لعب المفكرون و الفلاسفة دورا هاما فى عصر التنوير فى اوروبا. فلم تبق افكارهم حبيسة الكتب بل رأت النور احيانا في وقائع تاريخية فارقة أثرت فى حياتنا حتى اليوم. ولم تكن الفلسفة السياسية استثناء من هذا الامر. فقد صنعت القوة الناعمة لبعض الأطروحات الفلسفية حقائق معاصرة نعيشها اليوم.
ويشبه هذا الأمر ماحدث فى مرحلة زمنية لاحقة مع افكار ماركس وانجلز. فسواء اتفق المرء أو اختلف مع فكرة الشيوعية فقد صنعت واقعا تاريخيا قائما بيننا.
ومفهوم العقد الأجتماعى هو من الأفكار المميزة اللتى ظهرت فى عصر التنوير وبقت قائمة للأن. و العقد اجتماعى هو عقد افتراضى غير موجود فى صورة مادية بل هو أمانة يلتزم بحملها جميع افرد المجتمع. فهو اتفاق ضمنى بين كل افراد المجتمع يوضح العلاقة اللتى تربط اى مواطن باخر من جهة كما انه يرسم العلاقة بين المواطنيين والحكومات من جهة اخرى.
ويعتبر جان جاك روسو و توماس هوبز من ابرز فرسان فكرة العقود الاجتماعية. وان كان كل منهم تناول الموضوع من وجهة نظر مختلفة. ففى حين أن البند الاول فى عقد روسو هو تمكين الارادة الشعبية المستنيرة من امساك زمام الدولة كان الرقم الصعب عند هوبز هو الحكومة. مع ملاحظة ان هوبز رفض بشدة فكرة ان شرعية الحكومات هى منحة الهية وقال بل ان الشرعية هى منحة من الشعب. ولكنه كان فى الوقت نفسه يرى انه طالما اعطى الشعب الشرعية لحكومة فيكون هذا التزام ابدى لا انفصام له.
أما جون لوك John Locke ابو الليبرالية و الفيلسوف الانجليزى الشهير فكانت وجهة نظره فى المنتصف بين الرأيين السابقين. وهو أتى أيضا زمنيا بين الاثنين: بعد هوبز وقبل جان جاك روسو. وقد بدأ لوك حياته بدارسة الدين. ويمكننا أن نرى اثر تدينه واضحا فى فلسفته. وكان من المفروض ان يصبح رجل دين. ولكنه عزف عن هذه المهنة لانه لم تعجبه بعضا من مواقف رجال الدين فى زمانه ورأى فيهم كثيرا من النفاق. ودرس الطب وعمل مدرسا خاصا لدى العائلات الانجليزية الارستقراطية.
ويعتبر كتاب لوك: “اطروحتان حول الدولة” من اهم اعماله السياسية تأثيرا. حتى أنه بعد مائة سنة من كتابته تقريبا قد تجسدت افكاره فى اعلان الاستقلال الامريكى ثم في الدستور الامريكى بعد ذلك. وتجدر الاشارة ان لوك كان قد كتبه تحت اسم مستعار لأن محتواه كان جديرا ان يفضى به الى حبل المشنقة فى زمانه.
والكتاب يتكون من جزأين او اطروحتين. الاطروحة الاولى ليست هى الأهم ولم تشتهر كثيرا. وهى تفنيد لاراء مفكر انجليزى اخر وهو روبرت فيلمر. اللذى كان يرى ان الله قد أورث الأرض لأدم ابو البشر. وبعد موت ادم ورث الملوك هذا الحق عن ابيهم ادم. وبالتالى كان يرى ان طاعة الشعوب لحكامهم هى فى حقيقة الأمر طاعة غير مباشرة لارادة الله. وأى خروج عنهم يعتبر مروق من شرع الله. وفى الاطروحة الاولى يرد لوك على فيلمر ويفند حججه. ثم ينتقل فى القسم الثانى من الكتاب ليوضح من أين تأتى شرعية الحكام وهل هناك حدود لهذه الشرعية ام لا.
ينطلق لوك فى تجربة ذهنية ويفعل كما فعل هوبز وروسو ويحاول ان يتخيل شكل العالم قبل ان تقوم فيه دول او مجتمعات. انه مرة اخرى العالم البدائى الفطرى. ولكن عالم لوك ليس سيئا بالمطلق كما كان عند هوبز. بل فيه بعض النواحي الأيجابية. ففى هذا العالم كل الناس احرار لا فرق بين انسان وأخر. وكل انسان يفعل ماتمليه عليه ارادته هو. ولكن مع ذلك فان الناس ليست متحررة من كل القوانين. فهناك قوانين الفطرة. اللتى يحترمها كل انسان فى داخله. وقوانين الفطرة هى قوانين الله فى الدنيا وبقليل من التفكير المتجرد يستطيع الانسان ان يجد هذه القوانين الفطرية. فصحيح ان الانسان حر لكنه لا يستطيع الانتحار مثلا. ففطرته تمنعه من ذلك فهى ارادة الله اللتى تريد لكل البشر ان يكملوا حياتهم فوق الارض بصورة طبيعية. كما ان حرية الانسان لا تعنى انه يقتل غيره. لان الله خلق كل البشر متساويين ولذلك لا يجب النظر الى فريق اخر من البشر على انهم مجرد ادوات يمكن استغلالها.
