في عام 1848 اندلعت في قارة اوروبا ثورات شعبية هائلة. و اطلق المؤرخون على هذه الثورات اسم ثورات ربيع الشعوب. وقد كانت هذه الثورات تحمل اهدافا نبيلة و قامت بها الشعوب الاوروبية لانها لم تكن راضية عن الوضع العام في ذلك الوقت. فقد اصابت الدول الاوروبية في تلك الفترة حالة من الجمود السياسى و الاجتماعى بينما مرحلة الثورة الصناعية كانت قد بدأت بالفعل. وقد شملت هذه الثورات 50 بلدا مختلفا دون تنسيق ما بينها. فقد انتشرت الثورات في هذه البلاد كما تنتشر النار في الهشيم من فرنسا الى المانيا الى المجر الى الدنمارك الى بولندا حتى ان روح هذه الثورة قد وصلت الى البرازيل في العالم الجديد.
وحقق الثوار في بداية الامر نجاحات ساحقة واستطاعوا في معظم الاحوال الامساك بزمام الامور. ولكن لم يكد عام 1849 ان ينصرم الا وقد استعادت قوى النظام القديم والثورة المضادة سلطانها مرة اخرى وتمكنت من بسط نفوذها بالكامل على أرجاء البلاد وكأن امرا لم يكن.
واذا اردنا ان نستعرض تاريخ تلك الثورات فلابد ان تكون حكمتنا ابحث عن فرنسا! فهناك مثل اوروبي يقول اذا عطست فرنسا فان اوروبا تصاب بنزلة برد. فاول بلد قامت به ثورة شعبية في التاريخ كان فرنسا وكانت دائما هي السباقة في صنع الثورات و الاحداث الجسام. والمفاجئ في ثورات 1848 ان شرارة البدء في هذه المرة لم تنطلق من فرنسا ولكنها انطلقت من بلد صغير جدا وهو جزيرة صقلية الايطالية حين استطاعت في يناير عام 1848 القيام بثورة على حكم اسرة البوربون واسست دولة استمرت 16 شهرا ووضعت خلالها دستورا رائعا. وكان لما فعله الصقليون تأثير بالغ على الفرنسيين اللذين شعروا بالحماسة و الغيرة من ان الصقليين سبقوهم فقام الفرنسيون بثورتهم الثالثة في فبراير عام 1848 و طبعا كان الفرنسيون قد قاموا بصنع ثورتين قبل ذلك في اعوام 1789 و 1830. وعندما سقط حجر الدومينو الفرنسى الثقيل تتابعت احجار الدومينو الاوربية في السقوط. واليوم سنتعرض باختصار للثورات الاوربية في عامى 1848 و 1849 وفي المرتين القادمتين سنحاول التعرف بشىئ من التفصيل على حالتى فرنسا و المانيا خصوصا.
وفي البداية احب ان استعرض الخريطة السياسية الاوروبية و الوضع العام في عام 1848 من وجهة نظر كل من الملوك والحكام الاوروبيين من طرف و الشعوب نفسها من الطرف الاخر. فمن ناحية الحكام والملوك نجد ان حدوث الثورة الفرنسية الاولى في عام 1789 قد غير الكثير من الاوضاع القائمة. فالفرنسيون قد تمكنوا من انشاء جمهوريتهم الاولي بعد الاطاحة بملكهم واعدامه بعد ذلك . الا ان الثورة الفرنسية قد تخبطت في مسارها وانتهى بها الحال بعد 10 سنوات بان قام نابليون بونابرت بتنصيب نفسه امبراطورا على فرنسا فاصبح لفرنسا امبراطوارا بعد ان كان لديها ملك. ولكن مع ذلك اجبر الوضع الجديد الملوك الاوربيين على القيام ببعض الاصلاحات في ممالكهم خوفا من قيام ثورات مشابهة للثورة الفرنسية في بلادهم وعلى طريقة بيدي لا بيد عمرو. ولكن بعد مرور السنوات وهدوء الوضع قليلا حاول الملوك الاوربيون بشتى الطرق اعادة الوضع القديم مرة اخرى. ففى عام 1815 قام حكام روسيا و النمسا وبروسيا بانشاء ما يعرف باسم الحلف المقدس اللذي يهدف الى اعادة نظم الحكم الشمولية السلطوية اللتى كانت قائمة قبل الثورة الفرنسية مرة اخري و اتففوا على ابراز ان حكم هؤلاء الملوك حقا الهيا لايمكن منازعته. وقد انضمت فرنسا نفسها الى هذا التحالف في عام 1818. وكان هؤلاء الملوك يهدفون من ضمن ما يهدفون اليه اعادة النظام الاقطاعى القديم وتقسيم المجتمع الى 3 طبقات غير متساوية في الحقوق مرة اخري. وكانت ابرز الاسر الحاكمة هي اسرة البوربون الحاكمة في اسبانيا واجزاء اخري من اوروبا كصقلية ثم كانت هناك اسرة الهابسبورج النمساوية اللتى كانت تحكم النمسا و المجر واجزاء من المانيا واوروبا الشرقية. ثم كانت هناك قوة عسكرية صاعدة لايستهان بها في برلين في مملكة بروسيا الالمانية. وهذه الاسر هي محور احداث موضوع اليوم. بالطبع كانت هناك في اوروبا قوي اخرى كروسيا و انجلترا و الدولة العثمانية لكن هذه الدول لم تتأثر بثورات 1848 ولذلك فهى لا تعنينا اليوم.
