الثورة الالمانية عام 1848

شهدت المانيا في العام 1846 ظروفا مناخية صعبة وادي ذلك الى فساد المحصول الزراعى في ذلك العام. وكانت هذه ضربة قاسية بالنسبة للفلاحين. وفى العام التالى ونتيجة لندرة المواد الغذائية فقد ارتفع سعرها بشكل ضخم مما اضعف القدرة الشرائية لدي المواطنين فكسدت بالتالى الصناعة وطردت المصانع الكثير من العمال اللذين اصبحوا بلا اي مصدر رزق. وكانت الحالة الاقتصادية بالنسبة للطبقة الفقيرة لاتحتمل. وكان الوضع الاقتصادي المتردي من العوامل المهمة اللتى ادت الى ثورة 1848 في المانيا.

ولكن لم يكن الفقر و الحالة الاقتصادية السيئة  وحدهما هما السببان الرئيسان لقيام ثورة 1848 . بل ان الطبقة الغنية ورجال الصناعة كانوا مستائين بدورهم من الوضع السياسي العام. فالمانيا كانت مقسمة الى امارات وممالك ودوقيات لكل منها حاكم. ولم تكن التجارة بين هذه الممالك ممكنة بدون دفع الضرائب والجمارك والمكوس. فكان رجال الصناعة يريدون دولة المانية موحدة تسقط فيها كل تلك الحواجز و الحدود. واذا راعينا عوامل اخرى كوحدة اللغة والعرق والتاريخ والجغرافيا فان كل هذه العوامل كانت تدعم وحدة المانيا و  توضح ان عدم وحدتها  هو ضرب من ضروب العبث.

وكان شكل الاتحاد المطلوب في ذلك الوقت هو الشكل الفيدرالى كما هو الوضع اليوم. فكل منطقة او اقليم ستبقى متمتعة بنظامها الداخلى الخاص ولكن مع ذلك فانه يجب ان يكون هناك سقف عام يغطي كل تلك الممالك بحيث تبدو للعالم الخارجي وكأنها دولة واحدة. وفي الحقيقة فان التجربة الفيدرالية متوغلة في تاريخ المانيا. واذا راعينا بجانب ذلك ان الالمان لا يتبعون نفس العقيدة المسيحية فجزء منهم كاثوليكي والجزء المتبقى  بروتستانتي وقد خاضوا فيما بينهم حروبا دينية ضارية ادت الى ادراكهم انهم في النهاية المان وانهم يجب ان يتعايشوا فيما بينهم بالرغم من اختلافاتهم العقائدية.

وفى ظل هذه الاجواء المتوترة قام الفرنسيون بعمل ثورتهم الثالثة في شهر فبراير عام  1848 واعلنوا قيام جمهوريتهم الثانية وكان لهذا الحدث تأثير بالغ على الالمان. فكانت البداية في 1 مارس سنة 1848 في مملكة بادن في الجزء الجنوبي الغربى من المانيا و اللتى تملك حدودا مشتركة مع فرنسا . وكانت هذه المملكة متطورة سياسيا ومتقدمة عن باقى الممالك الالمانية الاخرى في ميدان الحريات العامة. فثار الناس اولا في مدينة مانهايم وانتقلت الثورة سريعا الى مدينة هايدلبرج ثم مدينة كارلسروه عاصمة المملكة في ذلك الوقت. ومن ثم انتشرت المظاهرات في كافة الممالك الالمانية الاخري. وكان للمتظاهرين 4 مطالب رئيسة:

1 كتابة دستور المانى لاول مرة وتوحيد المانيا تحت هذا الدستور
2 تسليح الشعب حتى لايكون فريسة سهلة لجبروت الحكام اللذين يملكون القوة العسكرية ويحركون الجيوش
3 حرية الصحافة
4 نظام قضائى عادل. يتساوي فيه الجميع امام القضاء

وفي فترة وجيزة اقل من 3 اسابيع رضخ كل الملوك لطلبات الثوار ولم يستتطيعوا ان يصمدوا امام ارادة الشعب. وفي بعض الاماكن استجاب الحكام دون اندلاع اى احداث عنف كما كان الحال في مملكة بادن. ولكن في حالات اخرى لم يقبل الملوك الا بعد وقوع قتلى كما كان الحال في مملكة بروسيا وعاصمتها برلين وهناك اجبر الملك على الظهور امام جثث القتلى في الساحة الملكية وان يخلع قبعته احتراما للشهداء.

