الصفر و الفن

قصة ولادة الصفر قصة مثيرة و تمثل تقاطع محاور عديدة فى الحياة. واول هذه المحاور هو محور التاريخ. فنشأة الصفر هى حدث تاريخى حصل وتطور فى وقت معين من الزمان ولذلك فهي من هذه الزاوية تنتمى الى ميدان التاريخ. وقد لمسنا فى مواضيع سابقة دور الحضارات الانسانية المختلفة فى تطور الاعداد وظهور الصفرخصوصا. ورأينا دور انسان العصر الحجرى ودور الحضارة المصرية القديمة والحضارة البابلية واليونانية و الرومانية و الهندية و العربية.

لكن فان الصفر ايضا يمثل ساحة هامة تقاطعت فيها محاور اخري كالدين والفلسفة والفن والرياضيات والفيزياء. واليوم سنتعرف على محور غير مشهورنسبيا وهو محور فن الرسم.

في الماضى لم يكن بوسع الرسامين رسم مناظير مجسمة تعطى احساسا بالبعد الثالث . وهذا امر طبيعى حيث ان لوحة الرسم نفسها ثنائية الابعاد ولا تحتوي على بعد ثالث. واول رسام  لفت الانتباه الى امكانية رسم صور تعطى المشاهد الاحساس بالبعد الثالث كان الايطالي فيليبو برونليسكي. وهو كان معماري ومهندس ورسام يعيش فى فلورنسا فى ايطاليا. وقد استطاع برونليسكي من رسم صورا رائعة استغل فيها تأثير الصفر على حواسنا وانه يشعرنا بعمق المنظور اللذى امامنا. فمامعنى ذلك تماما؟

نعلم ان جميع الاجسام اللتى نتعامل معها فى حياتنا هى ثلاثية الابعاد لها طول وعرض وعمق. فاذا تخيلنا اننا ضغطنا العمق حتى يصبح صفرا فاننا نحصل على سطح ثنائى الابعاد كورقة الكتاب فلها طول وعرض اما عمقها فهو عمليا غير مؤثر. واذا ضغطنا الورقة باتجاه عرضها نحصل على شكل هندسى اخر وهو الخط المستقيم. وله بعد واحد فقط وهو الطول . واذا ضغطنا الخط المستقيم ليصبح طوله صفرا فاننا نحصل على نقطة وهى شكل هندسى لا يحتوي على اي ابعاد. وهذا هو التعريف الهندسى الرسمى للنقطة.

هذا من جانب اما الجانب الاخر فيتعلق بكيفية رؤيتنا للأشياء. فلاجسام البعيدة تبدو اصغر من حقيقتها. فاذا كان الجسم متناهى فى البعد عنا او اننا نقول عنه انه يقع فى المالانهاية مجازا فانه يظهر صغيرا جدا كنقطة. وهذا هو سر رسم مناظير ثلاثية الابعاد. مثال اخرى اذا نظرنا الى شريط قطار طويل وممتد. نحن نعلم ان المسافة بين قضيبي القطار متساوية تماما والا لما تمكن القطار من السفر بسلام فوق شريط القطار. لكن على امتداد بصرنا يبدو قضيبا القطار وكأنهما يلتقيان بعيدا فى نقطة!

وكانت هذه الحيلة اللتى فطن اليها برونليسكي عندما رسم صورة لاحد الكنائس فى فلورنسا. فقام بصناعة ثقب صغير فى منتصف اللوحة . وهذا الثقب يعبر عن نقطة التلاشى او نقطة الهروب والمقصود بهذا التعبير هى نقطة على اللوحة تبدو وكأن جميع الاجسام الموجودة في المالانهاية واقعة عليها. ثم قام برونليسكي بحمل اللوحة باحدى يديه بحيث يكون ظهر اللوحة فى مقابلته تماما. ثم وقف امام الكنيسة اللتى يريد رسمها وينظر الى الكنيسة خلال الثقب الموجود فى منتصف اللوحة. ثم حمل برونليسكى على امتداد يده الاخرى مرأة.فاذا نظر برونلسكى الان من الثقب رأى المرأة واذا ازاح يده اللتى تحمل المرأة جانبا رأى الكنيسة.  واخذ برونلسكى يرسم الخطوط على لوحته بحيث تغطى صورة كل خط فى المرأة الخط الاصلى فى الواقع.

