قبل قرن من الزمان تقريبا انتقلت البشرية من مرحلة الثورة الصناعية الى مرحلة ثورة المعلومات. ومصطلح ثورة المعلومات اللذى ظهر فى ثلاثينيات القرن الماضى هو مصلح أراد به أباؤه ان يشيروا الى السرعة الرهيبة اللتى أنتشر بها العلم والتكنولوجيا حتى صارا سمة عصرنا الحالي. وجميع الاطراف سواء كانت دولا او شركات أو أفراد تتبارى حتى تكون لها الريادة فى هذين المضمارين. بل وتصنع من مكتسباتها فى هذين الميدانين أسرارا تمنع الأطراف الأخرى من الوصول اليها.
انا لست متخصصا فى علم النفس لكن ربما يكون احد دوافع الانسان للبحث في اسرار الكون والطبيعة قابع خلف غريزته الاساسية فى البحث خلف الاسرار عموما. فالممنوع مرغوب! وسعي الانسان لهتك الاسرار المحجوبة ينقله كثيرا من المنطقة المحمودة الى مناطق غير قانونية وغير اخلاقية. فينقله ذلك من مناطق كشف اسرار الكون والطبيعة الي ميادين الهندسة العكسية فالتجسس التكنولوجي وربما الأقتصادي والأمني والعسكري وحتي الشخصي! وشبق الانسان الى المعلومات فى العصر الحديث تخطي كل الحدود حتى انه تخطى جمع المعلومات الى جمع البيانات Data اللتى لم تصل الى درجة المعلومات بعد. ومن وسط هذه البيانات الهائلة Big Data ينقب الانسان عن معلومات مفيدة كما يبحث الانسان فى التراب عن الذهب او اليورانيوم Data Mining.
ولا تتعجب من اين تستطيع شركة تبدو خدماتها مجانية كفيسبوك من ان تدفع مرتبات الاف الموظفين لديها. صحيح أن جزء من المال يأتى عن طريق الاعلانات. لكن الجزء الأكبر تدفعه انت عن طريق معلوماتك! اراؤك وأخبارك وتعليقاتك ورساؤلك وصورك وصداقاتك وعلاقاتك كل ذلك له ثمن حتى وان لم تدرك نفسك ذلك. فامتلاك المعلومات يمنح سلطة هائلة وهو ثروة فى حد ذاته. مبدأيا جمع معلومات حولك يسهل تصنيفك ضمن مجموعة انسانية معينة: عمرية او طائفية او دينية او اجتماعية او ثقافية او سياسية وهذا يجعلك هدفا سهلا لسهام الاعلانات الموجهة. مما يوفر ربح اكبر للمعلن وللمعلن له.
ولو انت دائم الشكوي من المرض فتلك معلومات تهم شركات التأمين الصحي. ولو انت دائم الشكوي من الصداع فتلك معلومات تهم صاحب عملك الجديد. وماتقوله عن شركتك يهم صاحب عملك الحالي. وماتنشره اثناء فترة دراستك وانت غير عابئ قد يكون له تأثيره على منحاك الوظيفى بعد ذلك. واذا اردت الحصول على قرض وقائمة اصدقائك تحتوى على اشخاص متعثرين فهذه معلومات تهم البنوك. اما التعاون بين خدمات التواصل الأجتماعي واجهزة المخابرات فهو امر تعدي مرحلة الشكوك فى عام 2010 عندما غادر ماكس كيلي مسئول امن المعلومات فى شركة فيسبوك الى عمل جديد لم يكن جوجل او ميكروسوفت ولكن في وكالة المخابرات الامريكية NSA .
وجمع المعلومات او بالاحرى التجسس بطريقة ممنهجة امر حرصت عليه دول اوروبا الكبيرة فى القرون الماضية. وربما بلغت الامبراطورية النمساوية فى ذلك شأوا عظيما. فقد كانت تمتلك اكفأ غرفة سوداء فى ذلك الزمن. والغرفة السوداء هو تعبير يطلق على اجهزة الأمن و المخابرات المختصة بتتبع الاتصالات و المراسلات وفك الشفرات. فقد كان البريد يذهب الى مقر المخابرات فى فيينا يوميا فى الساعة السابعة صباحا. وهناك يقوم الفنيون بفتح الخطابات بطريقة متقنة لاتفسد الختم المطبوع فوقها. ثم يتم فتح الرسائل ورصد ترتيب الاوراق فيها وتفريغ محتواها ثم اعادة الاوراق مرة اخرى بنفس ترتيبها وطريقة طيها الى المظاريف. وفى الساعة التاسعة والنصف تعود الرسائل الى مكتب البريد اللذى يقوم بتوصيل الرسائل الى السفارات الأجنبية فى تماما الساعة العاشرة صباحا. وكذلك كان يتم الامر بالنسبة لبريد منتصف النهار!
