالاعدام. و الافضل بلا شك ان يعيش الانسان حياة انتهازية فيتحصل على اقصى ما يمكن ان يصل اليه طالما امن العقاب. فلو استطاع الانسان ان يحصل على نصيب اكثر من حقه فليفعل ذلك وهو بالتأكيد سيكون اكثر سعادة مما لو اكتفى بنصيبه فقط و اذا تمكن الانسان من امتلاك خاتما سحريا يجعله يختفى عن الانظار وبهذا يستطيع ان يأتى بجميع الاثام دون ان يفتضح امره ويظل في نظر الناس انسانا مستقيما شريفا فعليه الا يتردد و ان يستغل هذه الخاتم اسوأ استغلال. لانه بالتأكيد سيكون اكثر سعادة عندما تتعاظم مكتسباته وسيكون اكثر حظا من التعيس سقراط اللذي زرع وردا وجنى شوكا.
واراد افلاطون ان يضحض هذا الرأي و ان يبين خطأه و اراد ان يبين ان العدالة شئ ثمين وانها قيمة غالية ليس فقط في ذاتها بل لانها تحقق للانسان اللذي يتمسك بها مكسبا مباشرا عظيما وتعود عليه بالخير الكثير.
يقول افلاطون ان سكان جمهوريته او اي دولة ينتمون الى 3 طبقات: طبقة الحكام و طبقة الحراس وطبقة العمال اللتى تشمل اصحاب الحرف اليدوية و الفلاحين. ويضع افلاطون خطة لاعداد وتهيئة كل طبقة من الطبقات الثلاثة التهيئة المثلى. ولكن افلاطون اهتم في كتابه بتهيئة الحكام و الحراس اكثر من طبقة العمال ولذلك يرى الكثيرون ان افلاطون كان نخبويا.
ويبدأ الاعداد للدولة الفاضلة منذ ولادة الافراد وبطريقة غريبة لا شك في غرابتها. فتبدأ رحلة الاعداد بالتخلص من المواليد المرضى و الضعفاء و لا يتم الاحتفاظ سوي بالمواليد الاصحاء الاقوياء. ويتم انتزاع الاطفال من امهاتهم حيث ان المسئول عن تربية الاطفال هي الدولة و لا توجد عائلة او اسرة في جمهورية افلاطون حتى لاتنشأ عصبيات اسرية او قبلية. فالاطفال لا يعرفون لهم عائلة سوي الدولة ويتم تنشئة كل الاطفال سويا. ويتم اعداد خطة لكل فريق من الأطفال على حسب المهارات اللتى يظهرونها وبعد معرفة لاي طبقة سوف ينتمى هؤلاء الاطفال. فبعضهم سوف ينتمى الى طبقة الحكام و بعضهم سيكون من طبقة الحراس و الباقى سيكون من طبقة العمال. وعندما يكبر الاطفال شيئا ما يتم اخبارهم بما يطلق عليه الخداع النبيل. وهو ان يتم اخبار الاطفال ان الله قد خلقهم جميعا من الارض ولكن اثناء خلقه اياهم اضاف لكل واحد منهم معدن ما من معادن الارض. فالبعض اضاف الله له ذهبا وهؤلاء سوف يصبحون حكاما و البعض الاخر اضاف لهم فضة وهؤلاء سيصبحون حراسا و البعض الاخر اضاف الله لهم برونزا فهؤلاء سوف يصبحون اصحاب حرف يدوية و البعض اضاف لهم حديدا فسيصبحون فلاحين وعمال بسيطين. ويتم اخبار الاطفال ان الذكريات اللتى قد يحملها بعضهم عن مرحلة الطفولة وعن نشأتهم الاولي ما هي الا اوهام و احلام سخيفة. وفائدة الخداع النبيل ان تجعل الاطفال يقبلون اقدارهم فلا يطمع انسان الى ان يخرج من طبقته وينتمى الى طبقة اعلى لان هذا مستحيل ومرتبط بالمعدن الموجود بداخله كما تجعل الاطفال يرتبطون بالارض لانها امهم كما انهم يرتبطون بباقى الاطفال لانهم اخوتهم.