ومن ضمن القوانين الفطرية الهامة مبدأ القصاص. فاى انسان يخالف القوانين الفطرية يجب الاقتصاص منه. وذلك لسببين: الاول هو طلب العدالة وجعله يدفع ثمن ما اخذ بخير حق اما السبب الثانى فهو ترهيبه وغيره من اقتراف الاعمال المخالفة للقانون. ويقول لوك ان من حق اى انسان توقيع القصاص فلايشترط ان يكون من يوقع القصاص هو المظلوم نفسه. فقد ارى انا ظلما يقع امامى فاتدخل للقصاص من الظالم بدون من ان كون طرفا مباشرا فى الموضوع.
اذن القصاص واسقاط الاحكام هى من أعمال الأحرار فى عالم الفطرة. وهنا تظهر اول صعوبة فربما يطلب منى ان اكون حكما بين طرفين متنازعين وقد يكون احد الطرفين جارا أو قريبا لى مما يعنى ان حكمى لن يكون عادلا. لان من الطبيعى ان ينحاز الانسان الى مصلحته او الى اقاربه. وهنا يأتى دول الدولة. حيث يقول لوك ان كل الافراد يتخلون طواعية عن جزء من حريتهم الفطرية في القصاص و اسقاط الحكام لصالح كيان جديد. وهو كيان الدولة. ففى حين ان الدولة عند جان جاك روسو هى ضفاف النهر اللذى يحفره النهر لنفسه خلال جريانه وفى حين ان الدولة عند هوبز هى الشرطي اللذى ينفذ الاحكام بالقوة. فان الدولة عند لوك هى القاضى اللذي يحكم بين المواطنين بالعدل.
ثم يخوض لوك فى فلسفة الأمتلاك. ويقر لوك بان الله قد أورث الارض بخيراتها للبشر جميعا. اذن هذه ملكية عامة. لكن ما اللذى يبرر الملكية الخاصة؟ يقول لوك ان اول انسان يمزج ارضا بعمله تصبح ملكا له. فالارض المزروعة ليست كالأرض البكر الخاوية. فطالما اتى أنسان الى ارض غير مملوكة وحصنها بعمل تصبح ملكا له. لكن لا يستطيع الانسان ان يستولى على أرض بغير عمل. وتجب مقاومته. كما ان الثمرات فى الغابة ملك للجميع. لكن اذا اتى انسان وبذل عملا ما. بان جمع الثمار فى أجولة تصبح ملكا له. لان هذه الثمار لم تعد ثمارا عادية لانه قد خلطها بعمله. لكن لا يمكن لانسان ان يصادر الثمار على الاشجار فى الغابة بدعوى انها حق له. فصاحب العمل هو صاحب الحق. و الأرض لمن يعمل فوقها. لكن لوك اضاف نقطة فى غاية الأهمية. وهي ان الانسان لا يجوز له ان يمتلك فوق حاجته. فانا اجمع الثمار لكى اكلها لكن لا يحق لى ان اجمع كمية هائلة من الثمار لا أستطيع ان استهلكها حتى تتلف. ومن يفعل ذلك فقد خالف القوانين الفطرية ويجب القصاص منه.
ثم يتحدث لوك عن فلسفة النقود و المال. ويقول انها تلعب دورا هاما فى حياة اي مجتمع لأنها سلعة لا تتلف سريعا وبالتالى يمكن تحويل السلع سريعة التلف الى اموال يمكن الاحتفاظ بها وكنزها حتى زمن لاحق نستطيع ان نصرف فيه الاموال اللى جمعناها فيه.
لكن النقطة الاخطر فى كتاب لوك واللتى بسببها كتب الكتاب تحت اسم مستعار و الا كانت تهمة الخيانة العظمى سوف تلاحقه. هي أستدراكه بان للحكام صحيح شرعية يجب احترامها لكن هذه الشرعية ليست مقدسة. فدور الدولة و الحكومة هى صيانة الحياة و الملكيات و الحرية. فاذا قصرت الدولة او لم تستطع توفير الحماية اللازمة لهذه الاشياء الثلاثة يمكن الخروج عن الدولة و اسقاطها.
وهناك بعض الانتقادات الموجهة الى فلسفة لوك . منها ان البعض يلومون عليه شدة توجهه الدينى ويقولون انه لم يوضح الكيفية اللتى يمكن ان يهتدى بها الانسان الى القوانين الفطرية. حيث زعم لوك ان قليل من التفكير المتجرد كافيا لكى يجعل الانسان ان يصل الى تلك القوانين. لكن الواقع يشهد تشرذم البشر بين مذاهب فكرية متنوعة بالرغم من زعم كل جهة ان تفكيرها منطقى ومتجرد. ثم ان هناك نقد اخر موجه الى لوك . يتهمه بانه كان يسعى الى اقرار الوضع القائم ولم يسع الى تغييره. وهو لم يسع الى تغيير الملكيات القائمة حتى انه المح باقراره بالعبودية بشكل غير مباشر. صحيح ان لوك قال صراحة ان كل البشر متساوون تماما ولا فرق بين انسان وأخر. لكنه قال فى موضع اخر. بان كل من يخلط قطعة ارض بمجهوده او بمجهود أقنانه تصبح ملكا له!