ويرجع انتصار الثورة السريع في البداية الى3 اسباب: اولا ان كل قوي الشعب كانت متوحدة خلف نفس المطالب والاهداف.و ثانيا الطابع الاوربي  لهذه الثورات. فهذه الثورة لم تكن ثورة المانية فحسب ولكنها اندلعت في اطار سلسلة ثورات شملت معظم الدول الاوروبية في نفس الوقت. ثالثا هو شعور الملوك والحكام ومن يقف بجوارهم بالضعف وقلة الحيلة امام هذه الثورات الخاطفة فلم يكن هناك بد سوى التسليم حتى ولو كان بدافع المناورة و كسب الوقت.

ولكن يلاحظ ان في كل تلك الثورات لم يكن مركز الملوك مهددا كما كان الحال في الثورة الفرنسية. بل ان الشعب كان يريد اصلاحا ثوريا سياسيا واجتماعيا تحت حكم هؤلاء الملوك. وكانت النتيجة المباشرة لهذه الثورات ان اقال الملوك حكوماتهم وعينوا حكومات جديدة تحت رئاسة الثوار ذوي الاتجاه الليبرالى. كما انه تم تشكيل برلمان مؤقت في مدينة فرانكفورت في كنيسة باول الشهيرة اللذي اتخذ العديد من القرارات. ومن اهم هذه القرارات الاعلان عن انتخابات لتشكيل برلمان نهائى يضع دستور للدولة الالمانية الموحدة. وبالفعل تشكل برلمان وطنى منتخب لاول مرة في تاريخ المانيا وكان يغلب عليه الاتجاه الليبرالى.

كان انتصار الثورة ساحقا وخصوصا انتصار الاتجاه الليبرالى اللذى صار اليه الحكم باغلبية مريحة. ولكن سرعان ما بدأت المشاكل. فقد ظهر الانقسام بين الليبراليين ومن هم سواهم من يساريين و جمهوريين. وكانت الخلافات تشمل تقريبا كل النقاط اللتى قامت من اجلها الثورة وخصوصا نقطة تسليح الشعب. فقد كان الجموريون واليساريون يريدون تسليح كل الشعب دون تمييز. اما الليبراليون فكانوا يريدون تسليح طبقة مميزة من الشعب فقط. اما بالنسبة للعدالة الاجتماعية كان الليبراليون يريدون تحرير الاقتصاد وتطبيق اقتصاديات السوق الحر ولا يدور بخلدهم اى افكار اشتراكية كاللتى ينادي بها الفريق الاخر. وحتى بالنسبة لنظام الانتخابات كان الجمهوريون واليساريون يريدون ان يكتسب كل الشعب حق الانتخاب دون تمييز. بينما كان الليبراليون يرون توسيع حق الانتخاب دون تعميمه. فالمواطن كامل الحقوق لابد و ان يكون نخبويا او على الاقل يمتلك حد ادنى من التعليم والثقافة والتمدن. كما انه لابد وان يملك دخلا محترما يضمن له العفاف. حتى على مستوية وحدة المانيا  فقد اختلف الالمان بين المانيا الكبرى اللتى تضم النمسا و المانيا الصغرى اللتى لاتكون النمسا جزئا منها.

ولم يكد يمر شهران حتى شعرت القوى الاشتراكية بانها لم تحقق اى شئ وان الثورة تسير على غير هواها. فحصلت اظطرابات ومظاهرات عديدة وظهرت دعوات لعمل ثورة ثانية. وحصل هجوم للعامة على مخزن اسلحة الملك في برلين من اجل الحصول على اسلحة لتسليح الشعب وتم اطلاق النار على الثوار وقتل عدد كبير منهم. حتى في مملكة بادن الالمانية مهد الثورة حصلت اضطرابات ومصادمات في شهر ابريل واطلق الليبراليون اللذين اصبحوا في الحكم النار على شركاء الاسابيع الماضية وسقط قتلى وجرحي.