اما بالنسبة للشعوب فعلى اختلاف طبقاتها فانها كانت رافضة للاوضاع القائمة في ذلك الزمان. فهذا العهد كان بداية الثورة الصناعية. وظهرت طبقة من رجال الاعمال البرجوازيين اصحاب الثروات الضخمة اللذين لم يكونوا من النبلاء وضاقهم استئثار الطبقة السياسية الحاكمة بالامر دون اعطاء فرصة لسواهم في المشاركة في الامر. كما ان اقكار الكتاب التنويريين كانت منتشرة وكان من المستحيل اخلاقيا الدفاع عن النظام الاقطاعى البغيض اللذي يقوم على أن سيد يملك فدادين واسعة من الاراضي يعيش عليها فلاحون يقضون طوال حياتهم في دفع الاتاوات والضرائب لصاحب هذه الارض. كان ايقاع الثورة الصناعية سريعا بينما كانت هذه المجتمعات قد اصابها الجمود. كانت الشعوب تريد دستورا ينظم حياتها و لايجعل الحكام يستبدون بالامر. فلييقى هؤلاء الملوك ولكن على الاقل يجب انشاء ملكيات دستورية وانتاج دستور ينظم العلاقات الحاكمة بين الاطراف المختلفة. كانت الشعوب تريد ان تشارك في الحياة السياسية و كانت تريد ان تحصل على حق الانتخاب و التصويت من اجل اختيار ممثلين عنهم يدافعون عن مصالحهم. كانت الافكار الاشتراكية وافكار العدالة الاجتماعية تداعب خيال الكثيرين. كما كانت الشعوب تريد حكما اكثر ليبرالية تكون فيه حرية الصحافة وحرية التعبير مكفولة. كانوا يريدون للرقابة ان تنتهى وكانوا يريدون تقليلا لسلطات الدولة و الكنيسة وتوسيعا لحريات الافراد. كما كانت هناك الكثير من القوميات و الشعوب اللتى تريد الوحدة او الاستقلال. فالالمان كانوا مبعثرين في ممالك متعددة وكانوا يريدون انشاء وطنا يجمعهم وكذلك كان الايطاليون اللذين كانوا محتلين من قبل النمسا وكذلك كانت المجر وبولندا ورومانيا والتشيك.
ونضيف الى ذلك ان الاعوام السابقة شهدث ازمة اقتصادية خانقة. فبسبب الظروف الجوية السيئة فسد المحصول وندرت المواد الغذائية واصبحت باهظة الثمن. وكان العامل يعمل 15 ساعة يوميا ويصرف نصف دخله على الغذاء اللذي كان عبارة عن خبز وبطاطس. وكانت نسبة المتعطلين عن العمل عالية. باختصار كان الوضع لا يحتمل والتذمر بلغ مداه.
وفي يناير في عام 1848 وكما قلنا من قبل استطاع الصقليون انتزاع استقلالهم و اعلان دولتهم. وفي الشهر التالى قام الفرنسيون بثورتهم و اعلنوا الجمهورية الفرنسية الثانية واختارو لويس بونابرت ابن اخو نابليون بونابرت حاكما للبلاد. ثم في الشهر اللذي يليه شهر مارس قام الالمان اللذين كانوا يريدون انشاء دولة تجمعهم بعمل ثورتهم فتجمعوا في البرلمان في فرانكفورت ليعلنوا عن مشروعهم لوحدة المانيا. وفي اسابيع قليلة عمت الثورة ارجاء البلاد ورضخ جميع الملوك فلم يكن هناك اي بديل اخر سوى قبول طلبات الشعوب. وفي مملكة بروسيا هرب قائد الجيش البروسى المتعجرف واللذي كان اخا لملك بروسيا خارج البلاد. واضطر ملك بروسيا لاعلان موافقته على طلبات الثوار اللذين كانوا يطالبون بعمل دستور ينظم الحياة في دولة ملكية دستورية. وكذلك كان الحال في النمسا فبعد ايام قليلة من اندلاع الثورة في فيينا هرب الملك من العاصمة فيينا كما هرب ميترنخ المستشار الحديدي الى خارج البلاد. فلم يكن هناك من سبيل لايقاف هذا الطوفان الشعبى الجارف وكذلك كان الحال في المجر وبولندا والدنمارك وبلاد التشيك. فقد كانت معظم بلاد قارة اوروبا في حالة ثورة نثتثني من ذلك انجلترا و روسيا واسبانيا وبلجيكا والدولة العثمانية.