ويوضح افلاطون انه يجب اعداد الاطفال اللذين سوف يصبحون حراسا اعدادا يكسبهم الشجاعة و الحماسة والاقدام. اما الاطفال اللذي سوف يصبحون حكاما فيجب اعدادهم اعدادا فسلفيا سليما ويتم تدريبهم على اعمال العقل و الحكمة ويجب تدريبهم على اصدار القرارات اللتى تفيد الجماعة واللتى هي بعيدة كل البعد عن المصلحة الشخصية. ويوصى افلاطون بان يتم عمل اختبارات و اغواءات كثيرة ومتعددة لهؤلاء الاطفال اثناء فترة الاعداد ليتم غربلتهم بشكل جيد ولا يتبقى فعلا الا هؤلاء الاطفال اللذين يتمتعون بالحكمة و القدرة على اتخاذ القرارات المفيدة للصالح العام وللمجتمع.
وعندما يكبر الاطفال ويشبوا فلا يسمح لهم بالزواج و تكوين اسر. ولانجاب الاطفال يتم في الاعياد و المناسبات عمل قرعة بين الرجال و النساء لممارسة الجنس و انجاب الاطفال. ولكن حتى هذه القرعة لن تكون نزيهة بل هي مزورة فنتيجة القرعة قد اعدها الحكام مسبقا للحفاظ على نقاء الطبقات ولكي يتم ضمان انجاب اذكى واصح واقوى الاطفال. فالشاب الذكي يتم اختيار شابة ذكية له حتى ينجبوا اطفال اذكياء وكذلك بالنسبة للرجل القوي يتم اختيار امراة ذات صحة ممتازة حتى يتم ضمان جودة النسل. ولكن لا يتم اخبار الشعب بحقيقة الامر حتى لايصابوا بالاحباط و تجرح مشاعرهم بل يتم اخبارهم ان هذه هي نتيجة القرعة وما قرره الحظ.
ويقول افلاطون ان الحكام في الدولة الفاضلة ينبغى ان يكونوا من الفلاسفة ويتعلل بذلك بنظرية مملكة الافكار. وهذه النظرية هي اهم ما يميز افلاطون ويميز مدرسته الفلسفية وعندما نسمع بمصطلح الافلاطونيين فان المقصود يكون تحديدا من يؤمنون بنظرية مملكة الافكار او مايشابهها. ويمكن توضيح هذه النظرية كالتالى: اذا تخيلنا طاولة ما. فاننا نعلم ان للطاولات اشكال مختلفة بعضها مستدير والاخر مربع و الاخر مستطيل او غير ذلك من الاشكال.و بعضها يمتلك ثلات قوائم و البعض يمتلك اربع قوائم والبعض الاخر غير ذلك. لكن المهم انه عندما يشاهد اى انسان اى طاولة فانه يدرك فورا ان هذه طاولة. ولكن لماذا؟ هنا يقول افلاطون بان هناك طاولة مثالية وهي عبارة عن فكرة موجودة في العقل وكل الطاولات الموجودة في الحياة ماهى الا محاولات لتقليد الطاولة المثالية الموجودة في عالم الافكار. اذن ففكرة الطاولة موجودة وجودا حقيقيا وهذه الفكرة خالدة لا تزول و لاتتغير او تتبدل مع الزمن مع ان كل اشكال الطاولات في حياتنا تتغير وتتبدل لانها زائفة ومجرد تقليد. ومن الاشياء المهمة ايضا فكرة الخير. فالخير فى حياة البشر منبثق من فكرة الخيرالمطلق وهي فكرة موجودة وجودا حقيقا في عالم الافكار وكل محاولات الفلاسفة لادراك الحقيقة وطلبها منبعثة من هذه الفكرة النبيلة الاساسية ولو لم يكن الخير المطلق موجودا لما دري الانسان شيئا عن عالم الافكار وبقى هائما على وجهه في دنيا الافكار المزيفة والتقليدات البائسة. وهنا يبرز دور الفلاسفة حيث انهم المحبون للحكمة الطالبون لها ولذلك هم اقرب الناس الى فتح ابواب عالم الافكار وفهم الاشياء على حقيقتها ولاينغروا بالزخرف الزائل في هذه الدنيا.