وفي شهر يونيو تم قمع الثوار في فرنسا وكانت هذه رسالة قوية الى الملوك وقوى الثورة المضادة في المانيا بالتشجع وعدم الرضوخ مرة اخري والضرب بيد من حديد حتى تعود الامور الى سابق عهدها. وفي شهر سبتمبر حدث حادث جلل حيث هاجم الثوار البرلمان الالمانى. وسبب هذه القصة يرجع الى ثورة  سكان مملكتي شليزفيج و هولشتاين  الالمانيتين مطالبين بالاستقلال  في شهر ابريل. وكانت هاتان المملكتان متنازع عليهما بين الدنمارك والمانيا فارسل ملك الدنمارك جيشه على الفور لقمع تلك الثورة. وهنا تدخل ملك بروسيا على الجانب الاخر لحماية الثائرين الالمان. واستمرت الحرب بينهما حتى شهر اغسطس حيث توصل الطرفان الى معاهدة تقضى بوقف اطلاق النار. ولم يكن امام البرلمان  الالماني في فرانكفورت حيلة سوى ان يقر هذه المعاهدة فهو لم يكن يملك سلطانا على ملك بروسيا او على اى جيوش اخرى. وهنا ثارث ثائرة الثائرين و اعتبروا ان النواب  اللذين وافقوا على هذه المعاهدة قد خانوا الامة الالمانية وحاصروا مبنى البرلمان. وخشى المجتمعون في مبنى البرلمان على انفسهم فطلبوا سرا النجدة من ملكي بروسيا والنمسا اللذين ارسلا جيوشهما الى فرانكفورت. وهنا تفاجأ المتظاهرون بهذين الجيشين فاقتحموا البرلمان وقتلوا نائبين كانوا موجودين فيه. وكان هذا الموقف علامة واضحة بان الثورة الالمانية  تحتضر.

وهنا استشعر الجميع الخطر فعاد الجميع على اختلاف تياراتهم وتوحدوا وعملوا سويا من اجل عمل دستور يحقق الحد الادنى من تطلعات الجميع. وبالفعل نجح البرلمانيون بعد سنة من قيام الثورة  من الانتصار على انفسهم وانجاز اول دستور لالمانيا يقضي بانشاء دولة المانية موحدة تحت قيادة ملك بروسيا. وتقدم البرلمان بالدستور الى ملك بروسيا  في شهر ابريل سنة 1849 لكن المفاجأة ان ملك بروسيا رفض الدستور. فقد رفض ان يكون ملك بفضل من البرلمانيين و الدستور. وهو كانت له مشاريعه الخاصة بالنسبة لبروسيا وكان يريد ان يصبح قيصرا لالمانيا لكن على طريقته هو.

وهنا اصيبت الثورة بضربة قاتلة فالمشروع اللذي عمل القانونيون و البرلمانيون على انجازه رفضه ملك بروسيا بمنتهى السهولة. وحاول البعض اقناع ملك بروسيا على ان يعدل عن موقفه بينما حاول البعض الاخر اعمال الدستور بالقوة واعلان جمهوريات وممالك من جانب واحد . فقامت فى ولاية سكسونيا ثورة عارمة وتم اعلان جمهورية هناك الان ان ملك بروسيا توجه بجيشه وقضى على تلك الحركة. كما انه في شهر يوليو قامت في ولاية بادن حركة مشابهة وتم اعلان الجمهورية من مدينة راشتات الا ان ملك بروسيا توجه بجيشه ايضا واخمد تلك الحركة هناك. وكما بدأت الثورة من ولاية بادن فانها انتهت ايضا هناك.

ويرجع فشل الثورة الالمانية بصفة خاصة الى تشرزم الثوار بعد نجاحهم الابتدائى . فقد كان الليبراليون المعتدلون محاصرون بين قوى الثورة المضادة من ناحية وبين تطرف اليساريين و الثوار الجمهوريين الراديكاليين من ناحية اخرى. وليس معنى هذا ان الليبراليين المعتدلين كانوا ضحايا وانهم لا يتحملون قسطا من المسئولية. بل انهم يتحملون نصيبا ضخما بسبب عدم مرونتهم وعدم قدرتهم على التعامل مع الواقع القائم.

 

Leave a Reply