ولكن هذا الانتصار الثوري لم يستمر طويلا. فالحقيقة ان الملوك عندما قبلوا بطلبات الثوار انما كان هذا لكسب الوقت وتنظيم الصفوف والتخطيط لفعل ما. فقد اخذوا في اثارة النعرات القومية عند الاقليات وخصوصا في البلاد اللتى تحتوي على اعراق مختلفة كما في حالة المجر. كما ان القوة العسكرية حافظت على ولائها للملوك ورفضت النظام الجديد. كما ان الثوار لم تكن عندهم قوة عسكرية يدافعون بها عن انفسهم خصوصا عندما يتعرضون لغزو خارجي. وهكذا انهار الحلم الالمانى عندما احتلت جيوش الدنمارك بعض الاراضى الالمانية ورفض ملك بروسيا التدخل لحماية هذه الاراضى. فادرك المثقفون والمفكرون والاساتذة المجتمعين في البرلمان في فرانكفورت انهم لاحول لهم ولا قوة. كما ان الثوار انفسهم يتحملون قسطا كبيرا من مسئولية فشل ثورتهم. فقد كانوا فى البداية متوحدين ومجتمعين على نفس الاهداف على الرغم من الاختلاف فيما بينهم في الايدولوجيات والرؤى. الاانهم عندما شعروا بانتصارهم في البداية اختلفوا وتناحروا وانقسموا الى ليبراليين ويساريين فخسروا جميعا. وادركوا ذلك فى النهاية فعادوا ووحدوا صفوفهم واتفقوا على نفس الاهداف لكن كان ذلك بعد فوات الاوان.
في عام 1849 استعادت اسرة البوربون الحكم في صقلية مرة اخرى. ثم قام لويس بونابرت بالانقلاب على الثورة واعلن نفسه امبراطورا جديدا لفرنسا. كما انهار الحلم الالمانى في توحيد المانيا في دولة حديثة. ولكن تمت الوحدة بعد ذلك بعد فترة قصيرة ولكن ليس عن طريق افكار المفكرين و المثقفين ولكن عن طريق بسمارك مستشار مملكة بروسيا وبسياسة الحديد والنار. وانهارت القوات المجرية اخر معاقل الثورة الباقية امام القوات النمساوية.
وكانت نتيجة الثورات وقوع عدد كبير من القتلى والجرحى وقامت حروب اهلية في عدد من البلاد. بل حروب دولية بين دول وبعضها. وتم اعدام كثير من الثوار وفر عدد كبير منهم الى خارج البلاد وخصوصا الى الولايات المتحدة الامريكية. وكان يطلق على هذا الفوج الضخم من النازخين مهاجرين 48 . ومن اشهر الفارين كارل ماركس الالمانى مؤسس الشيوعية اللذي حصل على لجوء وعاش في انجلترا حتى مات هناك. ولكن على الجانب الاخر كانت لهذه الثورات انجازاتها. فهي كانت علامة فارقة في التاريخ الاوروبى. صحيح انها كانت معركة خاسرة الا انها لم تكن نهاية الحرب. فهي كانت رسالة واضحة ان التغيير قادم ولو بعد حين. ومن رمزيات تلك المرحلة ان العلم الالمانى الحالي بالوانه الاحمر و الاسود و الذهبي كان هو علم الثوار الالمان في تلك المرحلة.
http://www.youtube.com/watch?v=rVbdoTgeHqA
رغم ان السرد التاريخي للوقائع مطابق نسبيا لال ان الكاتب اضاف اليها اسقاط علي الواقع العربي الحالي بما افقدها الحيدة المطلوبة في السرد التاريخي لا استريح لهذه المساجلة فقد كانت ضعيفة
احترم رأيك جدا يا استاذ محمد. لكنى لم اتعمد الاسقاط على الواقع العربى. فاذا كانت المعطيات تتشابه فلا ذنب لى فى ذلك. وعموما فهدفى هو ان اعطى فقط البدايات وعلى القارئ المهتم ان يتابع بعد ذلك التحري والبحث فى الموضوع بنفسه. فالمساحة المكانية لا تسمح لى باكثر من ذلك
مقال رائع وتمثيل واقعي للحكم الشمولي
والمعاناة التي بذلها الاوربيين للوصول للديموقراطية