وفي هذا الجزء من العمل يكتب افلاطون العمل الرائع المعروف باسم كهف افلاطون اللذي يوضح عالم الافكار ونظرية المعرفة ويفصل دور الحكماء و الفلاسفة في اكتشاف الحقيقة وعجز من سواهم عن ذلك. وقد تعرضنا لكهف افلاطون في تدوينة سابقة. فمن يرغب في مراجعته مرة اخره فعلية مراجعة هذه التدوينة.
ولنفس السبب يرفض افلاطون الفن ويطرد الفنانين من دولته سواء كانوا رسامين او نحاتين او شعراء. ويعلل لذلك لسببين. .السبب الاول ان هؤلاء الفنانين يقلدون التقليد فيبعدون الناس عن ادراك الحقيقة اكثر واكثر. فعند افلاطون ان الله خلق فكرة الطاولة فى عالم الافكار ثم يأتى النجار فيحاول تقليد تلك الفكرة فينتج تقليدا مشوها وغير كاملا ثم يأتى الفنان ويحاول ان يقلد التقليد مرة اخرى ولكنه لن يستطيع ان يصنع ذلك بطريقة نستطيع ان نقول عنها انها كاملة فينتج مسخا يبعد الناس اكثر و اكثر عن فهم الحقيقية. واما السبب الثانى فهو ان الفنانين يخاطبون غالبا الجانب النفسى غير الحكيم في النفس البشرية. فهم يلعبون دائما على وتر المشاعر والاحاسيس وهذا يؤثر بالتالى على سلامة اتخاذ القرار السليم. والطريف ان افلاطون نفسه كان من اقوي شعراء عصره.وكتب كل اعماله بصورة شعرية وادبية رائعة.
اما موقف افلاطون من المرأة فقد كان متطورا فقد قال ان المرأة يجب ان تحوز على جميع الحقوق كالرجل تماما وتشارك معه في نفس التدريبات بل وقال بأن المراة من الممكن ان تكون حاكمة وان كان قد استبعد ذلك. ولكنه مع ذلك ترك لها الباب مفتوحا لتأخذ فرصتها كاملة أن استطاعت. وكان هذا بالطبع موقفا ثوريا من جانب افلاطون حيث ان المرأة كانت في هذا الوقت اسيرة في بيتها محرومة من معظم الاشياء.
ونتيجة نظام الاعداد الذي تصوره افلاطون فان جمهوريته سوف تكون مثالية لانه سوف يتوفر فيها 4 خصال في غاية الاهمية. وهذه الاربع خصال هي: الحكمة وتأتى من طبقة الحكام اللذين تم اعدادهم كاحسن ما يكون. والخصلة الثانية هي البسالة وهذه الخصلة تأتى بصفة خاصة من طبقة الحراس اللذين تم اعدادهم بشكل مناسب. اما الخصلة الثالثة فهى التحكم في النفس وهي تاتى من الطبقة الثالثة و من السيطرة عليهم مما يعنى السيطرة على الغرائز و الشهوات وذلك يكون عن طريق قرارات الحكام الحكيمة والمتوازنة. ويتم ضمان تنفيذ تلك القرارات عن طريق طبقة الحراس. اما الخصلة الرابعة وهي العدل. ومعنى العدل عند افلاطون هو التناغم بين طبقات الجمهورية وان كل طبقة تصنع ماهي مهيأة له. وهذا هو معنى العدل عند افلاطون.