وكانت النتيجة مبهرة فالمنظور  الناتج كان يعطى احساسا بالعمق وبالثلاثة ابعاد. وكل الخطوط المتوازية تتلاقى فى نقطة الفرار. وهذا هو احد مبادئ  الاسقاط المركزي وهو احد ميادين الهندسة. وبهذا يكون الرسامون فى العصور الوسطى هم  اهم من ساهم فى صناعة وتطوير الهندسة الوصفية. ولذلك كن الرسامون القدماء يلمون باصول الرياضيات حتى ان ليوناردو دافنشى صاحب لوحة الموناليزا الشهيرة وهو من اهم الرسامين القدامى والحاليين وكان قد كتب العديد من الكتب لتعليم اصول الرسم وشرح قواعده كتب فى احد كتبه تحذيرا لكل من ليس له دراية بالرياضيات عليه ان يبتعد عن كتابه ولا يقرأة!!

وكان لهذه المناظير المجسمة للتى انجزها رسامو العصور الوسطى دورا هاما فى تثبيت وجود الصفر فى اوروبا. فقد كانت هذه الرسومات تشكل قوة ناعمة ساهمت فى افشال حركة الارتداد اللتى حاولت الكنيسة الغربية القيام بها بعد ذلك لحذف الصفر مرة اخرة من الوجود واعتباره رمزا للهرطقة.

فبعد التسامح الفكري النسبى اللذي كان سائدا فى القرنين الثالث عشر والخامس عشر وبعد التأثر بالعلماء والفلاسفة المسلمين تم التخلى عن التعصب لفلسفات ارسطو اللتى تعارض الدين واصبحت افكارمغايرة  كالصفرو المالانهاية مقبولة. بل حتى ان بعض الافكار اللتى كانت تبدو غريبة وشاذة جدا بان الارض ليست هى مركز الكون لم تكن تحارب تماما. لكن مع ظهور العقيدة البروتستانية وانفصال الملك هنرى الثامن بالكنيسة الانجليزية عن الكنيسة الكاثولكية و  تنصيب نفسه رأسا لها فى القرن السادس عشر. شعرت الكنيسة الكاثولكية بالخطر وتخلت عن سياسة التسامح الفكري و رفضت كل الافكار الجديدة وعادت الى سياسة التشدد فى التمسك بكل الافكار القديمة وعاد الصفر مرة اخرى رمزا للهرطقة. وتم انشاء محاكم التفتيش وكان مصير صاحب الافكار المعاكسة القتل و لكتبه الحرق والمنع.

لكن مع ذلك فقد كان فات الاوان لكل ذلك. فقد كان الصفر وصل اوربا  بالفعل وادركت فائدته الناس. وكانت اللوحات الفنية تمثل بقوتها الناعمة نقضا لكل ما تقوله الكنيسة فهذا هو الصفر والمالانهاية وهما محرمات كبرى من وجهة نظر رجال الدين متحدان فى نقطة الهروب او التلاشى على كل اللوحات الفنية الرائعة اللتى تغطى جدران الكنائس نفسها. كما ان تطور علم الفلك جعل ان فكرة الارض ليست هي مركز الكون وان جميع الكواكب تدور حول الشمس فكرة لا يمكن التخلى عنها بسهولة. صحيح ان الانسان يستطيع ان يصل الى نفس النتائج الفلكية عندما يفترض ان الارض هى مركز الكون. ولكنه فى هذه الحالة يحتاج الى صنع حسابات معقدة واستخدام جداول طويلة عديدة. بينما عندما يفترض الانسان نموذج مركزية الشمس يصل الى نفس النتائج ولكن بسهولة بالغة. فاى صاحب عقل رشيد لن يضحى بسهولة الحسابات مقابل التعقيد الشديد ليصل لنفس النتيجة فى النهاية .  الخلاصة ان عجلة العلم و التطور كانت  قد سارت الى الامام ولم يعد هناك سبيل لايقافها !!

One thought on “الصفر و الفن

Leave a Reply