وهناك قصة تروى عن تلك الفترة ان رجلا كتب لصديقه أنه قد وضع برغوثا حيا فى المظروف حتى يختبر ان كان احد فض الرسالة ام لا! ولكنه فى حقيقة الأمر لم يكن فعل ذلك! لكن عندما وصلت الرسالة الى الصديق وفتحها تفاجأ ببرغوث يقفز فى وجهه! وهذه القصة توضع الكفاءة اللتى كانت تعمل بها الغرفة السوداء النمساوية!
وازدهر نشاط الغرف السوداء فى العصر الحديث فى كل الدول الغربية. بل وفى كل دول العالم. والاستثناء البسيط لهذا الامر كان فى عهد وزير الدولة الامريكي هنرى ستيمسون Henry L. Stimson اللذي كتب فى مذكراته ان الرجل النبيل لا يتجسس على رسائل اصدقائه: ”Gentlemen do not read each other’s mail.” . وكان يقصد بذلك التجسس على سفارات الدول الصديقة وأمر باغلاق الغرف السوداء. لكن عندما اصبح ستيمسون نفسه وزيرا للدفاع اثناء الحرب العالمية الثانية كان التجسس جزء لا يتجزء من العمليات العسكرية.
وتحاول الدول والمؤسسات وكثير من الافراد حماية اسرارهم عن طريق التشفير. وهناك قصة مؤثرة بالنسبة لي حدثت اثناء الحرب العالمية الثانية حاول بها الامريكيون حماية اتصالاتهم العسكرية الهامة.
فبعد ان اندلعت الحرب بين الولايات المتحدة الامريكية واليابان بعد واقعة بيرل هاربر وقامت حرب مرعبة بين الطرفين فى المحيط الباسيفيكي ونجح اليابانيون الى حد ما فى كسر شفرة الأتصالات الامريكية. خطر لمهندس امريكى اسمه فيليب جونستون Philip Johnston فكرة عجيبة جدا. فقد كان فيليب ابنا لمبشر دين مسيحى عاش وسط الهنود الحمر فترة من الزمن. وقد نشأ فيليب وسط أطفال الهنود الحمر وكان يلعب معهم وتعلم لغتهم. وكانت المنطقة اللتى نشأ فيها فيليب تابعة لولاية اريزونا فى جنوب غرب الولايات المتحدة الامريكية. وكانت تلك القبيلة من الهنود الحمر اللتى نشأ وسطهم فيليب تعرف بشعب النافاجو Navajo. وكان هذا الشعب له لغة خاصة جدا.
اول ما يميز هذه اللغة انها نادرة جدا لا يتحدث بها سوى افراد ذلك الشعب باستثناء 28 غريب على مستوي العالم. كلهم اما مبشرين او علماء انتربولوجى وليس فيهم يابانى او المانى واحد. اما هذه اللغة فهى ليست مكتوبة وصعبة جدا بحيث يستحيل على اى كبير فى العمر ان يتعلمها. فكل من يتكلمها لابد ان يكتسبها من مرحلة الطفولة. والغريب فى هذه اللغة انك لابد ان تنطق الكلمات بشكلها الصحيح والا اختلف معناها. كما يجب ان تهتم بنبرة صوتك اثناء الكلام لانها تجعل المعنى يختلف ايضا. كل هذه اشياء تجعل مهمة من يحاول ان يحلل هذه اللغة وهو ليس من متكلميها الأصليين فى غاية الصعوبة.
وحاول فيليب ان يقنع الادارة العسكرية الامريكية بان يستخدموا اهل هذه القبيلة فى الاتصالات العسكرية سواء الهاتفية او اللاسلكية. فاليابانيون لن يستطيع ان يفكوا شفرة هؤلاء القوم! وكانت فكرة فيليب لها رونقها. ومن ضمن مميزاتها ان رسالة عسكرية تقليدية مشفرة تحتاج فى العادة الى نصف ساعة لاتمام عملية التشفير فبث الرسالة ثم فك التشفير. اما تبادل الرسائل بلغة النافاجو فيحتاج الى 20 ثانية فقط. ورأي الجيش الامريكى ان الأمر يستحق المحاولة.
ذهب فيليب اولا الى كبراء شعب النافاجو ليقنعهم بقبول الفكرة وارسال بعض من ابنائهم الى الجيش الامريكي للقيام بهذه الدور. وكانت هذه مهمة عجيبة. فقد كان على هؤلاء الابناء المختارين ان يخوضوا دورات عكسرية اولا قبل ان يجازوا الى جبهات القتال. وفى هذه الدورات نشأت مصاعب شتى. وهذه المصاعب لم تنشأ بسبب التحديات البدنية اللتى واجهت محاربى النافاجو. بل هم كانوا افضل بدينا من قرنائهم الامريكيين. ولكن المصاعب نشأت نتيجة الاختلافات الحضارية والبيئية.