ثم يضرب افلاطون اربعة امثلة لنظم حكم سيئة ومريضة. وهذه النظم هي الدولة الدكتاتورية اللتى تسيطر فيها طبقة الحكام على باقى الطبقات والمثال الثاني السئ هو الدولة العسكرية وفيها تستبد طبقة الحراس بالسلطة ومثال لذلك دولة سبارطة العسكرية. والمثال الثالث هي دولة الاغنياء اللتى يسيطر فيها التجار واصحاب الثروات على السلطة. اما المثال الرابع فهو الدولة الديموقراطية اللتى كان افلاطون يراها نظاما سيئا!! لماذا؟ لانها تعنى سيطرة الاغلبية من طبقة العمال على السلطة. ومعنى ذلك ان الشهوات والغرائز ستكون عنوان هذه الدولة. حيث ان الحاكم سيحاول ان يتقرب الى شعبه عن طريق ارضاء شهواتهم ولكنه لن يتخذ القرارات السليمة. ثم ان الحاكم في النظام الديموقراطى صديق للشعب منافق لهم ولكنه لم يتم اعداده الاعداد اللازم لكي يشغل هذا المنصب.
ثم نصل الان الى مستوى الفرد فيري افلاطون ان الفرد هو نموذج مصغر للدولة. فالنفس البشرية تتكون من 3 اجزاء و العلاقة بين هذه الاجزاء تحدد السلوك العام للفرد. والجزء الاول في النفس البشرية هو الجزء الخاص بالحكمة والجزء الثانى خاص بالغضب والشجاعة و الاقدام والجزء الثالث خاص بالشهوات و الغرائز. وهذه الاجزاء الثلاثة تتنازع فيما بينها. فاحيانا يرغب الانسان في عمل اشياء مع انه يدري انها مضرة وفيها خسارة له. والفيلسوف هو من يجعل الجزء الخاص بالحكمة ينظم حياته ويرتبها فيعطى لكل جزء من نفسه نصيبا. والخصال الاربعة السابق ذكرها في الدول: الحكمة و الشجاعة و التحكم في النفس و العدل موجودة ايضا لدي الانسان. واهم هذه الخصال الخصلة الرابعة لانها تضمن تحقق الخصال الثلاثة الاولى وبصورة متناغمة. فكل جزء من اجزاء النفس البشرية مع تحقق العدالة يحصل على نصيبه كاملا. وبلا شكل فان هذا الانسان المتحققة فيه صفة العدالة يكون في قمة السعادة ومنسجما مع نفسه. وهنا يصل افلاطون الى النتيجة اللتى كان يبتغيها . فلقد توصل الى ان العدالة لها قيمة في ذاتها ولكنها تحقق ايضا للفرد السعادة والتوازن و الانسجام.
كان هذا عرضا سريعا لجمهورية افلاطون. واما اهم الانتقادات اللتى و جهت الى هذا العمل انه غير انساني خاصة ما يتعلق بقتل الاطفال المرضى و الضعفاء. كما ان برنامج افلاطون مملوء بالغش والخداع خاصة ما يتعلق بالخداع والنبيل وتزوير قرعة التزاوج. كما انه بنى فكرته على عالم الافكار اللذى لايؤمن بها كل الناس. وبدون هذه الفكرة تسقط كثير من نتائج افلاطون كازدراء الفن و طرد الفنانين من الجمهورية. كما تسقط بذلك ايضا حتمية ان الفلاسفة هم وحدهم من يصلحون للحكم و انهم اجدر من يكونوا ملوكا.
Pingback: Anonymous
i support this philosopher
صعبة التطبيق لا بل مستحيلة وحتى لو طبقت فقد شاهدنا نتائج الاشتراكية ومصيرها العالمي
انا احب افلاطون مع العلم انا ما كتبه يعتبر مثالي لا يمكن تطبيقه على ارض الواقع الى انه ممتع في اسلوب كتابته ولهو بعض النضاريات جميلة جدا
سقراط استاد افلاطون و افلاطون استاد ارسطو و نور انا احب الفلسفة و كل ما يتعلق بها بعتبارها ام العلوم