ثم كان على فيليب تطوير لغة النافاجو لتستوعب المصطلحات العسكرية. ففى لغتهم لم يعرفوا دبابة او طائرة. ولذلك قام فيليب بتوسيع مدلولات الالفاظ حتى تستوعب ذلك الامر. فأطلق سلحفاة على المدرعة وحوت على السفينة المحاربة والطنان على الطائرة. ثم تم تطوير اللغة حتى تستوعب حروف الهجاء. فبعض الكلمات المستخدمة فى حياتنا ليست كلمات كاملة ولكنها اختصارات بالأحرف الاولى كما فى FBI وشعب النافاجو لم يعرف حروف الهجاء. كما كان عليهم ايجاد طريقة للتعبير عن اسماء البلاد اللتى لا يعرفها النافاجو مثل اسبانيا او Spain . فقسموا الكلمة الى قسمين : القسم الأول هو الحرف S وبحثوا عن كلمة انجليزية تبدأ بهذا الحرف ككلمة الخرفان Sheep . اما القسم الثانى فكان كلمة pain وتعنى الم بالانجلزية . فكانت الكلمة المركبة Sheep Pain او الم الخرفان تعبر عن اسبانيا. وناهيك أن هذه كلمة حتى لابناء النافاجو انفسهم الغير المشاركين فى العمليات لا تعنى شيئ.
وتم اختيار 29 فرد من هذه القبيلة وتم تجربة شفرتهم ضد خبراء البحرية الامريكية اللذين عجزوا عن فك شفرة الرسائل المتبادلة. مما أعطي الضوء الاخضر لارسال هؤلاء الجنود الى الحرب العالمية الثانية. ووصل عدد هؤلاء الجنود فى نهاية الحرب الى 400 جندي.
والشئ المؤثر فى قصة أبناء النافاجو ان الادارة العسكرية الأمريكية ادركت اهمية هؤلاء الجنود. فقد كانوا اكوادا حية وادركت الأدارة اهمية الا يقع احد هؤلاء فى الأسر ابدا. فخصصا لهولاء الجنود حرسا خاصا ليس ليحميهم فقط بل ليقتلهم ايضا ان اقتضت الضرورة ! فهؤلاء لا ينبغى لهم ان يقعوا اسرى ابدا والا انفضح السر كله. لكن لم يمت احد من النافاجو عن طريق حراسه كما لم يتمكن اليابانيون من فك الشفرة النافاجوية العجيبة.
ومن المؤثر ان نري كيف ان شعب النافاجو وهم السكان الاصليين تحول الى وافد اجنبى على ارضه. وكيف ان لغته الاصلية كان يتم وأدها فكان يتم منع التلاميذ من هذه القبيلة من استخدام هذه اللغة حتى فى فناء المدرسة لتسهيل عملية اندماجهم فى المجتمع الامريكي. ثم كيف لعبت هذه اللغة تحديدا دورا فى انتصار المجتمع الامريكى فى الحرب العالمية الثانية!
وتمت مكافاءة شعب النافاجو بمنحهم حق الانتخاب فى عام 1948 . لكن بقى دورهم فى الحرب قرابة ربع قرن مجهولا. فقد كان ممنوعا وفقا لقانون امريكى التحدث فى خبايا عمليات المخابرات حتى بعد انقضاء الحرب. وفى عام 1968 انتهى هذا الحظر واصبح من حق النافاجو ان يتفاخروا بما انجزوه للولايات المتحدة الامريكية. وقد تم تكريمهم اكثر من مرة اخرها فى عام 2000 حين تم صنع ميدالية تكريم ذهبية خاصة بهم. وقامت هوليود بتجسيد دورهم فى الافلام السينمائية.
اذن البحث خلف الاسرار له دور كبير فى قيام ثورة المعلومات. فهو ليس فقط الغزيزة الاساسية لسعى الانسان لكشف المستور وليس فقط لانه اضاف للعلوم علما جديد وهو علم التشفير او ال Cryptography ولكن لسبب اخر اكثر مباشرة. فلا يخفى الدور الذى لعبه جهاز الكمبيوتر فى قيام ثورة المعلومات. لكن ما هى قصة جهاز الكمبيوتر؟ يكفى ان نتذكر ان مخترع جهاز الكمبيوتر الانجليزي الان تورينج Alan Turing صنع اول جهاز كمبيوتر معاصر لاجل هدف محدد:. وهو كسر جهاز الشفرة الالمانية اينجما ENIGMA فى الحرب العالمية الثانية!
هل هناك أي طريقة للحصول على تحديثات ؟؟ بصراحة عمل جميل جدا وأنا أريد أن أبقى على تواصل معكم وشكرا